الرهانات الكبرى لقضية إدماج الأساتذة المتعاقدين في الجزائر


رابح لونيسي
2016 / 4 / 10 - 22:15     

الرهانات الكبرى
لقضية إدماج الأساتذة المتعاقدين في الجزائر


راسلتني مجموعة من طلبتي الجامعيين القدماء المنتشرين في عدة بقاع من الجزائر، ويعملون كأساتذة متعاقدين منذ عدة سنوات، وتم رفض إدماجهم رغم توفر كل الشروط فيهم مثلهم مثل الكثير، وطلبوا مني الكتابة في موضوع هؤلاء الذين يقومون بحركة مطلبية قوية في الجزائر ومضربين عن الطعام في مدينة بودواو بعد ما رفضت السلطات دخولهم العاصمة لإيصال مطالبهم بعد مسيرة طويلة على الأقدام، أنطلقت من مدينة بجاية في منطقة القبائل نحو العاصمة، ويعود طلب هذه المجموعة من الطلبة إلى الأمال في إيصال صوتهم، وللثقة التي وضعوها في شخصي ومعرفتهم بمدى دفاعي عن المستضعفين وشدة إيماني بقيم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية.
لكن قلت لهم من سينشر لي في الجزائر مقالة حساسة في موضوع، سأكشف فيه لعبة كبيرة تتم منذ بدايات الألفية الثالثة ضد الشعب الجزائري ومكتسباته الإجتماعية، وأن اغلب وسائل الإعلام في الجزائر، ومنها الصحف، خاصة المعربة منها، فهي منشغلة بالدفاع عن الذين أستولوا على حاضر ومستقبل شعبنا وتبرير فسادهم، إضافة إلى لعبها دورا كبيرا في تخدير الشعب بقضايا دينية هامشية وعقيمة، فيروجون للشيخ الخليجي فلان أو علان ، أو لدرويش تخصص في محاربة الجن الذي غزا وطننا الجزائر منذ الثمانينيات بعد ظهور البترودولار الخليجي الذي أرتبطت به تيارات أيديولوجية دينية معروفة بتحالفها مع طبقة الكمبرادور - أي المستوردين المرتبطين بالرأسمالية العالمية-.
وقلت لهم من سينشر ما أقوله، وأنا سأستند في قراءتي للمسألة على كارل ماركس الذي تعلمت منه آليات الإستغلال الرأسمالي، والتي تطبق بحذافيرها في بلادنا اليوم، وبأنه يستحيل علينا فهم هذه الآليات دون الإستناد على المنهج الماركسي الذي تم تغييبه كمنهج علمي للتحليل والفهم منذ التسعينيات، مما سمح للإستغلاليين تمرير مشاريعهم الإستغلالية دون أن تعي الطبقات المستضعفة ما يدبر لها، بل كثيرا ما تصفق لمشاريع مغطاة بالدين، لكنها تحمل سما قاتلا لمستقبلها ومستقبل ابنائها وأوطانها.
أستغرب طلبتي عندما قلت لهم أن معركة بودواو حول إدماج الأساتذة المتعاقدين هي في الحقيقة معركة مصيرية تخص كل الشعب الجزائري، لكنه غير واع بذلك، وبأنها قضية ليست بيد وزيرة التربية والتعليم نورية بن غبريط، بل هي في أيدي رجال مال وطبقة إستغلالية أستولت على دواليب السلطة، فهذه القضية ممكن أنها توظف ضد بن غبريط ذاتها التي تتعرض اليوم لأشنع الهجمات من تيارات أيديولوجية ساهمت بدور كبير في تخدير هذا الشعب، وتخشى هذه التيارات الأيديولوجية تحرير المدرسة من سيطرتها، فلا تجد خزانا لوعائها الإنتخابي في أقل تقدير، لكن تخشى أن تفقد أداة أستولت عليها منذ عقود، وأعطت أغلب الإرهابيين وقادتها في التسعينيات، وساهمت في نشر الكراهية ضد هويتنا الحقيقية ومجتمعنا، كما يدرك الإستبداديون والإستغلايون أن تحرير المدرسة الجزائرية من سيطرة هذه التيارات معناه قرب نهاية الإستبداد والإستغلال في بلداننا، لأن الإستبداديون والإستغلاليون يعيشون بأيديولوجيي الإرهاب، الذين يشوهون ويخوفون، ويرهبون القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية الواعية بآليات الإستغلال العالمي والمحلي لشعبنا، والتي تمتلك فعلا بديلا لهذه الأنظمة.
يرى ماركس أن مالك وسائل الإنتاج يغتني ويكون ثروة بإستغلال العامل وعلى حسابه، وذلك بإعطائه أجرا حديديا، ليجدد طاقته للعمل، ويأخذ صاحب العمل الحصة الكبرى المتبقية من قيمة منتوج عمله، لكن نحن في الجزائر وعدة دول في منطقتنا، فماهو موجود هو نظام شبيه بما أسماه سمير أمين ب"النظام الخراجي" الذي كان سائدا في منطقتنا، وحال دون الإنتقال إلى نظام رأسمالي بسبب إكتماله وتصلبه على عكس أوروبا التي سادها نظام إقطاعي غير مكتمل ومرن، مما سمح له بإلإنتقال إلى نظام رأسمالي .
فهذه النظرية لسمير أمين هي التي نقلتها في بعض مقالاتي ودراساتي حول المسألة الثقافية، وكيف أن جزء من الثقافة العربية غير قادرة على الإنخراط الذكي في العولمة الثقافية بسبب تصلبها، لأنها مكتملة، ومحاطة بالمقدس الرافض لكل تجديد أو وافد، مما حولها إلى ثقافة مهددة لوحداتنا الوطنية، فكتبت في كتابي "ربيع جزائري لمواجهة دمار عربي" ما مفاده "يقول سمير أمين بأن عجز العالمين العربي والإسلامي عن الإنتقال إلى النظام الرأسمالي في العصور الوسطى رغم بروز رأسمالية تجارية، يعود إلى نمط الإنتاج السائد عندهم الذي كان خراجيا مكتملا من الصعب جدا تحويله، على عكس الإقطاع في أوروبا الذي كان مرنا بسبب عدم إكتماله، وبالتالي تم تحوله بسهولة وإنتقاله إلى الرأسمالية ثم الثورة الصناعية، ومانتج عنها من تقدم أوروبي وغربي على عكس العرب والمسلمين.
وسنحاول نحن نقل هذه النظرية من المجال الإقتصادي إلى المجال الثقافي، حيث يبدو أن الثقافة العربية، خاصة المشرقية منها قد أكتملت، وأخذت نوعا من القداسة بسبب إرتباطها بالدين الإسلامي وبلغة يعتقد أنها مقدسة، وبالتالي أصبحت ترفض أي جديد يطرأ عليها، وتنظر إلى الثقافات الأخرى بإستهجان وفي بعض الأحيان ثقافة كفر وإلحاد، وبتعبير آخر أصبحت ثقافة صلبة يصعب إنخراطها في العولمة الثقافية وتفاعلها مع المستجدات، فهنا ينشأ التعصب والإنغلاق أو ما نسميها المكونات الثقافية التي تتحول إلى أيديولوجيات وهويات مغلقة ومتعصبة مما يؤدي إلى ردود فعل متعصبة أخرى، فتولد ما يمكن تسميته بالفوضى على أساس الهويات كما طرحنا ذلك عندما أشرنا إلى التوسع الراسمالي وتفتيته لدول الأطراف" )ص ص 36-37 من الكتاب طبعة 2013(.
فلهذه النظرية تفسير اليوم لما يحدث في بلداننا بسبب نظام شبيه بما يسميه سمير أمين ب"نمط إنتاج خراجي"، ومعناه أن السلطة تأخذ الخراج على شكل ضرائب من المنتجين، ثم تتصرف فيها، وتوزعها كما تشاء، وتأخذ جزء كبير منها لصالح الطبقة الحاكمة على شكل أجور عالية أو بشكل غير مباشر، وتتصرف فيها كأنها مالها الخاص على عكس ما يحدث في الدول الديمقراطية، وعند عدم كفاية الظرائب، تلجأ إلى الريع النفطي، وطبعا يدفع جزء من هذه الظرائب كأجور.
فهنا وصلنا إلى لب الموضوع الخاص بما يحدث للأساتذة المتعاقدين، فقد أرادت الطبقة الحاكمة في الجزائر منذ بداية الألفية الثالثة أن تعطي أدنى الأجور للعمال بدل ما تعطيهم حق عملهم كاملا كما طالب ماركس، ثم تقوم الطبقة الحاكمة بأخذ ما تبقى من قيمة منتوج العمل لصالحها، فتوزعه فيما بينها، وهو نفس ما كان يقوم به الحكام الأتراك بالجزائر أثناء العهد العثماني الذين كانوا يأخذون جزء من قيمة منتوج العمل للفلاحين والحرفيين وغيرهم على شكل ظرائب باهظة جدا، ثم توزع فيما بينهم لتلبية طلبات حياتهم الرغدة التي ألفوها، فكان ذلك سببا في عجز تحول هؤلاء الحرفيين إلى صناعيين لأنه لايتراكم لديهم المال الكافي، فما يأخذونه من قيمة منتوج عملهم يسد رمقهم فقط، أما الباقي فتأخذه الطبقة العثمانية الحاكمة.
لقد فكرت الطبقة الحاكمة في الجزائر منذ بداية الألفية الثالثة –أي منذ مجيء الرئيس بوتفليقة ومجموعته إلى الحكم- تكرار نفس الظاهرة بأسلوب آخر، فرأوا ضرورة تخفيض أجور العمال إلى أدنى قدر ممكن، وذلك بتهديدهم بالجيش الإحتياطي للعمال الذين ينتظرون توظيفهم، كما يحدث اليوم مع الأساتذة المتعاقدين، كما لجأت إلى عقود ماقبل التشغيل، ويتمثل في تشغيل عمال يقومون بنفس العمل، لكن بأجرة تقل عن خمس الأجرة التي يأخذها العامل العادي، وكان يتجدد عقد ماقبل التشغيل كل سنة، لكن السؤال المطروح أين تذهب كل هذه القيمة من منتوج العمل التي لا يأخذها عامل ماقبل التشغيل؟، فهذه القيمة تأخذ كنهب غير مباشر للطبقة الحاكمة في كل المستويات، ثم طورت الطبقة الحاكمة الظاهرة إلى مايسمى العمل بعقود تجدد كل سنة، فدشنوها في التعليم كتجربة، قبل توسيعها إلى كل القطاعات، وتتلخص في إعطاء أجور زهيدة ومذلة، لأن العامل بعقود يجدد عقده دائما، مما يجعله تحت ضغط نفسي وغير مستقر، ويتذلل لصاحب العمل لتجديد عقده، وكان من المفروض توسيع ذلك إلى كل القطاعات تدريجيا بعد ما يتم التخلص من العمال العاديين السابقين الذين سيذهبون إلى التقاعد، وبذلك تدخل الجزائر ويتطبع شعبها بنظام عمل جديد، وهو العمل بعقود مذلة مقابل أجور زهيدة، ويقبل العامل بكل الإذلال والإستغلال المسلط عليه لأنه مهدد بجيش إحتياطي للعمال حسب المفهوم الماركسين، وينتظر هؤلاء غستغلال أي فرصة طرد أي عامل لأخذ مكانه، فبذلك ستوفر الطبقة الحاكمة أموالا من الظرائب التي يدفعها موظفو الدولة بإنتظام بيما فيهم المشتغلون بعقود او ما يسمونهم عمال عقود ما قبل التشغيل، لأن الظرائب تأخذ مباشرة من أجورهم على عكس الطبقات الثرية خاصة التجار والملاك الكبار الذين يتهربون من الجباية أو ما يسمى ب"التهرب الضريبي"، لأن نظام الجباية في الجزائر تقليدي وضعيف جدا، فهو متمكن فقط ومتسلط على الأجراء الضعفاء دون التجار والملاك الكبار.
فبهذا الشكل تسلب الطبقات الحاكمة حقوق وأجور العمال، ثم تقوم بتوزيعها فيما بينها بعدة أشكال، وإلا كيف نفسر رفع أجور الوزراء والإطارات العليا والنواب وغيرهم في وقت تشتكي فيه البلاد من سياسة تقشف بسبب إنخفاض أسعار النفط، فهذه السياسات المذلة والإستغلالية هي التي ستسمح لها مواصلة نمطها المعيشي المرتفع جدا والمستهلك لمنتجات مصانع الرأسمالية الغربية.
لكن ما يؤسف له أن شعبنا غير واع بهذه السياسات بسبب ما أشرنا من قبل إلى تغييب بعض المناهج في التفسير والتحليل، ومنها المنهج الماركسي، إضافة إلى زرع الفردانية وإلهائه بخطابات دينية تخديرية ونقاشات عقيمة، بل أكثر من هذا، فحتى هؤلاء الأساتذة الذي تجمعوا في مدينة بودواو، فإنهم أقلية جدا مقارنة بعدد هذه الفئة من الأساتذة، بل الكثير من المتخرجين من الجامعات، ينتظرون طرد هؤلاء ليأخذوا مكانهم، وقد أستخدمت بعض المساجد لدعوة هؤلاء للإقبال على مديريات التربية لطلب العمل بعقود واخذ مكان المضربين والمطالبين بإدماجهم، أنها سياسة ليست فقط إذلالية وإستغلالية، ستعم كل الطبقات العاملة مستقبلا في الجزائر إن لم يتم إلغاء هذا الأسلوب الإستغلالي للتوظيف نهائيا، بل بإمكان ضرب العمال بعضهم ببعض بسبب مصالح ضيقة وإنعدام الوعي الطبقي لديهم، ويأتي على رأس هؤلاء ما سماهم ماركس ب"الجيش الإحتياطي للعمال"ن فلهذا السبب قلنا أن مصير الجزائريين ومستقبلهم سيتحدد فيما يمكن تسميته ب"معركة بودواو من أجل إدماج الأساتذةط وتحويلها إلى معركة أخرى هي "معركة الإلغاء النهائي لمشروع تعميم العمل بعقود" الموجود في الأدراج، والذي يتم تطبيقه وتوسيعه تدريجيا منذ مجيء الرئيس بوتفليقة إلى السلطة، وهو مشروع سينهي نهائيا المكاسب الإجتماعية التي قامت على أساسها ثوة اول نوفمبر1954.

البروفسور رابح لونيسي