من المستفيد من المفاوضات الاجتماعية؟


حزب العمال التونسي
2005 / 4 / 24 - 10:46     

تستعد الأطراف الاجتماعية من أعراف ونقابيين للجولة الجديدة من المفاوضات الاجتماعية حول الأجور والقوانين الأساسية والعقود المشتركة. فالقسط الأخير من الزيادات الثلاثية تم صرفه ويفترض أن يشرع في صرف القسط الأول من الزيادات الثلاثية الجديدة مع موفى شهر ماي القادم بالنسبة لبعض القطاعات وشهري جوان أو جويلية بالنسبة لقطاعات أخرى.

ويبدو أن هذه الجولة ستكون أصعب وأكثر تعقيدا من الجولات السابقة ذلك أن الأعمال التمهيدية التي عادة ما تجمع الأطراف الاجتماعية برعاية وزارة الشؤون الاجتماعية شهدت هذه السنة تعثرا يجعلنا نتوقع أن الحكومة والأعراف ينصبون عراقيل كثيرة في سبيل إفراغ المفاوضات من معناها. من هذه المؤشرات أن وزارة الشؤون الاجتماعية مانعت في البداية جمع الأطراف (اتحاد الأعراف والمنظمة النقابية) لوضع الاتفاق الإطاري حول مراجعة الاتفاقيات المشتركة متعللة بتعلات واهية. ثم عندما قبلت ذلك وجهت الحوار نحو ربط الزيادات أو التحسينات المنتظرة بتحسين مردودية العامل والمؤسسة وبـ"رفع الصيغ الملائمة للرفع من الإنتاج وتحسين جودته". وقد جاء الاتفاق المهني مؤحرا حافلا بالنقاط المؤكدة على "الأخذ بالاعتبار عند تناول المسائل التي لها انعكاس مالي خصوصيات المؤسسات والقطاعات وقدرتها على تحمل الزيادات في الأجور" (النقطة 5 ص 3 من الاتفاق). كما جاء في النقطة السادسة منه "العمل بقدر الإمكان على تفادي مراجعة المسائل الترتيبية التي شملتها عدة مراجعات خلال الجولات السابقة من المفاوضات". وتُجسّم هذه الشروط ما ذهب الأعراف والحكومة إلى تأكيده أكثر من مرة على أن المطالب النقابية لا بد أن تراعي "المصاعب الاقتصادية" التي يتميز بها المحيط الدولي والاقتصاد التونسي في ظل احتدام المزاحمة وضغوطات علاقات التبادل الراهنة. ومن المؤشرات أيضا على صعوبة الجولة القادمة من المفاوضات تلويح الحكومة في أكثر من مرة "بتعليق المفاوضات". وقد أبلغت وزارة الشؤون الاجتماعية مؤخرا المركزية النقابية بتأجيل الجلسة التي كان من المقرر أن تضبط الإطار العام للمفاوضات. وقد جاء هذا التأجيل في الحقيقة ليعبر عن غضب الحكومة من موقف المنظمة النقابية من دعوة شارون لزيارة بلادنا في نوفمبر القادم بمناسبة انعقاد الجولة الثانية من القمة العالمية حول مجتمع المعلومات. ومعلوم أن وزارة الشؤون الاجتماعية كانت في وقت سابق إبان صدور بيان الاتحاد دعت المكتب التنفيذي للضغط عليه من أجل اقتلاع تراجع في ذلك البيان وعندما فشلت في ذلك دعا وزير الشؤون الاجتماعية في وقت لاحق أعضاء المكتب التنفيذي بصورة فردية للضغط عليهم الواحد تلو الآخر بنفس القصد. وهكذا جاء تأجيل موعد الجلسة الخاصة بالمفاوضات تتويجا للضغوط المشار إليها عسى أن يعيد الاتحاد النظر في موقفه.

غير أن إصرار قيادة الاتحاد –حتى الآن على الأقل- على موقفها أجبر وزارة الشؤون الاجتماعية إلى دعوة المكتب التنفيذي أخيرا لهذه الجلسة ولإعلامه أن التعليمات ستصدر للدوائر المعنية للشروع مباشرة في المفاوضات في أقرب وقت علما وأن الاتفاق الإطار حول مراجعة الاتفاقيات المشتركة كان أكد أن الشروع في المفاوضات سينطلق من أول مارس لينتهي في أجل أقصاه 30 أفريل الجاري (النقطة 7 من الاتفاق).

لكن هذا التراجع ما يزال مشوبا بكثير من نقاط الغموض باعتبار أنه تم الاستغناء عن الجلسة التي عادة ما تنعقد في مثل هذه المناسبات مع المنظمة النقابية لإصدار البلاغ المشترك الخاص بالمفاوضات في الوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية. وهو أمر مازالت مقاصده غير مفهومة حتى الآن.

كنا في سنوات سابقة تعرضنا بالتحليل لمدلول وانعكاس الزيادات التي يعلن عنها إثر كل جولة تفاوضية. وقد بينا طابعها الظرفي والشكلي والمغالط أحيانا كثيرة باعتبار أن كل زيادة سرعان ما يقع امتصاص مفعولها عبر الزيادات المتكررة في الأسعار، علاوة على المراجعات المتتالية لمقادير وميادين الجباية المباشرة وغير المباشرة والتي زادت في دهورة المقدرة الشرائية للعمال ولعموم الشعب.

ونعتقد أن التأكيد على "مصاعب الظرف الاقتصادي" و"ارتفاع أنساق المزاحمة" والتركيز على "ضرورة مراعاة أوضاع المؤسسات وخزينة" الدولة سواء من طرف الحكومة أو الأعراف إنما هو تمهيد لجرّ مفاوضي المنظمة النقابية للقبول بزيادات دون حجم الزيادات الماضية والاستنكاف عن مراجعة الجوانب الترتيبية التي لها انعكاس مالي. مع العلم أن الاتحاد كان قبِل خلال الزيادة الفارطة بالتخلي عن نسبة 10% من حجم سابقتها.

لقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن قبول الدولة والأعراف بهذه الزيادات الهزيلة كل ثلاث سنوات إنما هو مجرد إجراء تعديلي على المستوى الاقتصادي ككل لا يستند إلى المعطيات الحقيقية والفعلية لنسب التضخم المسجلة ونسب تدهور المقدرة الشرائية. ويعلم الخاص والعام أن المفاوضات التي تأخذ من وقت واهتمام النقابيين خاصة في القطاع العمومي وفي الوظيفة العمومية هو مجرد مسرحية بما أن نسبة الزيادة تحددها الحكومة من جانب واحد ومنذ مطلع السنة عند المصادقة على ميزانيات الوزارارت والمؤسسات. وقد أثبتت كل المعطيات الخاصة بالزيادات الفارطة أن هذه الأخيرة لم تخرج مطلقا عن تلك النسب المحددة مسبقا.

ومن جهة أخرى فإن هذه الجولات والزيادات عادة ما تشكل التزاما بسلم اجتماعية تقيّد الأنشطة والاحتجاجات والمطالبة بتحسينات أخرى بما أنها تمنع المطالبة بأية زيادة خصوصية أو مراجعة للجوانب الترتيبية التي لها انعكاس مالي.

أما في القطاع الخاص فإن تعلة أوضاع المؤسسات أصبحت سيفا مسلطا على النقابيين والعمال بل وذهب الأمر ببعض الأعراف إلى التنكر للاتفاقيات التي يمضونها. والأنكى من ذلك أن بعض الاتفاقيات القطاعية المشتركة لا تلقى طريقها إلى التنفيذ أصلا في قطاعات بالكامل (قطاع البناء مثلا).

لقد تحولت المفاوضات الاجتماعية قاعدة متينة "للسلم الاجتماعية والاستقرار الاجتماعي" الذي تباهي به الدكتاتورية النوفمبرية لتلميع صورتها في الخارج ولدى المؤسسات المالية المانحة في العالم ولدى المستثمرين الأجانب الذين رغم ذلك لا يقبلون على الاستثمار في تونس وحتى إن فعلوا فإنهم لا يحترمون حتى القوانين المعمول بها في مجال حقوق العمال رغم كل التسهيلات الممنوحة لهم.

كما أصبحت هذه المفاوضات حجة تعتمدها البيروقراطية النقابية لتزيين سجل مكاسبها ولتلميع صورتها وصورة أدائها الضعيف والمضر بالحركة النقابية. هذا الكلام لم يعد (كما تدعي البيروقراطية) حكرا على المسيسين والمناوئين لها بل تحوّل إلى قناعة يعبر عنها عدد لا بأس به من العمال والنقابيين وحتى الإطارات في مستوى القيادات القطاعية والجهوية. وقد كان لهذا الموقف صداه خلال المؤتمرات الأخيرة في عدد من الجهات والقطاعات وحتى في غالبية الندوات النقابية خاصة تلك التي انعقدت للإعداد للمفاوضات في القطاع الخاص والعمومي وفي الوظيفة العمومية على المستوى الوطني أو الجهوي.

لقد آن الأوان لرفض مزيد الاستمرار في مثل هذا الصنف من التفاوض الموروث عن فترة السحباني سيء الذكر. ونعتقد أنه صار بمقدور النقابيين لو جعلوا من ذلك شعارا مركزيا ومهمة عملية للإنجاز أن يرفضوا هذا الخيار ويستبدلونه بطريقة تفاوض جديدة تؤدي إلى نتائج أفضل وتغطي فعلا عجز المقدرة الشرائية وتحسن من ظروف العمل وتحمي حق الشغل والحق النقابي. وتترك أيدي الشغالين والنقابيين طليقة كي يستخدموا أساليبهم النقابية النضالية للدفاع عن مصالحهم في وجه الهجوم المستمر للدكتاتورية ورأس المال على حق الكادحين.