الحركة النقابية السودانية وانقلابي 25/مايو 1969 و19/يوليو/1971م


تاج السر عثمان
2008 / 11 / 8 - 06:19     

الحركة النقابية :
منذ دورة اللجنة المركزية في مارس 1954 التي صدرت عنها ً خطتنا في الظروف الجديدة ً ، ونتيجة لتلخيص التجارب السابقة التي خاضتها الحركة النقابية توصلت الدورة إلى ضرورة الفهم الواضح للنقابة بوصفها جبهة متحدة من الجماهير الكادحة من أجل المطالب المشتركة بغض النظر عن الاتجاهات السياسية أو الدينية أو الفكرية .
بهذا الفهم توصل الحزب إلى ضرورة استقلال الحركة النقابية عن الأحزاب والسلطة واستقلالية الحركة النقابية ، وتمسك الحزب بهذا المبدأ الذي ضمن وحدة الحركة النقابية ومركزها الموحد رغم الهجوم الضاري على ذلك المركز بهدف شقه واضعافه .. أيام الاستعمار ، وحكم الأنظمة المدنية والعسكرية بعد الاستقلال .
ويزداد تأكيد هذا الفهم بعد تجارب بلدان شرق أوربا ، التي كان الحكم يتم فيها باسم الطبقة العاملة بينما في الواقع أن الطبقة العاملة لم تكن تحس بأنها في السلطة أو تشارك فيها ، بل في بعض البلدان الاشتراكية تم مصادرة حق الإضراب باسم الاشتراكية وحماية مكاسب العاملين ، ليس هذا فحسب ، بل تم قمع إضرابات العمال ( كما حدث في بولندا ) .
وحول حق الإضراب نأخذ تجربة الاتحاد السوفيتي كمثال :
- كان لينين واعيا بأن النظام الاقتصادي في الاتحاد السوفيتي ظل رأسماليا ، لأنه ظل قائما على قانون القيمة الرأسمالية ، وبالتالي على العمل المأجور ، أي استخلاص فائض القيمة ، لذلك أقر المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي السوفيتي حق العمال في الإضراب وفرض على أعضاء الحزب في المصانع المشاركة في الإضرابات العمالية حتى ولو كانوا على خلاف مع الأغلبية التي قررتها . شن العمال سلسلة من الإضرابات دفاعا عن مستوى أجورهم أو ظروف عملهم . وعلى سبيل المثال :
- في 1922 شن 192 ألف عامل إضرابات في منشآت تابعة للدولة ، وفي 1923 كان عددهم 165 ألف ، وفي 1924 كان العدد 43 ألف ، في 1925 كان 34 ألف ، في 1926 كان 32,900 ألف ، وفي النصف الأول من عام 1938 كان 8900 ألف ،
ثم اختفت إحصائيات الإضراب وحق الإضراب نفسه من روسيا الستالينية ( العفيف الأخضر : انهيار رأسمالية الدولة الستالينية – قضايا فكرية – العدد 9 – 10 ) .
عندما طرح الحزب الشيوعي السوداني استقلالية الحركة النقابية عن الأحزاب والسلطة ، لم يكن يعني ذلك أن تكون الحركة النقابية السودانية محصورة فقط في النضال الاقتصادي أو تحسين مستوي العاملين المعيشي ، بل أسهمت بقدر لا يستهان به في المسائل القومية . فتأسيس الحركة النقابية السودانية في عام 1946 كان مرتبطا بنهوض الحركة الوطنية والجماهيرية بعد الحرب العالمية الثانية ضد الاستعمار ، وبالتالي لم يكن نضال الطبقة العاملة من أجل تحسين حياتها الاقتصادية ، ومن أجل حقها في التنظيم منفصلا عن النضال السياسي ضد الاستعمار ، فهذا الوضع لم يفتعله الشيوعيون ، ولكنه كان يعكس واقع الحال ، فضلا عن خصوصية السودان إذ أن 94 % من العاملين كانوا يعملون في جهاز الدولة الاستعماري ، أي أن جهاز الدولة الاستعماري كان اكبر مخدم ، وبالتالي كان العمال والموظفون لا يفرقون بين المخدم والإدارة الاستعمارية ، أن المخدم كان الاستعمار البريطاني نفسه – وبالتالي كان مبدأ النضال ضد الاستعمار مرتبطا بتحسين مستوي معيشة العاملين وانتزاع حق التنظيم النقابي . وتأكد ذلك من خلال اصطدام العمال مع الإدارة البريطانية ومخططها لفرض ً لجان العمل ً بدلا من ً هيئة شئون العمال ً التي كانت تعبر عن إرادة العمال في السكة الحديد عام 1947 . وكانت تلك هي البذرة الأولى لاستقلالية الحركة النقابية عن السلطة وتنظيماتها . وهذه واحدة من خصوصيات الحركة النقابية السودانية .. أنها فرضت استقلالها عن الأحزاب وعن السلطة الاستعمارية منذ بداية تأسيسها . ولم تكن الحركة النقابية مطية في يد الشيوعيين لأن الشيوعيين كانوا في تلك اللحظة يعدون على أصابع اليد . ولكن هذا الاستقلال لم يكن يعني أنها كانت بعيدة عن المسائل القومية بل كانت منغمسة فيها ، فنجد أن الحركة النقابية أسهمت في توحيد الصف الوطني من أجل الجلاء وحق تقرير المصير ، وأسهمت بجهدها من أجل وحدة البلاد بشمالها وجنوبها ، من خلال توحيد التنظيم النقابي في الشمال والجنوب ، كما أسهمت في ترسيخ وتعزيز الديمقراطية .. الخ .
ولكن لم يكن يعني ذلك أنه لم يكن للحزب الشيوعي أخطاء في عمله وسط النقابات .. كانت هناك أخطاء نأخذ منها الأمثلة التالية :
1 – بعد اتفاقية 1953 عارض الحزب الشيوعي الاتفاقية ( التركيز على جوانبها السلبية ) .. وبناءً على تلك المعارضة دعي اتحاد العمال في 1953 لإضراب ضد اتفاقية 1953 التي وافقت عليها الأحزاب الأخرى وعارضها الحزب الشيوعي . وكان هذا ربطا ميكانيكيا بين موقف الحزب الشيوعي واتحاد العمال . وبالطبع جماهير العمال نفسها لم تنفذ الإضراب وفشل مما يؤكد أن جماهير الطبقة العاملة لا تسير بشكل أعمي خلف أي قيادة ، بل تسير في الوجهة السليمة والمقنعة .
ولاحقا صحح الحزب الشيوعي موقفه من اتفاقية 1953 .. وأخذ في الاعتبار جوانبها الإيجابية من منطلق أنها جاءت نتاجا لنضال الشعب السوداني في الفترة السابقة .
2 – تأييد الحركة النقابية لانقلاب 25 مايو 1969 من خلال موكب 2 يونيو 1969 ، طبعا كما أشرنا في البداية أن الحركة النقابية السودانية منذ تأسيسها لم تكن محصورة في المسائل الاقتصادية بل ضربت بسهم وافر في المسائل القومية وقضايا الحريات الديمقراطية واستقلال السودان . وضد انقلاب 17 نوفمبر الذي صادر الديمقراطية ، وصارعت ضد توجهات الأحزاب التقليدية لإحداث انقسام في صفوفها ومن أجل استقلالها .
ولكن في نظري أن الحركة النقابية فقدت استقلالها تماما عندما دعت وخرجت لتأييد انقلاب مايو في 2 يونيو 1969 ، ذلك الانقلاب الذي صادر الديمقراطية ، بل حذف حتى من أول بيانين له استخلصهما من ميثاق اتحاد القوى الاشتراكية ً حق التنظيم النقابي والحريات النقابية ً . وكان هذا نذيرا بشر مستطير على الحركة النقابية نفسها ، كانت مسألة وقت : الاستفادة من تأييدها في دعم النظام ثم بعد ذلك يتم الهجوم عليها لتفتيتها وربطها بالسلطة نهائيا وهذا ما حدث .
هذا إضافة إلى أن التغيير نفسه لم يتم بوسائل ديمقراطية ، بل تم بانقلاب عسكري أطاح بحكم الأحزاب اليمينية التي لها جماهير لا يستهان بها وسط العمال والموظفين والمهنيين .. ومن الطبيعي أن هذه الجماهير معارضة للانقلاب .. وهذه الجماهير رغم سخطها على الأوضاع السابقة ، لايعني هذا السخط أنها تخلت ما بين يوم وليلة عن انتماءاتها الحزبية السابقة ، أو تنكرت لقياداتها السابقة . ( يؤكد ذلك موكب تشييع الرئيس السابق الأزهري بعد انقلاب مايو 1969 – والذي كان أضخم من موكب 2 يونيو 1969 – هذا يعني أن الجماهير لم تتنكر لتاريخ قادتها السابقين ) .
أقول بوضوح أن موكب 2 يونيو 1969 كان المنزلق لفقدان الحركة النقابية لاستقلالها ، لأنها ربطت نفسها بتأييد برنامج الانقلابيين الذي لم يتم فيه الإشارة بوضوح لاستقلال الحركة النقابية فضلا عن مصادرة الديمقراطية والأوامر الجمهورية التي كرست الديكتاتورية العسكرية ( الأمر الجمهوري الرابع صادر حق الإضراب وجعل عقوبته الإعدام ) .
هذا فضلا أيضا عن تخلى الحركة النقابية أو التباطؤ في الدفاع عن مستوى معيشة العاملين نفسها التي تدهورت بشكل فظيع ما بين مايو 1969 – مايو 1970 ( الزيادة في دخل الفرد – خلال ذلك العام – من العائد القومي وصل إلى 5 % بينما ارتفعت نقاط تكاليف المعيشة في ذلك العام إلى 12 % ) لم يتم التركيز على هذه القضية ، مقابل تأييد شعارات جوفاء باسم الاشتراكية والتقدمية .
3 – بالطريقة السابقة نفسها أيضا زج اتحاد العمال والمجلس العام للنقابات جماهير العمال والموظفين والمهنيين بالدعوة لموكب تأييد انقلاب 19 يوليو 1971 ، أو تأييد برنامج سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية ، الذي يعبر عن وجهة نظر سياسية واقتصادية وفكرية للتغيير لأقسام من العاملين والموظفين والمهنيين ، ولكن لا يعبر عن كل المشارب الفكرية والسياسية الأخرى لكل جماهير الحركة النقابية .
أخلص إلى أن تأييد الحركة النقابية لانقلاب 25 مايو 69 ، وانقلاب 19 يوليو 71 ، نسف مفهوم النقابة كجبهة واسعة للعاملين من أجل المطالب المشتركة بغض النظر عن الاتجاهات السياسية أو الفكرية أو الدينية .
وفي اعتقادي – أنه ربما كانت الحركة النقابية ستكون في الموقف السليم – إذا راقبت الموقف بحذر ويقظة بعد انقلاب مايو 1969 ، وانقلاب 19 يوليو 71 . وأن يكون المحك للتأييد ليس للشعارات والبرامج ، بل المحك هو :
أ – استقلال الحركة النقابية وديمقراطيتها والديمقراطية السياسية والنقابية عموما في البلاد .
ب – تحسين مستوى معيشة العاملين ، وتحسين أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
هذا المحك هو الذي كان – ولازال – يضمن وحدة الحركة النقابية – ويبعدها تماما أن تكون مطية لسلطة أو أحزاب .
ماذا كانت النتيجة ؟ النتيجة بعد فشل انقلاب 19 يوليو 71 لفقت السلطة التهم حول اشتراك الحزب الشيوعي في الانقلاب ومجزرة قصر الضيافة .. وإعدام قادة الحزب الشيوعي ومن بينهم الشهيد الشفيع أحمد الشيخ – رغم أنها تعلم علم اليقين أنه لاعلاقة له بالانقلاب . ولكن ساعد ذلك في تنفيذ مخططها بالهجوم الشامل على الحركة النقابية ، ذلك الهجوم الذي أفقدها استقلالها بضمها نهائيا للسلطة وحزب السلطة بعد انقلاب 22 يوليو 1971 الدموي .