ذكريات من الحركة السياسية والوطنية بمدينة عطبرة


تاج السر عثمان
2015 / 7 / 7 - 14:23     

ذكريات من الحركة السياسية والوطنية بعطبرة
بقلم : تاج السر عثمان
معلوم أن مدينة عطبرة شاركت بسهم وافر في الحركة السياسية والنقابية والفنية والرياضية والثقافية، فمنذ العام 1908 نشأت فيها الحركة المسرحية، وساهم عمال السكة في مظاهرات ثورة 1924م ضد الاستعمار، وفي العام 1946م قامت هيئة شؤون العمال والتي طالبت بحق التنظيم النقابي حتي تم انتزاعه في العام 1948، وتم انتزاع قانون النقابات للعام 1948م الذي كفل حق التنظيم النقابي، كما نشأت الحركة السودانية للتحرر الوطني( الحزب الشيوعي فيما بعد) في العام 1946م وساهمت في ادخال الوعي النقابي والسياسي في صفوف العمال، وكذلك نشأت الأحزاب الاتحادية وغيرها في عطبرة، ونشأت الحركة الرياضية والفنية والأدبية التي اسهمت بشكل كبير في رفع الوعي والحركة الوطنية، وكان للجو العام في عطبره اثره في متابعتي للحركة الوطنية والسياسية في البلاد.
اذكر أن مدينة عطبرة في خمسينيات وستنيات القرن الماضي كانت تعج بالنشاط الوطني والسياسي والنقابي والثقافي والرياضي والفني. كنت اسكن مع اسرتي في حي امبكول بالقرب من ميدان المولد الذي كان يقع جنوب السوق الكبير وشرق الجامع الكبير ، وغرب موقف التاكسي وطلمبة شل في ذلك الزمن.
كان ميدان المولد اضافة لمناسبات المولد النبوي الشريف يعج بالندوات والليالي السياسية والعمالية ، كانت مواكب العمال والموظفين تتجمع في ميدان المولد لتنطلق في مظاهرات هادرة من أجل مطالبها النقابية والوطنية. أذكر أنه كان من ابرز المتحدثين في تلك الليالي : قاسم أمين، الحاج عبد الرحمن، هاشم السعيد ، وعلي محمد بشير ، ومن الزعماء السياسيين الذين يصلون من الخرطوم: عبد الخالق محجوب ، الوسيلة، محمد أحمد المحجوب ، الشفيع أحمد الشيخ..الخ. كان دار "الجبهة المعادية للاستعمار" مواجها لميدان المولد ، وبعد ثورة اكتوبر كان دار احزب الشيوعي ايضا مواجها لميدان المولد، أما دار الحزب الوطني الإتحادي فقد كان بالقرب من دكان محمد خير خوجلي التاجر المشهور في عطبرة، ودار حزب الأمه يقع بالقرب من دار نقابة عمال السكة الحديد غرب المقابر ودار الختمية.
كان مواطنو عطبرة يحرصون علي حضور الليالي السياسية والعمالية، التي كانت تبدأ بعد صلاة العشاء ، كانوا يخرجون لليالي السياسية بملابسهم النظيفة وأحذيتهم اللامعة ، وكانوا مستمعين جيدين لتلك الندوات غض النظر عن اختلافهم أو إتفاقهم مع المتحدثين، وكانت لهم ملاحظاتهم الناقدة.
أذكر وأنا طفل في حوالي السنة الرابعة من عمري ذهبت مع أخواتي واخوتي الي حديقة البلدية لحضور الإحتفال بذكري الإستقلال عام 1956م، كانت جماهير مدينة عطبرة في حالة فرحة ونشوه بمناسبة خروج الإنجليز ، وسط أناشيد حسن خليفة العطبراوي : ياغريب يالله لبلدك ياغريب ، لمم عددك ، انتهت مددك ..الخ، وأناشيد محمد وردي : اليوم نرفع راية استقلالنا، ويسطر التاريخ مولد شعبنا..الخ. والذي كان النشيد الذي نردده كل عام في ذكري الاستقلال في المدارس ، والإحتفالات السنوية بالاستقلال في حديقة البلدية ودار الرياضة حيث كانت تقام المهرجانات والكرنفالات السياسية والفنية والرياضية بمناسبة عيد الإستقلال.
لازلت أذكر في المدرسة الاولية نشيد : علمي انت رجائي ، وعنوان الولاء ، لونك الأزرق ماء ، ولونك الأصفر صحراء، ولونك الأخضر زرع..الخ، وكانت اشارة لعلم السودان، الذي رفعه إسماعيل الأزهري رئيس الوزراء عام 1956م، وبجواره زعيم المعارضة محمد أحمد المحجوب، بعد أن سلم الحاكم العام يومئذ روبرت هاو علم الدولة الاستعمارية. كان علم السودان يتكون من ثلاثة الوان هي : الأزرق ، والأصفر ، والأخضر، قبل أن يتم تغييره إلي شكله الحالي بعد انقلاب 25 مايو 1969م.
من الأناشيد التي مازالت عالقة في ذهني كان النشيد الذي ردده تلاميذ مدرسة الداخلة الأولية في مناسبة الإحتفال بدار الرياضة بمناسبة الذكري الثانية للاستقلال عام 1958م، والذي يقول:
افرح وهلل نحن في عهد السرور
شعبنا اليوم بنهضته فخور
أرضنا صجراء كانت من سنين
انظروها اليوم قد نبتت زهور..الخ.
كما لازال عالقا بذهني حديقة البلدية التي كانت تقام فيها إحتفالات الإستقلال، كانت تمتاز النظافة والخضره وحسن التنسيق والتي تسر الناظرين، كانت الحديقة تقع بالقرب من عمارة عباس محمود، وشرق المحكمة وسجن عطبره الذي اعتقلت فيه سياسيا عام 1977م، كما لازلت اذكر النصب التذكاري ، تلك المسلة الهرمية الشكل والتي علي قمتها حمامة السلام البيضاء اللون التي تحمل في منقارها غصن زيتون أخضر، تلك الحمامة التي ظهرت بعد أن رست سفينة نوح علي جبل الجودي كما جاء في رواية "التوراة "، حاملة غصن الزيتون الأخضر كدليل علي وصول اليايسة أوالوصول الي بر الامان..
لازلت أذكر زيارة الرئيس اسماعيل الأزهري لمدينة عطبره عام 1957م، والذي تم استقباله بحضور جماهيري حاشد من المحطة ، كانت الجماهير تهتف : "حررت الناس.. ياسماعيل، الكانو عبيد ياسماعيل..الخ "، تابعنا الموكب ونحن أطفال حيث زار قبر شهداء الجمعية التشريعية، واستمر الموكب حتي وصل در الحزب الوطني الإتحادي الذي كان رئيسه.
لازلت أذكر ايضا مواكب ومظاهرات عمال السكة الحديد وطلاب المدارس الثانوية التي كنا نشترك فيها وهي تهتف : لن يحكمنا البنك الدولي ، البنك الدولي بنك افلاس ، لا للمعونة الامريكية...الخ، وكان ذلك في إطار الحملة الدعائية الكبيرة التي قام بها الشيوعيون والوطنيون والحركة النقابية في عطبرة دفاعا عن السيادة الوطنية ورفضا للمعونة الأمريكية المشروطة التي تربط البلاد بالاحلاف العسكرية، وتفتح الطريق للتغلغل الأمريكي في السودان وافريقيا بعد افول نجم الامبراطورية البريطانية التي غاب عنها الشمس، بعد نهوض حركات التحرر الوطني في افريقيا وآسيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من ضمنها استقلال السودان.
إذكر ايضا حملة الانتخابات العامة عام 1958م، وحملات المرشحين الدعائيةالكبيرة بالندوات والليالي السياسية، و شعارات الأقمشة علي الجدران والاماكن العامة، وكانت المنافسة قوية بين مرشح الحزب الشيوعي : قاسم أمين، ومرشح الحزب الوطني الإتحادي : المحلاوي. اذكر بعد نهاية الانتخابات كنا نجمع تلك الشعارت من الأقمشة من الجدران والأماكن العامه ونقوم بتنظيفها جيدا ، ونصبغها ، ونصنع منها ملابس لكرة القدم. وكانت تلك الأقمشة من نوع " الدبلان" الناصع البياض ، " والدمور" الأغبش.
اذكر بعد انقلاب 17 نوفمبر 1958م، وأنا في المدرسة الأولية منشورات الشيوعيين التي كانت توزع ليلا وتملأ الشوارع ، كنا نصحو في الصباح الباكر في حي امبكول بعطبرة، ونشاهد البوليس الذي كان يركب " الكومر" المشهور ، يجمع تلك المنشورات من الشوارع، وأحيانا ينظف شعارات الحائط التي كان يكتبها الشيوعيون ليلا التي تندد بالنظام وتدعو إلي إسقاطه. وكنا نسمع تعليقات سكان الحي " الليلة الشيوعيون مالين البلد منشورات، وكتابه علي الحيط".
أذكر ايضا مظاهرات طلاب مدرسة عطبرة الثانوية الحكومية التي كانت تتحرك من المدرسه التي كانت تقع غرب السكة الجديد بالقرب من الاورطه، وتمر بشارع " السلك" نحو ميدان المولد، وكانت تهتف بسقوط العسكر، وكنا ننتظرها بالقرب من مدرسة العمال الوسطي ونشارك فيها والتي كان يقمعها البوليس بعنف بالغاز المسيل للدموع، والهراوات.
أذكر ايضا مظاهرات عمال السكة الحديد واضراباتهم المشهوره، التي كانت تطالب بتحسين أحوالهم المعيشية وضد الديكتاتورية العسكرية.
لازال عالقا بذهني اشتراكي في مظاهرات العمال والطلاب ومواطني عطبرة ضد مؤامرة اغتيال قائد حركة التحرر الوطني في الكونغو "باتريس لوممبا" الذي اغتاله المستعمرون البلجيك في 17 يناير 1961م، كانت صور لوممبا بمحياه الجميل تزين كثيرا من جدران منازل عطبرة.
كما أذكر مشاركتي في مظاهرات ابناء النوبة ضد تهجيرهم من حلفا ، شاركنا مع النوبيين الذين كان حيهم قريبا من حي امبكول في عطبرة، وكانت المظاهرات تهتف بسقوط الحكم العسكري، " حلفا دغيم ولا باريس " ،....الخ. كانت مظاهرات يومية كنا نشارك فيها ونتعرض للضرب بالغاز المسيل للدموع، وكانت جماهير عطبرة تشارك في المظاهرات وتتضامن مع الشعب النوبي الذي عاني من التهجير وتدمير حضارته وثقافته وكنوز آثار النوبة الثقافية والتاريخية.
أذكر ايضا حملات الاعتقالات الواسعة ضد الشيوعيين في حي امبكول ، واكتشاف المخبأ السري الذ ي كانت تطبع منه منشورات الحزب الشيوعي بالقرب من حي السوق.
وظلت المقاومة للديكتاتورية مستمرة حتي اندلعت ثورة اكتوبر 1964م، اذكر مشاركتي فيها مع زملائي ونحن في المرحلة الوسطي ،تلك المظاهرات التي شارك فيها مواطنو عطبرة بكل فئاتهم.
كما لازلت اذكر زيارة الاستاذة فاطمة احمد ابراهيم لعطبرة عام 1965م ، والتي فازت في الانتخابات للجمعية التأسيسية كاول امرأة في تاريخ السودان، عن دوائر الخريجين،كان استقبالا حاشدا ، عبر عن دعم جماهير عطبرة لحقوق المرأة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
بعد ثورة اكتوبر تابعنا الانتخابات العامة التي اجريت عام 1965م، والتي فاز فيها المرحوم علي محمد بشير عن الحزب الوطني الإتحادي، وعلي محمد بشير ينتمي لنا بصلة القرابة، وهو في الأصل كان شيوعيا، ومن مؤسسي الحزب الشيوعي بعطبرة وهيئة شؤون العمال، اختلف مع الحزب الشيوعي أيام ديكتاتورية عبود، وكنت اقابله كثيرا بحكم صلة القرابة، لاحظت أنه كانت له مرارات شخصية مع المرحومين الشفيع أحمد الشيخ، وقاسم أمين.
ثم جاءت الانتخابات التكميلية في العام 1968م التي فاز فيها مرشح الحزب الشيوعي الحاج عبد الرحمن عن دائرة عطبرة ، أذكرأننا في حي امبكول تابعنا مظاهرات الشيوعيين احتفالا بالنصر التي طافت حي امبكول بهتافاتها الهادرة.
في مدينة عطبرة كانت المنافسة أساسا بين الشيوعيين والاتحاديين، وكان نفوذ الحزب الشيوعي في عطبرة قويا، وكان له قادة عماليين بارزين مثل : هاشم السعيد، والحاج عبد الرحمن، ومحجوب علي " النقابي العجوز"...الخ.
لقد كانت مدينة عطبرة مدينة عمالية حديثة بمعني الكلمة، وبها حركة سياسية وفكرية ونقابية، ورياضية وفنية وثقافية متقدمة، مما ترك اثرا في تكويني الفكري والسياسي فيما بعد.