من ذكريات عامل في: الريف والمدينة


جهاد علاونه
2007 / 6 / 27 - 12:15     

كل شيء له قيمة غير عادية في المجتمعات العربية المتخلفة وأكثر الأشياء التي لها قيمة هي التي تبدو للمثقفين تافهة ولكن نحن اليوم أمام موضوع خطير جدا وهو :
العمال والشغيلة ليست لهم قيمة ومن الظاهر أن الأشياء والأدوات التي يستخدمونها في عملهم لها قيمة أكثر من قيمتهم.
وقد دخلت منازل غالبية الناس سواء أكانوا من ذوي الدخل المحدود أو من ذوي الدخل غير المحدود بشقيه المتدني والعالي ودخلت بيوت الناس وللبيوت أسرارها ولكنني لمست في كل البيوت شيئا واحدا ولكثرة تداوله بين الناس لم يعد سرا نخبؤه أو نطويه تحت سريرتنا وهذا الشيء الذي لم يعد سرا هو أنه:ليس للعمال والشغيلةأي قيمة تذكر .
فأصحاب المنازل يبحثون عن المواد الجيدة لإستخدامها في منازلهم ومن النخب الأول والطراز الأول ويدفع ون آلاف الدنانير وهم يضحكون ويلعبون ولكن لم يفكر أي حقير من هؤلاء أن يدفع للعامل والشغيل أجرا جيدا أو مقبولا.
وقد كنت أعمل في إحدى السنيين والتي مرت على ذاكرتي في بناء المساجد وكنت أواجه صعوبة جمة في التعامل مع العقول الدينية والتي كانت توجه لي خطابات عن العدالة والمحبة والحقوق مع كل طلعة شمس وكل مغيب....إلخ...وكنت أنجرأ أحيانا على المطالبة بحقي في كذا وكذا وكانوا حينما يسمعون بدفع الإجار كانوا يقولون لي:إتقي الله يارجل أتريد أن أدفع لك عش رة دنانير على اليوم الواحد والله إنك لا تخاف الله وأنت فعلا واحد نصاب , وكنت أضحك كثيرا لهذا الإعتراض وأقول لهم:لماذا لا تعترضون على إرتفاع الأسعار وعلى إرتفاع أسعار مادة الحديد والطوب -البلك- والإسمنت عندها ينظرون لي وهم يقولون هذه إرادة الله يا أخي, وكنت أرد عليهم بالقول: لماذا لا تعتبرون أجري إرادة الله مثل إرادته في رفع أٍسعار المواد الخام ومواد البناء , فيقولون لي : إستغفر الله يارجل أنت تعترض على إرادة الله , ومع ذلك كنت ألاحقهم بالنقاش وأقول لهم :
-إنها إرادتكم أنتم وليست إرادة الله
لا حول ولا قوة إلا بالله في هذا العامل النشاز والله ما ناقشنا عالما إلا وأفحمناه وما ناقشنا جاهلا إلا وغلبنا.
-أتعتبرون أنفسكم علماء وقد إنتهى إليكم علم أصول الدين والحديث وتعتبرونني عاملا وشغي لا جاهلا ليس لي قيمة تذكر ؟
-لالالا لم نقل ذلك ولكن قيمتك في الحيا ة الآخرة وفي الدنيا أيضا عندما تطلب أجرا مساويا للعمل الذي تقوم به
-هل الأجر الذي أطالب به لا يساوي أجري وأكبر من قيمة عملي إذا كان هذا الكلام صحيحا فما المانع من أن يكون ثمن كيس الأسمنت الذي تشترونه لمنازلكم لا يساوي ثمنه الحقيقي؟
-إسمع إنت واحد جاهل وشيوعي وملحد ولا تدخل المسجد للعمل بعد اليوم

هذه الحادثة البسيطة والتي رواها صديق لي مغترب ولا تعني أن هذا السلوك خاص بالقائمين على بناء المساجد فهذه الظاهر ة موجودة عند كافة شرائح المجتمعات العربية ولكني أعتب هنا عتبا من دافع المحبة والغي رة على الذين يتخذون الدين وسيلة لتهريب أفكار سامة مثلها مثل المخدرات وبذلك يصبح الدين عل ى حد تعبير ماركس أفيون الشعوب.
فمعظم العمال الذين يشكون من سوء سلوك أرباب المنازل يشعرون بما أشعر رغم أنهم أناس بسطاء ولم يقرأوا عن الماركسية لا ولا حتى عن أي شيء وغير شيوعيين على الإطلاق .


العمال والشغيلة أناس طيبون يضحكون لكاس من الشاي أو فنجان من القهوة ويضحكون للشمس الطالعة في فصل الشتاء حين تلقي عليهم بدفئها ويضحكون للغيمة التي تضلل رؤوسهم في عز الظهير ة وحين تكون الشمس عامودية في وسط النهار ويشعرون أنهم مثل الأنبياء والرسل وقد كنت فيما أذكره حين أحدث أمي عن الغيمة التي ظللتني في يوم حارق كان ترفع يديها وتبتهل لله وهي تقول :ألله بسمع مني يا ميمتي الي وم دعيت الله يخفف عليك نار الشمس , وكنت أبكي حين أسمع سذاجة أمي وكنت أناقض نفسي حين أشعر أن الغيمة: ضللتني فعلا مثل الأنبياء والرسل وكنت أقول لأمي لأطمئنها :العمال يا أمي من أولي العزم عشانهم بتعبوا وإصحاب الدور بستخصروا فيهم كاسة شاي أو قنينة ميه -ماء-بارد!

هنيئا للعمال والشغيلة وهنيئا لدموعهم وكفاحهم وحظا أوفر للذين عاشوا حياتهم وهم محرومين من :الدموع والكفاح والإنفعالات ,.
هنيئا للذين لا قوا حتفهم وهم على الصقايل والعارضات وحظا أوفر للذين ماتوا وهم على فراشهم وفي حضن زوجانهم وصديقاتهم العواهر .
هنيئا للعمال والشغيلة الذين ماتوا وهم يتألمون من مشقة العمل والسفر وحظا أوفر للذين ماتوا في منازلهم بالأمراض الخبيثة وماتوا على فراشهم كما تموت البهائم.

ورحم الله العامل الفنان سيد درويش ولعنة الله أصحاب المقاهي ودور المخدرات.

العمال طيبون وقد عدت اليوم من عملي بقلب كنت أعرفه أنه طيب ولكنه خدش هذا اليوم واستحى على نفسه وأحس بخدش حياء ربات البيوت حين سألت صاحب المنزل المليونير أن يعطيني زجاجة ماء بارده وقد نظر لي نظرة شزرى وقال : ما بدك كمان مروحه مع فرشه تنام عليها؟
مع أنني عامل وإنسان بسيط أضحك لرغيف الخبز وللوردة وللأعمال الإنسانية وقد شعرت يومها أنني حيوان وبلا قيمة وعل ى كل حال لكل شيء وقت للحساب وسنحاسب هؤلاء قريبا على أفعالهم الجبانة والحقيرة ولن يرضى عنهم لا الله ولا المسلمين ولا النصارى ولا اليهود ولا الشيوعيين يوم لا ينفع ظل إ لا ظله ويوم تبدل السماوات -السموات- والأرض .
وأنا مبسوط جدا وأغني لدموعي دائما وهنيئا لي بلقمة الخبز المبللة بالدم والسم والمغمسة بالدموع والإنفعالات وسلام عليّ يوم أبعث وأقف أمام الله وأسأله : هل هذا الشاكوش الذي بيدي هو أفضل مني وهل هذه الخشبة التي كنت أستعملها أفضل قيمة مني وهل هذا المقص والذي أقص به الحديد هو أفضل مني وثمنه أكثر من أجرتي بما يعادل شهر كامل من العمل؟ إذا كنت قد علمت لعبادك هذه الأفكار فلماذا قلت في كافة أعمالك الكاملة بدءا من التورا ة وإنتهاءا إلى القرآن أن :الإنسان أفضل من الملائكة وفي النهاية تفضل عليه كيس إسمنت وخشبه ومقص حديد...الخ

من ذكريات عامل في الريف والمدينة:1997م