الهجمة الأخيرة ضد النقابات، إلى متى والى أين؟


فلاح علوان
2010 / 9 / 4 - 10:40     

يكاد يكون التاريخ النقابي في العديد من أوجهه وفي العديد من البلدان، هو تاريخ صراع العمال من اجل حق التنظيم الممثل لمصالحهم ضد التشريعات الحكومية التي تحمي مصالح الرأسماليين من أصحاب المصانع أو المؤسسات. من المؤكد أنا لا اقصد النقابات الصفراء التي تساهم وتصر السلطات أو القوى السياسية على تشكيلها للحيلولة دون تطور النضال النقابي وبالتالي النضال العمالي.

إن انكلترا مهد الليبرالية والتي شهدت البدايات الأولى للتنظيم النقابي في العصر الحديث، أي العصر الرأسمالي، طبعا مع بعض الاستثناءات المبكرة جدا، مثل جمعية القصابين في شيكاغو التي تأسست في القرن السادس عشر، مع البدايات الأولى لتشكل أميركا. نقول في انكلترا، وفي عام 1720 تقدم الخياطون في يوركشاير بعريضة تطلب السماح لهم بتشكيل تجمع لهم، ألا أن الطلب رفض ومن صاحبة الجلالة أيضا. وقد كرر الخياطون طلبهم الذي حجب وتم تهديد أصحابه، كرروا طلبهم مرات، قبل أن يتمكنوا عن طريق الضغط من تشكيل تجمعهم. لقد كان هذا في مهد الليبرالية، أن يمنع العمال من تنظيم أنفسهم، في حين يستطيعون ذلك بتأثير الضغط.

أما في العراق فقد تم رفض حتى استخدام كلمة "العمال" في أول محاولة لتنظيم اتحاد عمالي عام 1929، حيث رفضت السلطات طلب محمد صالح القزاز، ورغم المطالبات المتكررة والضغط وتنظيم تظاهرة –هتفت بحياة الملك- ألا أن السلطات طلبت كشرط لترخيص الجمعية تبديل اسم العمال أصحاب الحرف ليصبح اسم الجمعية "جمعية أصحاب الصنائع والحرف".

لا أريد الخوض بعيدا في تاريخ النقابات، لقد أردت أن اذكر هذه الأمثلة، باعتبارها جزء من تاريخ حي من الصراع، او الأحرى باعتبار إن الهجمة الحالية ضد النقابات هي امتداد لكل ذلك التاريخ الطبقي من وقوف الأنظمة الرأسمالية بوجه تنظيم العمال لأنفسهم.

إن هجوم البرجوازية ضد العمال يأخذ شكل إجراءات ربما تبدو وكأنها مجرد إجراءات إدارية لا صلة لها بالـ "سياسة" ولكنها في الحقيقة صلب السياسة، أو هي تعبير عن مصالح طبقية متأصلة، لا يمكن للبرجوازية إغفالها ولو للحظة، وبالمناسبة فالبرجوازية من هذه الناحية تبدو أكثر اهتماما وجدية فيما يخص أهمية التنظيم العمالي، من العمال والقوى الممثلة لمصالح العمال.

الشهرستاني حسين، الذي استوزر الكهرباء بعد "استقالة" سلفه كريم وحيد، بادر مهامه في الوزارة بإصدار قرار يمنع العمل النقابي، ويهدد النقابيين بالويل والثبور. قبلها اصدر حسين قرارات مماثلة في وزارة النفط التي يديرها إلى الآن. وإذن فالشهرستاني وزير لوزارتين في آن معا، وقد منع العمل النقابي في كليهما وبإصرار.

ان هجمة الشهرستاني ضد التنظيم النقابي ليست زلة أو عمل طائش صدر عنه أو انفعال طارئ، انه نهج مقصود يصدر عن سلطات لها أجندتها وسياستها فيما يخص العمال والتنظيم العمالي. انه امتداد لقرارات 2003 التي أصدرها وزير الصناعة آنذاك حاجم الحسني، وقرارات الشهرستاني نفسه في قطاع النفط، وقرارات وزير النقل، وفي كردستان، رغم الحديث اليومي عن جرائم النظام السابق فان السلطات حريصة على إبقاء قرارات منع التنظيم النقابي حسب قوانين وقرارات النظام السابق. السلطات في العراق لم تنس منع التنظيم النقابي حتى في الأيام أو السنوات الدامية التي أصبح خلالها مشهد الجثث على الأرصفة مألوفا حتى لأطفال المدارس وهم يتوجهون إلى صفوفهم ومدارسهم.

حتى في تلك الأيام لم ينس أي وزير أو مسؤول إن التنظيم النقابي في القطاع العام ممنوع حسب قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل. في نفس الوقت التي يتصاعد الزعيق بصدد اجتثاث البعث والنظام الديكتاتوري.

ما معنى هذا؟

إن السلطات ببساطة تريد عمالا أو موظفين غير منظمين، مشتتين، مستفرد بهم، أي أعداد من أناس فرادى تسهل السيطرة عليهم، وهم في هذا يشتركون مع النظام السابق، ومن جانب أخر، فان النقابات وكل أشكال التنظيم، شكلت تهديدا دائما للسلطات خلال السنوات الماضية، عبر تمكين العاملين من الضغط على السلطات للمطالبة بحقوقهم. إن الاستمرار بإصرار على قرارات مجلس قيادة الثورة هو لإحساس السلطات بكون التنظيم النقابي يمكن العاملين من التعبير عن مطالبهم كقوة موحدة وليس كفرادى، وبالتالي يمكنهم التنظيم من التدخل في رسم المصير الحياتي والواقعي لهم، وعدم الخضوع للقرارات واللوائح التي تصدرها السلطات خدمة لمصالحها.

تسعى السلطات لتمرير مشاريعها المعادية لمصالح القسم الأعظم من المجتمع، من خصخصة وتمرير عقود التراخيص، أي تسليم ثروة المجتمع للشركات، تنفيذ شروط صندوق النقد والبنك الدولي، رفع الدعم عن السلع الأساسية والخدمات. هذه المشاريع والسياسات تتعارض مع حياة الناس اليومية مباشرة، وبالأخص العمال الذين يعيشون من كدحهم. ويتطلب وقوف الجماهير بوجهها وإحباطها. إن احد أهم مستلزمات التحول إلى قوة ضغط هو التنظيم، وبالتالي فان وجود النقابات هي إمكانية واقعية بيد العمال للتدخل وإحباط السياسات المعادية لمصالح الجماهير.

إن أي فئة تضع نفسها في مواجهة مصالح العمال، تقف في معسكر طبقي آخر لا يمكن اللقاء معه أبدا، انه يقف في معسكر البرجوازية المواجه لمعسكر العمال. مهما كان الشكل الذي تتمظهر به السلطة، سواء قوميا أو ليبراليا أو دينيا أو " وطنيا"...الخ.

إن القوى السياسية التي فشلت، ليس فقط في إدارة المجتمع بل حتى في تشكيل حكومة، تكاد تكون متفقة أو موحدة فيما يخص سياستها إزاء العمال، إن هذا برهان على المحتوى الطبقي لهذه القوى فيما يخص مواجهتها مع العمال. لقد اختارت السلطات مخاصمة العمال السافرة والعلنية، ومهاجمتهم في ابسط حقوقهم. إن هذه السياسة تضع العمال من جانب والسلطات، بل مجموع القوى السياسية صاحبة الأجندة الطبقية المعادية لمصالح العمال، في مواجهة طبقية صريحة تكشف النقاب عن وجه القوى التي كانت تسمي نفسها معارضة للديكتاتورية وداعية لحرية الشعب. إن زوال النظام وافتضاح أمرها، برهن إن معارضتها كانت ولا زالت للبحث عن نصيبها من السلطة وليس من اجل مصالح الجماهير.

إن موجة اعتراضات ضد القرارات القمعية قد انطلقت، وان إحباط مساعي السلطات لمنع العمل النقابي، سيكون مرهونا بمدى حضور العمال والقوى التحررية إلى الميدان، لان تمرير قرارات منع العمل النقابي سيكون مقدمة لقمع ومصادرة جميع الحريات، وتحول الديمقراطية إلى مجرد تعابير تخفي وراءها أشكالا من القمع.

إن تجربة قمع حق التنظيم العمالي والإضراب من قبل النظام السابق، وهو ما حصل مع الأسابيع الأولى لتوليهم الحكم عام 1968 عندما قمعوا بالنار إضراب عمال الزيوت الشهير، هي برهان على إن قمع العمال ومصادرة حرياتهم هي مقدمة لمسار قمعي.

إن مواجهة القرارات القمعية ضد النقابات، أيا كانت الذريعة، هي مهمة ملحة وحاسمة، لان تمرير سياسات القمع ومنع التنظيم ستطلق يد السلطات في منع كل ما يعارض سياساتها، وبالتالي فرض الاستبداد على المجتمع.