لماذا تأسيس نقابة بالتعليم العالي


سعيدي المولودي
2008 / 4 / 19 - 09:55     

إن الحقبة التاريخية الراهنة في تاريخ الجامعة المغربية تخضع بهذا القدر أو ذاك لآثار منطق من التحول تحركه مجموعة من عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية تتنازعها مظاهر الارتباط بدائرة العولمة التي أسهمت في تغيير كثير من آليات حركة المجتمعات لتتحول شيئا فشيئا إلى مجتمعات تعيش تحت ضغوط الشركات المتعددة الجنسيات وأوامر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ورعب مواجهة الإرهاب الدولي السائد في السنوات الأخيرة.
ولقد تحددت في ظل التحولات المواكبة لمجرى هذه السمات وبصورة ما معالم الوضع العام للتعليم العالي الذي عانى من تصدع أساسي جعله بؤرة لتجارب متعارضة لمسلسل إصلاحات كانت تدبر من خارج حركة المجتمع ومن فوقها، بما جعله أفقا للتنكر للواقع المغربي الراهن وإكراهاته، وربما كان هذا نتيجة تلك النظرة الكلاسيكية اتجاه التعليم التي كانت ترى فيه معظم الأحيان منبعا للأزمات ولإلقاء تبعات الإحباطات والانكسارات التي عانت منها بلادنا عليه وعلى رجالاته.
إن ما يميز واقع التعليم العالي والجامعة المغربية في ظل هذه التحولات، منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، هو اعتماد إستراتيجية غير واضحة المعالم في مواجهة وتبديد المشاكل والمعضلات الاجتماعية والثقافية والتربوية التي تفرضها تحولات النظام التعليمي وانعكاساتها على دينامية المجتمع وقيمه، ومنذ بناء "جدار" ميثاق التربية والتكوين بدا أنه تم التوصل إلى تحديد معيار التحكم في جعل حقل التعليم منتجا ونافعا، غير أن ذلك كان اختيارا سياسيا قبل أن يكون اختيارا ثقافيا أو تربويا أو اجتماعيا بكل ما تعنيه دلالات هذه الألفاظ من عمق، ويدل مؤشر الإجماع الذي حظي به على هذا، وهو إجماع لا يكاد يتجاوز خطوط حسابات التوافقات السياسية الضيقة، ولم يسعف عمليات الإصلاح الممكنة للانخراط في الدينامية العامة للمجتمع، إذ لم تتجاوز أهداف الميثاق حدود الاستهلاك الرسمي.
وقد ساهمت الاختيارات العشوائية المتدثرة بأبعاد الميثاق في توسيع رقعة التعليم العالي ومضاعفة مهولة لمؤسساته بشكل لا يراعي بناء الجامعة المغربية على أسس جديدة، بمقدورها الإفلات من السقوط في دائرة الإفلاس، وتوزيع خارطة التعليم العالي اليوم يواجه صعوبة التكيف مع الواقع وإفرازاته الاجتماعية والاقتصادية، ومن الممكن القول إن الجامعة المغربية بفعل هذا التوسع المصطنع قد تشوهت وأصبحت مشدودة إلى عجلة الفشل الاقتصادي والاجتماعي.
ومع سوء التوزيع هذا، تدهورت وتراجعت صورة الأستاذ الباحث وأفلست مهامه وتم القضاء على دوره العلمي والثقافي والتربوي، وتعززت آليات القضاء على كثير من القيم الرمزية المرتبطة به، خاصة لما ترسخت على صعيد المجتمع قيم السوق والتنافس غير الشريف والتسويات المشبوهة التي كانت غاياتها توفير المناخ الملائم لسيادة التوازنات السياسية من أجل استمرار السلطة السياسية وتجديد قدراتها لمواجهة التهديدات الجذرية.
وكان شعار الإصلاح البيداغوجي عنوان تجريد الجامعة والأستاذ الباحث من مقوماتهما التاريخية والثقافية والتربوية، ومن كل معالم دورهما الرائد في تأسيس قيم الديمقراطية والحرية الفكرية والنقد والإبداع وتطوير التفكير نحو ترسيخ مبادئ التقدم والنمو، ولذلك لم يكن سوى آلية من آليات تفكيك الجامعة ومحاولة استنبات نماذج لجهل نمطي رخيص يفتقد أي بعد إنساني وأخلاقي، ويدفع بحقل التعليم العالي إلى أفق عجز هيكلي مزمن يتأتى معه فتح الباب بشكل منهجي لشبكة التدخلات الاقتصادية والسياسية التي ستلقي به في شراسة السوق وعدوانية مشاريعه القائمة على الربح الذي لا ينتهي.
ونظرة سريعة على ما راكمه الإصلاح البيداغوجي من مساوئ ومن أخطاء ومن عبث متناسل على المستوى الأفقي والعمودي للعمليات التربوية والتعليمية في التعليم العالي تكفي لكشف الاختلالات القوية التي حدثت على صعيد بنى التعليم العالي وأدواره، وعلى صعيد الهبوط بقيمة الأستاذ الباحث ومحاولة تحويله إلى مجرد "يد عاملة" رخيصة، يوضع في ظروف وشروط إدارية وتربوية وأكاديمية غير مقبولة، لا يستطيع معها أن يؤدي دوره التاريخي والعلمي والثقافي المفروض أن ينهض به.
ما يؤكده هذا الوضع الأسود فعلا هو أن الاستراتيجيات العمياء التي اعتمدت في إصلاحات التعليم العالي لم تسهم إلا في تفاقم أوضاعه وأوضاع العاملين به وأن هذه الاستراتيجيات لم تبن خياراتها على مشاريع تربوية دقيقة وعميقة للنهوض البعيد بالتعليم العالي وبعلاقاته الممكنة بالمشروع المجتمعي والاقتصادي، ولم ترتكز على أرضية ثقافية حضارية شاملة متميزة، وهو ما يحملنا للقول إن هذه الإصلاحات ضاعفت من حدة الفراغ الذي كان يحدق بالتعليم العالي، وحاولت الإسراع بتدمير إمكانياته وتوجهاته.
ولقد انخرط الأساتذة الباحثون في عمليات الإصلاح لأنه بدا ،ولو من بعيد، أنه فعل استراتيجي مرتبط بسياقات وضع سياسي معين وضع ضمن أولياته تطوير المشروع المجتمعي الحداثي والمشروع الثقافي التقدمي، لكن هذا الوضع وجد نفسه أمام سقوف لا يمكن بالمرة تجاوزها، ولم يرتب الأساتذة الباحثون قضاياهم ضمن لعبة هذا الوضع وخلفياته واحتمالات سقوطه، وانحسرت كثير من القيم المادية والمعنوية التي كان من الحتمي الدفاع وعدم التنازل عنها، فسرعان ما انمحت صورة الأستاذ الجامعي التي كانت ثابتة في التاريخ العميق للجامعة المغربية، واستبدلت بصورة تداخلت أبعادها لترسم وجهة قاتمة تكاد تقود إلى نقص في المعرفة والكفاءة وقصور في النهوض بالدور الأكاديمي الفعال، وقد تبدو هذه الصيغة ضربا من الغلو ، ولكنها جزء من الحقيقة التي أصبحنا نصطدم بها اليوم مع هوية الأستاذ الباحث.
في كل الأحوال لقد أثبت الإصلاح من المنظور التربوي والاقتصادي والثقافي، أنه فشل عمليا في سبيل توفير الشروط الملائمة للنهوض بالجامعة المغربية واسترجاع موقعها الاستراتيجي المفروض أن تحتله في صلب عمليات التحول التي حدثت على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ورفع بذلك من معدل الآثار السيئة للعملية التربوية والأكاديمية والعلمية.
وساهم في تعميق آثار هذا الوضع تراجع الأداء والفعل النقابي إلى الصفوف الخلفية، حيث هيأ المجال لتنظيم المزيد من التراجعات، وكان جوهر هذا التراجع قاتلا في قلب هوية الأداة ( النقابة ) التي خانت دورها وحقيقتها واحتمت بظل إطار قانوني جمعوي يلغي كل إمكاناتها وطاقاتها النضالية، ويرسخ خيارات المهادنة والهروب من مواجهة المشاكل التي طرحتها مراحل الإجهاز على مقومات الجامعة المغربية ومكانة الأستاذ الباحث ودوره، وكان التماهي مع مبادرات الوزارات الوصية المتعاقبة على القطاع مظهرا بارزا لهذا التراجع ولقصر النظر وغياب أسباب الوعي الممكن بحجم الأخطار التي تحدق بحقل التعليم العالي، من هنا ظهرت مجموعة من التناقضات في عمل الجهاز الذي خدع الأساتذة الباحثين باعتباره " نقابة" ومفارقات غريبة في فهم وإدراك وضع التعليم العالي والأستاذ الباحث في ظل التفاعلات المتولدة، والتي شكلت خلفية الإصلاح، ووقف هذا الجهاز موقف الذي لا حول له لا قوة تاركا الجامعة المغربية والأستاذ الباحث في مواجهة مصيرهما مع الاختيارات المدمرة، وآليات التشكيك في دورهما ومصداقيتهما معا.
كانت إستراتيجية الجهاز النقابي الخادع واضحة تماما، الانخراط العملي في مسيرة إعاقة دور الجامعة والأستاذ الباحث وإرساء نظام جديد من شأنه أن يتيح انفلاتا آمنا من شروط ومتطلبات خلق جامعة مغربية حقيقية، ومن شأنه أن يعطي دفعا قويا لإجراءات القضاء عل دورها الفاعل والفعلي في صلب الحركية الاجتماعية.
لقد تم تصنيف الجامعة في الخطاب الإصلاحي الرائج بأنها ثكنة لإعداد جيش العاطلين وبأنها على هامش التطور الذي يشهده المجتمع وأن طرائقها التربوية والأكاديمية عقيمة وغير مجدية، ولكن فعل الإصلاح لم يفعل أكثر من أن يعمق هذه الصورة وأن يجعل منها مشكلة اقتصادية واجتماعية وثقافية، وأن يرسخ تداعيات هذا المنظور بشكل بشع، وهو أسلوب مبادرة إلى تطبيق إجراءات التصفية الهادئة للجامعة وإخضاعها لمرونة أو تشويهات بالأحرى من أجل تكييفها مع طرائق الإجهاز المتطورة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية التابعة المتبعة، والتي تصب في نهاية المطاف في مجرى أن التعليم العالي الذي يعجز عن تمويل ذاته بإمكانياته الخاصة لا يستطيع البقاء، وأن الأستاذ الباحث لا يمكن أن يظل عبئا على الدولة بل هو "قوة عمل" ينبغي أن تتكيف مع سوق الشغل وتقلبات العرض والطلب.
كمحصلة، فإن ما تعرض له التعليم العالي منذ عقد من الزمن أو يزيد ينطوي على مخاطرات كبرى، خسر في ظلها أهميته الإستراتيجية تربويا واجتماعيا وثقافيا، وهو ما يفرض التجند الكامل لإلغاء هذه المعالم، ومواجهة الاهتزازات التي تحاصره، وتأسيس إطار نقابي فاعل ينطلق من أرضية نضالية وحقوقية وثقافية ونقابية ملتزمة واضحة، يعمل دون تردد أو تحفظ من أجل حماية الجامعة المغربية كفضاء للحرية والبحث والفكر الحر والإبداع وإنتاج المعرفة، ورد الاعتبار للأستاذ الباحث كفاعل مسلح بإرادة المعرفة والتغيير للمساهمة في التحولات والإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلادنا، وتحرير ظروفه وشروط عمله من ضغط الحسابات السياسية والاقتصادية التي تستهدف دوره التاريخي المضيء.