عيد العمال


رضي السماك
2002 / 5 / 9 - 09:11     


يخطىء من يعتقد أن القيم والمثل المرتبطة بإعلاء قيمة العمل وإحقاق إنسانية العامل وإنصافه وتقدير دوره الرئيسي في الانتاج والتنمية هي تخص الفكر الاشتراكي تحديدا، بل ان اعتقادا كهذا هو بمثابة إسداء وسام مجاني - بوعي أو بدون وعي - إلى هذا الفكر تحديدا ومنحه حق احتكار واحدة من أعظم القيم الإنسانية المشتركة فيما بين جميع الديانات السماوية - وبخاصة الإسلام - والفلسفات والحضارات الإنسانية جمعاء.

لكن للأسف ثمة أوهام وحساسيات مازالت عالقة لدى بعض التيارات السياسية تجاه هذه القيم والمثل والاعتقاد أنها تخص تيارا خصما بعينه، بل من المفارقات التاريخية التي عززت هذا الاعتقاد الشائع قصة فكرة تخصيص عيد عالمي للعمال في أول مايو من كل عام، فمع أن الفكرة كما هو معروف ارتبطت بحادث تاريخي وقع في الولايات المتحدة عام 1886، أي قبل قيام الاتحاد السوفيتي حيث راح عدد من عمال شيكاغو المضربين عن العمل ضحايا لرصاص "البوليس"، الا انه بسبب اعتناء الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية بهذا العيد وحفاوتهم البالغة به، وهو أمر طبيعي ومتوقع منهم باعتبارهم يتبنون فكرا يقوم على ضمان حقوق العمال وتمجيد دورهم في المجتمع في المعترك السياسي نقول: بسبب ذلك تعزز الخطأ الشائع بأن هذا "العيد" إنما هو عيد الشيوعيين والماركسيين الملحدين! مع أنه لم يكن لهؤلاء دور رئيسي في فكرة إرسائه عالميا، ومع أن هذا العيد تحتفل به دول وأنظمة وتيارات اجتماعية مختلفة. في البحرين التي شهدت ميلاد أقدم طبقة عاملة في الخليج العربي قدمت اسهامات وتضحيات جسيمة سواء على صعيد ما قطعته البلاد من شوط في التنمية أم على صعيد النضالات السياسية من أجل التحرر الوطني من الاستعمار والاستقلال والتحول الديمقراطي،

ظلت هذه الطبقة للأسف محرومة طويلا من حق الاحتفال بهذا العيد ولو رمزيا وكانت أول مبادرة تاريخية لمحاولة إقرار هذا الحق تمت على يد "كتلة الشعب" البرلمانية في المجلس الوطني السابق حيث تم وأدها بسرعة وكان أقوى المتصدين للمحاولة التيار الاسلامي انطلاقا من نفس الأوهام والحساسيات الخاطئة، مع أن الجمهورية الإسلامية الايرانية أقرت بعدئذ هذا العيد للعمال الإيرانيين! وهو نفس العيد الذي يحتفل به عدد كبير من الدول العربية والإسلامية. في مارس من عام 1980شاءت المقادير التاريخية أن أكون شاهدا على بدايات اختمار المحاولة الثانية لاقرار هذا الحق، فقد كنت أحد أعضاء وفد البحرين الى مؤتمر العمل العربي في بغداد برئاسة وزير العمل الأسبق الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة، وكان الوفد كما هو معروف ثلاثي التمثيل (حكومة وعمالا وأصحاب أعمال) وأتذكر حينما أننا كنا على مأدبة عشاء جمعت أعضاء الوفد جميعا بأحد المطاعم العراقية همست في اذان بعض زملائي أعضاء اللجنة العمالية مقترحا عليهم فكرة انتهاز هذه الفرصة لعرض الموضوع مجددا على سعادة الوزير فاستحسنوا الفكرة وفعلوا ورحب بها الوزير من جانبه بالفكرة مبدئيا وطلب إليهم متابعتها معه في البحرين لدراستها.

ثم مضت الأيام والشهور حتى أصبحت الفكرة حقيقة واقعة بعد عام أو عامين ليحتفل بهذا العيد ولو رمزيا كل عام حتى بلغ درجة من التطور على نحو ما سنشهده اليوم في حفل عيد العمال برعاية وزير العمل والشئون الاجتماعية الأستاذ عبدالنبي عبدالله الشعلة. ومع ذلك ورغم ولوجنا مستهل عصر الشفافية والتحول الديمقراطي مازال البعض منا يجفل من فكرة الاحتفاء بهذا العيد، هذا مع أن ديننا الإسلامي هو أكثر الديانات انصافا في مبادئه للعامل. } من أشعار العمال: كل ما في البلاد من أموال ليس إلا نتيجة الأعمال إن يطب في حياتنا الاجتماعية عيش فالفضل للعمال وإذا كان في البلاد ثراء فبفضل الانتاج والابذال

معروف الرصافي *** ساكنين علالي العتب أنا اللي بانيها. فارشين مفارش قصب.. ناسج حواشيها يا رب ماهوش حسد لكن بعاتبكم.. بيرم التونسي

لو أن الأمة لم تبتل في تاريخها المعاصر بداء التعصب على اختلاف آفاته الدينية والطائفية والسياسية لما وجدت كل فرقة نفسها تمقت ــ لا شعوريا ــ إنصاف وتمجيد نفس الرموز والقيم المشتركة إنْ فيما بين الديانات السماوية وإنْ فيما بين طوائف الدين الواحد، وإنْ فيما بين التيارات السياسية.. لا لشيء سوى لأن دينا آخر غير دينها، أو طائفة أخرى غير طائفتها، أو تيارا آخر غير تيارها، هو أكثر تمسكا بذات الرمز المشترك أو هو أكثر تمسكا بذات المبدأ المشترك ومن ثم يغدو تجاهل هذا الرمز أو هذا المبدأ حتى لو كان مقدسا مشتركا هو بمثابة نكاية بالدين الآخر أو الطائفة الأخرى الخصم، فقط لأنه يبالغ في التمسك به أو يتخذ منه واحدا من شعاراته الأساسية.

وفيما يتعلق بموقف الإسلام من العمل والعمال والعدالة الاجتماعية عامة فتراثه العظيم يزخر بالقيم والمثل والمبادىء التي يسمو بها في أنصاف العمال والأمثلة والاستشهادات على ذلك كما جاء في القرآن الكريم وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة والأئمة أكثر مما تحصى سواء فيما يتعلق بحق العامل في أن يستوفي أجره كاملا (قال الرسول: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) أم فيما يتعلق بحق العمل نفسه، أم فيما يتعلق حتى بالتحذير من مغبة البطالة والبطر الاستفزازي (قال الإمام علي: "ما من نعمة موفورة الا وراءها حق مضيّع".. وقال "احذروا صولة الكريم اذا جاع واللئيم إذا شبع"). لهذا فلعل واحدة من رزايا انقسام الأمة أنظمة وأحزابا وطوائف هي ان مجمل أو معظم ما حققته البشرية من انجازات انسانية عظيمة على صعيد تشريعات وظروف العمل انما تحققت بالدرجة الأولى على أيدي تيارات وحركات وأنظمة لا ترفع لا شعارات إسلامية ولا قومية وهذه حقيقة لا يمكن أن يماري فيها إلا مكابر. خذ على سبيل المثال احدى جمعياتنا الإسلامية التي سبقت الجمعيات اليسارية في إقامة ندوة عن البطالة أين هي اليوم من عيد "المستضعفين"؟! نعم شريحة "المستضعفين" واسعة ومتنوعة، لكن من ينكر أن العمال يشكلون واحدة من أبرز الفئات الرئيسية المغبونة في هذه الشريحة؟!

وهكذا كما نرى فإنه اذا كانت الدولة تتحمل مسئولية عليا سياسية وقانونية وأدبية تجاه العمال فان ذلك لا يعفي القوى السياسية بأي حال من الأحوال من أن تتحمل أيضا جزءا من المسئولية الأدبية. خذ على سبيل المثال المبادرة الرائعة النادرة التي أقدم عليها في العام الماضي رجل أعمال صغير هو الصديق حسن حبيب بإعطائه عمّاله إجازة مدفوعة الأجر في عيد العمال بمبادرة من ذاته متوخيا المصداقية في ربط ما يؤمن به من قيم ومبادىء بالممارسة، ولنتساءل: كم رجل أعمال يثرثر اليوم متفاخرا بشعارات اسلامية أو قومية أو اشتراكية طبق عمليا واحدا من هذه الشعارات ولو بصورة جزئية في نطاق مؤسسته؟! على أية حال فقد بات من الأهمية بمكان ان تغتنم كل القوى السياسية والشعبية ممن تعز عليهم حقوق وأوضاع العمال ورفع معدلات التنمية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الاستقرار والأمن الداخلي ان تغتنم مناسبة هذا اليوم للعمل الحثيث والدؤوب لتحقيق مهام آنية ملحة مترابطة من هذا العيد حتى العيد القادم (مايو 2003): أولا: بذل أقصى الجهود الممكنة للقضاء على أعلى نسبة من البطالة وإحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية.

ثانيا: بذل أقصى الجهود الممكنة لجعل مطلب "الحد الأدنى للأجور" ـــ الذي يتهرب منه رجال الأعمال وبخاصة الكبار منهم بذرائع واهية ــــ حقيقة قائمة. ثالثا: العمل على تحسين ظروف أكثر الفئات العمالية غبنا واستعبادا في مجتمعنا ألا وهي العاملات في البيوت (الشغالات) وينبغي عدم إهمال تكريمهن في مثل هذا العيد. رابعا: بذل أقصى الجهود الممكنة من أجل سن قانون ملزم لجعل أول مايو ليس فقط مهرجانا احتفاليا رمزيا سنويا بل إجازة بأجر لكل العمال كحق عالمي مشروع. وكل عام وأنتم بخير جميعا.