حول التشغيل القسري للمتقاعدين


سعيدي المولودي
2014 / 9 / 9 - 21:52     


في مبادرة هجومية بعنوان "مرسوم بقانون رقم 2.14.516" سارع رئيس الحكومة إلى فرض إطار قانوني للتشغيل القسري لرجال التعليم والأساتذة الباحثين الذين بلغوا سن التقاعد،وبذلك حقق نزوعه التحكمي والسلطوي، ونشَّبَ مخالبه التشريعية في جسد التربية والتكوين ليزرع في مسامه المزيد من الإحباطات والانكسارات واليأس القاتل، ويمعن في إذلاله والتمثيل به.
وال"مرسوم بقانون" هذا، باعتبار طابعه الاستثنائي والشاذ، يحيل بالضرورة إلى خلفيات متعددة، بالنظر إلى بعده الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إذ الهدف من وراء إصداره يتوخى تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية واجتماعية يراهن عليها رئيس الحكومة، عبر إيهام "النظام" بأنه الأقوى وبإمكانه أن يذهب بعيدا في محاولة استيعاب المجتمع استيعابا كليا، ويطفيء بريق مواجهاته و ردود فعله المحتملة وان يحسم الصراع لصالحه، ويجبر المجتمع على قبول الأزمة والتهليل لها،والتلذذ بمآسيه.
ويمكن اعتباره إحدى عجائب الممارسة التشريعية والتنفيذية معا، فالشروط والظروف التي أحاطت بطقوس إصداره تؤشر إلى أنه ليس إلا مظهرا من مظاهر التوظيف الطاغي للقوة والنفوذ واستغلال السلطة والاستبداد، واللجوء إلى الفصل 81 من الدستور يعضد هذا المنحى، ويؤكد أن رئيس الحكومة يصر على ممارسة شططه وطغيانه، ويشق الطريق نحو تعزيز آليات السلطة المطلقة، وتكريس ثقافة القهر والإخضاع، خاصة وأن استصدار مثل هذا ال"مرسوم بقانون" لا تفرضه أية ضرورات قصوى أو تستوجبه حالات طواريء أو حالة حرب موشكة، أو أخطار تهدد البلاد، البلاد التي ما يفتأ رئيس الحكومة يتغنى بأمنها وأمانها واستقرارها وازدهارها المنقطع النظير.
وفي الجوهر فإن المبادرة تعكس طبيعة الاختيارات التي تتبناها الحكومة، وتعمل على تمريرها بنوع من التوجس والارتياب والجسارة العمياء، وهي اختيارات لا نتردد في القول إنها لا شعبية، تتوخى بشكل أو آخر تكريس نموذج الحاكم المطلق، والأصول الأيديولوجية والنماذج المرجعية التي يتوكأ عليها رئيس الحكومة والثقافة التي ينهل منها تعزز هذه الصورة، فالمرجع النظري الرئيسي له هو مرجع يميني ورجعي ومنه يستقي صوره المطمئنة عن التاريخ والواقع، ويتولى تسويقها على أنها أفضل الحلول الممكنة، ومن ثمة فإن رهاناته هي رهانات رجعية تتأسس على بنى أيديولوجية وثقافية استبدادية عريقة تحيا على استرداد واستعادة خيارات تتخفى في الماضي مغرقة في الجمود والنكوص.
إن ال"مرسوم بقانون رقم 2.14.516 " يبدو وكأنه برهان على فقدان القدرة على التحكم، ولذلك يأخذ شكل تحد سافر وتطاول على الحقوق،ومظهرا للمقاومة واستلهام عوامل السيطرة والتحكم، وكل مواصفاته لا تخرج عن هذا السياق، فهو:
- قانون تحكمي: مشحون بكل معاني القهر والاستعباد وخاصيات القسر والإذعان والإخضاع،وآلية من آليات الاستبداد العشوائي.
- قانون "لا إنساني"، و"لا أخلاقي":إذ يفرض على رجال التربية والتكوين والأساتذة الباحثين صيغة من صيغ " الأعمال الشاقة" ويفسح المجال أمام "إبادتهم" من خلال العمل، وإرغامهم على العمل في ظروف وشروط لا يمكن أن تقود إلا للموت.
- قانون "لا شرعي": فالسياق الذي يؤطر مواده هو عبارة" خلافا للنصوص التشريعية الجاري بها العمل" وهو ما يعني صراحة أن إجراءات تنفيذه وتطبيقه يجب أن تتم خارج إطار القوانين المعمول بها، ومن ثمة فهو قانون "جائر"، ويؤسس عن عمد وسبق إصرار لمظالم جديدة.
لقد وصفت الفعاليات النقابية هذا ال"مرسوم بقانون" بأنه إحياء لنظام عمل السُّخرة، وهو فعلا كذلك، فما يتضمنه لا يمكن تصنيفه خارج هذا النظام ، فاتفاقية السخرة التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية ( 1930) تحدد عمل السخرة أو العمل القسري بما يلي:" جميع الأعمال والخدمات التي تفرض عنوة على أي شخص... والتي لا يكون هذا الشخص قد تطوع بأدائها بمحض اختياره.) ومبادرة رئيس الحكومة هذا هو نطاقها وجوهرها، وهذه هي دلالتها الساطعة.
إن تصريف الأزمة التي تعاني منها بلادنا ،والحكومة بالدرجة الأولى، عبر هذه المبادرات وتحويل فئات اجتماعية عريضة إلى فئات مقهورة، وإرغامها على تحمل الأخطار، واعتماد مبدأ تقويض مصالحها وتدمير عناصر وأسباب وجودها، لا يعني غير عجز وفشل وعدم قدرة الحكومة على مواجهة التحديات، وعدم استيعاب تحولات المجتمع، وهو مظهر لاختيارات كارثية تدخل ضمن استراتيجية يمينية ورجعية للإجهاز على الحقوق الأساسية للمأجورين ومكتسباتهم، يشكل هذا ال"مرسوم بقانون" في مجراها مجرد نقطة عبور.