أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - قاسم المحبشي - ملاحظات أولية في نظرية الاستشارة الفلسفية















المزيد.....


ملاحظات أولية في نظرية الاستشارة الفلسفية


قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)


الحوار المتمدن-العدد: 6425 - 2019 / 12 / 1 - 15:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تعد المؤتمرات والملتقيات والندوات والورش والسمنارات العلمية والفكرية، من الأدوات الفاعلة في المؤسسات الأكاديمية، تسنح بها الفرص للباحثين من أعضاء الهيئة التدريسية والتدريسية المساعدة في الجامعات وطلاب الدراسات العليا وطلاب البكالوريوس، وغيرهم من المهتمين بالموضوعات المراد مناقشتها- نقول تسنح لهم الفرصة للتعارف والتحاور بشأن المشكلات التي تتصل بتخصصاتهم العلمية والتعرف على النظريات والمناهج المستجدة فيها. فضلًا عن اكتساب المزيد من فهم الذات وفهم الأخرين الذي بدون التواصل معهم والاتصال الدائم بهم لاسيما من أهل الاختصاص يظل المرء جاهلًا بذاته وقدراته المعرفية وحدودها. إذ أن الأخر مرآة الذات، ولا يتم كشف المحجوب عن ذواتنا الا عبر ومن خلال الاحتكاك بالآخرين. فقد يظن المتعلم المنغلق على ذاته أنه قد بلغ سدرة المنتهى بما لديه من معرفة ضئيلة في مجال تخصصه! وحينما يحتك ويشتبك بأهل الاختصاص من ذات الصنعة يكتشف مدى جهله بما كان يعتقد أنه حائزه من معرفة. مررت بهذه المرحلة ( مرحلة الغرور الأجوف ) في سنوات سابقة من حياتي والحمد لله تحررت منها وأدركت مدى جهلي، وذلك بفضل الفلسفة التي تعلمنا جهلنا. ومن كان سقراطيا أي يعرف أنه لا يعرف شيئًا فقد حاز طرفًا من الحكمة. وحينما ذهبت للمشاركة في المؤتمر الدولي عن فلسفة التعليم بجامعة القاهرة، كنت قد تحررت بمن عقدة الأكاديمي المدرسي.ذهبت وأنا في منتهى الرغبة والحماسة للاستماع إلى ما يقال من روى وافكار، لكي أتعلم منها وأتدبر أمرها فيما بعد.لم أكن معتدا كثيرا بما سوف أقدمه للمشاركين بل ما سوف اعرفه واتعلمه منهم وهذا يفسر حرصي الشديد على حضور كل الجلسات والاستماع إلى كل المتداخلين بيقظة واهتمام رغم الإرهاق والنعاس الذي حاول يغلبني في بعض الجلسات لاسيما تلك التي كان موعدها بعد تناول وجبة الغداء مباشرة. ولا أعرف هل كان من سوء حظي أو من حسنه أن يتصادف تقديم ورقتي البحثية في الجلسة الرابعة في اليوم الأول بعد يوم مضني من العمل وبعد تناول وجبة الغداء مباشرة؟! قدمتها شفاهة كيفما اتفق وأنا أعلم بأن المشاركين قد اصابهم الإرهاق مثلي ولست راضيا عن نفسي. وكنت أتمنى أن يتم تأجيلها إلى صباح اليوم التالي. ولكن ما باليد حيلة للبرنامج ضوابطه ومحدداته. على أي حال لم تذهب مشاركتي بالمؤتمر سدى بل غنمت منها الكثير والكثير من المعارف والأفكار والتعرف على نخبة من الأصدقاء الأعزاء والصديقات العزيزات من العيار الثقيل، وهذا الأخير يعد مكسبا جديرا بالقيمة والاعتبار. ومما أثار انتباهي واهتمامي ورقة قدمها الدكتور سامح الطنطاوي استاذ فلسفة الجمال في جامعة حلوان تضمنت افكار جديدة كنت أجهلها إذ اطلعنا على نظرية حديثة في مجال استئناس التفلسف باسم ( الاستشارة الفلسفية). جاء فيها (( ويعد جيرد "أشينباخ" مؤسس الاستشارة الفلسفية أو إذا صح التعبير "الشورى الفلسفية"والتى بدأ ظهورها على يديه عام (1981)، بوصفها نموذجا مهما لتطبيق وممارسة الفلسفة فى الحياة، وذلك من خلال علاقتها بمشكلات الحياة اليومية، وكأداة مهمة لمساعدة الفرد على اضفاء معنى على وجوده فى الحياة. يقول: "أشينباخ"فى كتابه "الاستشارة الفلسفية" "أنه قام بصياغة فكرة الاستشارة أو (الشورى) الفلسفية فى عام 1981مع أول تأسيس عالمى لهذه الثقافة. وفى عام 1982تم إنشاءجمعية الاستشارة الفلسفية"فى مدينة بيرجش جلاد باخ "Bergish Gladbach"القريبة من مدينة "كولونيا" بألمانيا، التى تطورت فيما بعد إلى اتحاد يشمل العديد من الجمعيات الدوليةإن المقاربة التى اعتمدنا عليها فى تقديم رؤية "أشينباخ" للاستشارة الفلسفية هى مقاربة مفتوحة تعتمد على منهجية تأويلية للتواصل مع كل ما هو جديدحول رؤيتنا للعالم، فالحياة لديه هى عملية متواصلة من التأويلات لمحاولة الوصوللفهم حقيقى لكل ما يدور حولنا من أفكار، إن كل استشارة فلسفية عند "أشينباخ" تقدم رؤية جديدة للعالم حول موضوع معين له أبعاده وتوجيهاته المختلفة عن غيره، من حيث التوجه الفكرى، وخصوصية الموضوع، وطبيعة النظرة الكلية له، ودرجة انفتاح وتوجه الشخص الذى يتم التحدث معه)). وهذا ما دفعني إلى المزيد من البحث عن معنى الاستشارة الفلسفية في الشبكة العنكبوتية. الدكتور سامح مشكورا أهداني دراسة العلمية المنشورة في دار المنظومة 2019. قرأتها باهتمام وحاولت البحث عن المزيد وكانت الخلاصة التي اجتمعت لي من التعرف على هذه النظرية الجديدة هي التالية: ظهرت فكرة الاستشارة الفلسفية أو العيادة الفلسفية في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية في لحظة أزمة التحول الحضاري الكبير من الموجة الثانية إلى الموجة الثالثة. في الثلث الأخير من القرن الماضي وبعد ثورات الشباب في فرنسا والدول الأوروبية. شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثاً عاصفة ومتغيرات متسارعة في مختلف الصعد الحضارية والثقافية والمدنية، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة للروح والعقل معاً، إذ بدا الأمر وكأن التاريخ يترنح والأرض تميد بأهلها، والقيم تهتز والحضارة تضطرب، والفوضى الشاملة تجتاح كل شيء، وبازاء هذا المشهد القيامي المجنون تحيرت افضل العقول، وفقد العقل الإنساني بصيرته وقدرته النيرة في رؤية الأحداث وما ورائها، ومن ثم تفسيرها وتحليلها والكشف عن ثيماتها العميقة المتخفية في سبيل فهمها وعقلنتها وإدراك معناها.
ووسط هذا السديم الحالك من الاضطراب العظيم والعمى الشامل، آخذ العلماء والمفكرون والمؤرخون يبحثون عن تفسير معقول لما يعتمل في لواقع ويدور في عالم جن جنونه وأصاب الناس جميعاً بالدهشة والذهول! فهذا المؤرخ الإنجليزي المشهور " جفري باراكلاف" من جامعة اكسفورد يكتب تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة:" إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وان أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد، إن لم يكن قد فقد سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم" هذا الإحساس المتشائم بعدم جدوى التاريخ سرعان ما سرى كما تسري النار في الهشيم بين قطاعات واسعة من الفئات المثقفة الأورأمريكية وهذا ما افصح عنه المؤرخ البريطاني " ج. هـ. بلومب " في كتابه " حيرة المؤرخ" عام 1964م، بقوله: " ليس للتاريخ معنى أو فاعلية أو رجاء، فقد اندثرت فكرة الرقي والتقدم الصاعد بين المشتغلين بالتاريخ، في ـ 90% منهم يرون أن العمل الذي يمارسونه لا معنى له على الإطلاق" وقد بلغ هذا الموقف المتشائم من التاريخ والمعرفة التاريخية عند المؤرخ الأمريكي " دافيد رونالد" من جامعة هارفارد حد الرفض للتاريخ والتشكيك بقيمته وأهميته في كتاب يحمل الاستفزاز والتحدي صدر عام 1977م بعنوان ( تاريخنا بلا أهمية) أكد فيه عدم فائدة التاريخ الحاضر والماضي والمستقبل وأعلن: أن التاريخ يظهر مقدار ضعفنا وأننا لا نتعلم من اخطأ الماضي، وما اقل تأثيرنا فيما ينزل بنا من أحداث وما أشد عجزنا في قبضة قوى طبيعية أساسية هي التي تشكل الوجود الإنساني"ويمكن لنا تتبع حيرة الفكر المعاصر إزاء ما شهده العالم ولا يزال يشهده من اضطراب شامل في ذلك السيل المتدفق من المحاولات التنظيرية التي ترغب في توصيف ونمذجة وعقلنه المشهد التاريخي الراهن في أطر مفهومية مجردة وكلية، إذ أخذ الفلاسفة والمفكرون منذ أواخر القرن العشرين يتسابقون ويتنافسون في صياغة وإبداع ونحت المفهومة المعبرة أو الصورة الفكرية التي يمكن لها ان تعبر عن العالم المعاش، وتمنح الحقبة الجديدة اسمها ومعناها. ومن تلك التوصيفات يمكن الإشارة إلى اشهرها وهي: العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد القومية، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الأيديولوجيا، ما بعد الاستعمار، ما بعد البنيوية، ما بعد التنوير، ما بعد الشيوعية، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد التاريخ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، عصر الليبرالية الجديدة، عصر التفكيك، مجتمع الفرجة، أو الاستعراض، عصر الكمبيوتر، ثورة المعلومات والاتصالات، أو صدام الحضارات، القرية الكونية، نهاية عالم كنا نعرفه" مجتمع الاستهلاك، عصر الديمقراطية، عصر التقنية، عصر التنوع الثقافي، العهد الأمريكي أو الأمركة، عصر الإرهاب العالمي، السوق الحرة والوطن السيبرنيتي، عصر الفضاء، والكوكبية.. وغير ذلك من التوصيفات الكثيرة في أبعادها المتنوعة.من وسط هذا الفضاء الثقافي المزدحم بالنظريات والرؤى يطلع علينا ( آلـڤين توڤلر) بتوصيف مختلف لازمة الحضارة العالمية، ولكنه مثير وجدير بالاهتمام والتأمل، هو ما أسماه بــ ( عصر الموجة الثالثة ) وتوفلر هو صاحب كتاب ( صدمة المستقبل 1960). ( ينظر، قاسم المحبشي ، الوفين توفلر وحضارة الموجة الثالثة 2010) ، ربما كان هذا التحدي الحضاري الذي واجهه الفكر الإنساني الاوروأمريكي، هو ما حفز الفلاسفة إلى استئناف الحضور ومعاودة الفعل السقراطي. ظهرت في السنوات الأخيرة مشاريع مختلفة تقع تحت باب “العيادة الفلسفيّة”، سواء أكانت في شكل محادثات فرديّة أو محاورات جماعية. وتضمّ “الجمعية الدولية الناطقة بالألمانية للممارسة الفلسفيّة” مائة وخمسين عضوا. أمّا الاتّحاد الأمريكي المعروف باسم “الجمعية الوطنية للاستشارات الفلسفية” فيشمل حوالي أربعمائة عضو، أي ضعف ما كان عليه العدد قبل سنتين. وهناك في ألمانيا مقاه فلسفيّة، وكذلك الفلسفة للأطفال والرحلات الفلسفيّة ومجلاّت فلسفيّة للعموم مثل “المجلّة الفلسفيّة” و”هواء الأعالي” لماذا يهتمّ كلّ ذلك العدد بالفلسفة، وهي اختصاص اعتبر لوقت طويل مفرطا في التجريد، وفي الابتعاد عن مشاغل الحياة اليوميّة؟ هل تساعد الفلسفة أولئك الذين يشعرون بفراغ داخليّ؟ ألا يملك علم النفس إجابات على أسئلتهم؟ هل تلقّى الفلاسفة التدريب اللاّزم من أجل العناية بأولئك الناس؟ أم إنّهم، مع اكتساب الفلسفة لدرجة من الشعبيّة، يقدّمون وعودا بأشياء لا يقدر اختصاصهم على تحملّها؟ ومهما يكن من أمر فإنّ ريشارد دافيد برشت يؤكّد أنّ اهتمام الجمهور الواسع بالمسائل الفلسفيّة ليس في الواقع ظاهرة جديدة. نشر بريشت مؤخّرا المجلّد الأوّل من كتابه المؤلّف من ثلاثة أجزاء تحت عنوان “تاريخ الفلسفة”، يقارن فيه بين عصرنا والعصر الذي نشط فيه مفكّرون يونانيّون مثل أبيقور وما سمّي بالرواقييّن، وهم الفلاسفة الأوائل الذين فهموا موضوعهم صراحة باعتباره مساعدة على الحياة. يعتبرهم برشت مؤسّسي أدب تدبير شؤون النفس ونصائح الحياة.
“كان أبيقور نوعا من “الغورو” الروحي الذي أنشأ جماعة وأراد العيش بين ظهرانيها حياة طيّبة”، يقول برشت. “وبسبب ذلك ناصبته الفلسفة الأكاديمية العداء. غير أنّ البحث عن المعنى كان ردّ فعل منطقيّ على فلسفة أفلاطون وأرسطو وهي فلسفة أقرب إلى التفاؤل وإلى الفلسفة السياسيّة، نظرا إلى كونها رسمت يوتوبيات أكبر للحياة المشتركة بين البشر. تلت ذلك فترة من الاستفاقة حيث لم تعد تنفع الرؤى الاجتماعيّة. وفي مثل تلك الحقبة نجد اليوم أنفسنا من جديد.”بدأت تلك الفترة حسب تقدير بريشت في السبعينيات من القرن الماضي، عندما أدرك الكثير من الناس أنّ احتجاجات الستّينيات لم يكن بمقدورها التأثير في الرأسماليّة على المدى البعيد. تبخّر الأمل في عالم أفضل وأكثر عدلا، واستفاق الناشطون السابقون. انصرفوا عن المشاكل الاجتماعيّة وبدأوا يهتمّون بسعادتهم الخاصّة. ” اتّجه الكثيرون أوّلا إلى فلسفات الشرق الأقصى أو إلى الفلسفات الباطنية”، يقول بريشت. ” اعتبرت الفلسفة الغربية الكلاسيكيّة أصعب من أن يتمّ تقديمها للجمهور، ولكنّ الأمر تغيّر بالتدريج. ومنذ ذلك الوقت بدأ الاهتمام بها في الازدياد.” ومن الأسباب الأخرى لذلك نجد أيضا تراجع أهميّة الكنائس والأديان.ويرى فلهلم شميدت المسألة بشكل قريب من ذلك:” لم يعد للناس معايير، وهي المعايير التي وضعها الدين، أو حفظتها التقاليد أو فرضها الاتّفاق إلى حدّ الآن، أي إنّ عليهم توجيه أنفسهم بأنفسهم.” والنصائح التي تمنع قرّاءها من التفكير لا ترضي الكثيرين. يقول شميدت إنّ كتبه هي للرّاغبين والقادرين على التفكير بأنفسهم. وفي الوقت الذي خسر فيه الإيمان من أهميّته لدى شرائح واسعة من الناس، يلاحظ المرء في الوقت ذاته أصوليّة دينية متنامية. يرى الفيلسوف ميشائيل هامب الأستاذ بالمدرسة العليا الفدرالية التقنية بزوريخ، بدوره في ذلك سببا للاهتمام الجديد بالفلسفة الغربيّة. فالمرء صار يتّجه عن وعي إلى أصول التنوير الغربي ومثله العليا.( ينظر، بوريس هنسلير، هل الفلسفة بديل للعلاج النفسي؟ ترجمة،محمد المهذبي، موقع حكمة، 1/8/2018).
ومن وجهة نظري الشخصية تعد فكرة الاستشارة الفلسفية التي بشر بها لأول مرة في فضاء الفكر العربي الدكتور سامح الطنطاوي، جديرة بالمزيد من النقاش والحوار والاستلهام لما تعانيه مجتمعاتنا من أزمات وجودية خطيرة تستدعي حضور أم العلوم؛ (الفلسفة) التي تعني حب الحكمة ( فيلو سوفيا) وهي في جوهرها العميق تجمع بين أعمق عاطفة إنسانية هي (المحبة)وأسمى وانبل مساعي العقل الإنساني (الحكمة). وتحضرني الذاكرة هنا أنني واجهت مواقف مع بعض طلابي في الجامعة كانت لديهم مشكلات تتصل بموقفهم من العالم والحياة والموت والخير والشر والأنا والآخر.
إذ جاءني أحد الطلاب الذي كان شغوفا بقراءة علم النفس وقال لي: يا استاذ أنا قررت الانتحار! .. قلت له لماذا؟! قال لي
اشعر بأن هذه الحياة المضنية لا تستحق العيش! جلست معه بهدوء واوضحت له أهمية حياته له ولمن انجبه والده ووالدته الذين يحبهم ويحبونه، وقلت له هل تخاف من الموت؟ قال لا الموت حق الله ! قلت له ونعم بالله الرحمن الرحيم، مادمت لا تخاف من الموت، وما دمت تعرف أن الموت هو القدر المحتوم فلماذا تستعجله؟ تمتع بحياتك وحب الله الذي خلقك، وكل شيء ما دون الموت من مصاعب هذه الدنيا مقدور عليه.
سوف تتخرج وتفرح اهلك وتحب شريكة حياتك وتتزوج وتنجب أطفالا حلوين وستجد ما يفرحك وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. والموت لا يأخذ الا ميتًا! كان مندهشا من كلامي وخرج من غرفتي بشعور جديد ونظرة إيجابية ووجدته بعد أعوام من التخرج وهو صار أبًا لطفلين وشكرني على نصيحتي له. وهناك مواقف مشابهة لا يتسع المجال لذكرها.
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وفي الختام مع الدكتور سامح الطنطاوي
الذي كتب أن "الفلسفة طريق لمواجهة المشكلات المؤلمة فى الحياة الإنسانية"،لم تكن قيمة الفكر الفلسفى لدى هذه الاتجاهات فى ذاته فقط، بل قدرته على جعل الإنسان يتحرر من قلق الموت والتشاؤم عن طريق التفكير فى الوسائل والغايات التى توصلنا للسعادة والفضيلة فى الحياة العامة، وهذا ما أكده "بيير هادوت" "Pierre Hadot"، فى كتابه "التدريبات الروحية والفلسفة القديمة) ( بنظر، سامح الطنطاوي ، الاستشارة الفلسفية عند حيرد اشينباخ). العالم ولا يزال يشهده من اضطراب شامل في ذلك السيل المتدفق من المحاولات التنظيرية التي ترغب في توصيف ونمذجة وعقلنه المشهد التاريخي الراهن في أطر مفهومية مجردة وكلية، إذ أخذ الفلاسفة والمفكرون منذ أواخر القرن العشرين يتسابقون ويتنافسون في صياغة وإبداع ونحت المفهومة المعبرة أو الصورة الفكرية التي يمكن لها ان تعبر عن العالم المعاش، وتمنح الحقبة الجديدة اسمها ومعناها. ومن تلك التوصيفات يمكن الإشارة إلى اشهرها وهي: العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد القومية، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الأيديولوجيا، ما بعد الاستعمار، ما بعد البنيوية، ما بعد التنوير، ما بعد الشيوعية، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد التاريخ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، عصر الليبرالية الجديدة، عصر التفكيك، مجتمع الفرجة، أو الاستعراض، عصر الكمبيوتر، ثورة المعلومات والاتصالات، أو صدام الحضارات، القرية الكونية، نهاية عالم كنا نعرفه" مجتمع الاستهلاك، عصر الديمقراطية، عصر التقنية، عصر التنوع الثقافية، العهد الأمريكي، أو الأمركة، عصر الإرهاب العالمي، السوق الحرة، والوطن السيبرنيتي، عصر الفضاء، والكوكبية وغير ذلك من التوصيفات الكثيرة في أبعادها المتنوعة.من وسط هذا الفضاء الثقافي المزدحم بالنظريات والروأ يطلع علينا ( آلـڤين توڤلر) بتوصيف مختلف لازمة الحضارة العالمية، ولكنه مثير وجدير بالاهتمام والتأمل، هو ما أسماه بــ ( عصر الموجة الثالثة ) وتوفلر هو صاحب كتاب ( صدمة المستقبل 1960). ( ينظر، قاسم المحبشي ، الوفين توفلر وحضارة الموجة الثالثة 2010) ، ربما كان هذا التحدي الحضاري الذي واجهه الفكر الإنساني الاوروأمريكي، هو ما حفز الفلاسفة إلى استئناف الحضور ومعاودة الفعل السقراطي. ظهرت في السنوات الأخيرة مشاريع مختلفة تقع تحت باب “العيادة الفلسفيّة”، سواء أكانت في شكل محادثات فرديّة أو محاورات جماعية. وتضمّ “الجمعية الدولية الناطقة بالألمانية للممارسة الفلسفيّة” مائة وخمسين عضوا. أمّا الاتّحاد الأمريكي المعروف باسم “الجمعية الوطنية للاستشارات الفلسفية” فيشمل حوالي أربعمائة عضو، أي ضعف ما كان عليه العدد قبل سنتين. وهناك في ألمانيا مقاه فلسفيّة، وكذلك الفلسفة للأطفال والرحلات الفلسفيّة ومجلاّت فلسفيّة للعموم مثل “المجلّة الفلسفيّة” و”هواء الأعالي” لماذا يهتمّ كلّ ذلك العدد بالفلسفة، وهي اختصاص اعتبر لوقت طويل مفرطا في التجريد، وفي الابتعاد عن مشاغل الحياة اليوميّة؟ هل تساعد الفلسفة أولئك الذين يشعرون بفراغ داخليّ؟ ألا يملك علم النفس إجابات على أسئلتهم؟ هل تلقّى الفلاسفة التدريب اللاّزم من أجل العناية بأولئك الناس؟ أم إنّهم، مع اكتساب الفلسفة لدرجة من الشعبيّة، يقدّمون وعودا بأشياء لا يقدر اختصاصهم على تحملّها؟ ومهما يكن من أمر فإنّ ريشارد دافيد برشت يؤكّد أنّ اهتمام الجمهور الواسع بالمسائل الفلسفيّة ليس في الواقع ظاهرة جديدة. نشر بريشت مؤخّرا المجلّد الأوّل من كتابه المؤلّف من ثلاثة أجزاء تحت عنوان “تاريخ الفلسفة”، يقارن فيه بين عصرنا والعصر الذي نشط فيه مفكّرون يونانيّون مثل أبيقور وما سمّي بالرواقييّن، وهم الفلاسفة الأوائل الذين فهموا موضوعهم صراحة باعتباره مساعدة على الحياة. يعتبرهم برشت مؤسّسي أدب تدبير شؤون النفس ونصائح الحياة.
“كان أبيقور نوعا من “الغورو” الروحي الذي أنشأ جماعة وأراد العيش بين ظهرانيها حياة طيّبة”، يقول برشت. “وبسبب ذلك ناصبته الفلسفة الأكاديمية العداء. غير أنّ البحث عن المعنى كان ردّ فعل منطقيّ على فلسفة أفلاطون وأرسطو وهي فلسفة أقرب إلى التفاؤل وإلى الفلسفة السياسيّة، نظرا إلى كونها رسمت يوتوبيات أكبر للحياة المشتركة بين البشر. تلت ذلك فترة من الاستفاقة حيث لم تعد تنفع الرؤى الاجتماعيّة. وفي مثل تلك الحقبة نجد اليوم أنفسنا من جديد.”بدأت تلك الفترة حسب تقدير بريشت في السبعينيات من القرن الماضي، عندما أدرك الكثير من الناس أنّ احتجاجات الستّينيات لم يكن بمقدورها التأثير في الرأسماليّة على المدى البعيد. تبخّر الأمل في عالم أفضل وأكثر عدلا، واستفاق الناشطون السابقون. انصرفوا عن المشاكل الاجتماعيّة وبدأوا يهتمّون بسعادتهم الخاصّة. ” اتّجه الكثيرون أوّلا إلى فلسفات الشرق الأقصى أو إلى الفلسفات الباطنية”، يقول بريشت. ” اعتبرت الفلسفة الغربية الكلاسيكيّة أصعب من أن يتمّ تقديمها للجمهور، ولكنّ الأمر تغيّر بالتدريج. ومنذ ذلك الوقت بدأ الاهتمام بها في الازدياد.” ومن الأسباب الأخرى لذلك نجد أيضا تراجع أهميّة الكنائس والأديان.ويرى فلهلم شميدت المسألة بشكل قريب من ذلك:” لم يعد للناس معايير، وهي المعايير التي وضعها الدين، أو حفظتها التقاليد أو فرضها الاتّفاق إلى حدّ الآن، أي إنّه عليهم توجيه أنفسهم بأنفسهم.” والنصائح التي تمنع قرّاءها من التفكير لا ترضي الكثيرين. يقول شميدت إنّ كتبه هي للرّاغبين والقادرين على التفكير بأنفسهم. وفي الوقت الذي خسر فيه الإيمان من أهميّته لدى شرائح واسعة من الناس، يلاحظ المرء في الوقت ذاته أصوليّة دينية متنامية. يرى الفيلسوف ميشائيل هامب الأستاذ بالمدرسة العليا الفدرالية التقنية بزوريخ، بدوره في ذلك سببا للاهتمام الجديد بالفلسفة الغربيّة. فالمرء صار يتّجه عن وعي إلى أصول التنوير الغربي ومثله العليا.( ينظر، بوريس هنسلير، هل الفلسفة بديل للعلاج النفسي؟ ترجمة،محمد المهذبي، موقع حكمة، 1/8/2018).
ومن وجهة نظري الشخصية تعد فكرة الاستشارة الفلسفية التي بشر بها لأول مرة في فضاء الفكر العربي الدكتور سامح الطنطاوي جديرة بالمزيد من النقاش والحوار والاستلهام لما تعانيه مجتمعاتنا من أزمات وجودية خطيرة تستدعي حضور أم العلوم؛ الفلسفة التي تعني حب الحكمة ( فيلو سوفيا) وهي في جوهرها العميق تجمع بين أعمق عاطفة إنسانية هي المحبة وأسمى وانبل مساعي العقل الإنساني الحكمة. وتحضرني الذاكرة هنا أنني واجهت مواقف مع بعض طلابي في الجامعة كانت لديهم مشكلات تتصل بموقفهم من العالم والحياة والموت والخير والشر والأنا والأخر.
إذ جأني أحد الطلاب الذي كان شغوفا بقراءة علم النفس وقال لي: يا استاذ أن قررت الانتحار! .. قلت له لماذا؟! قال لي
اشعر بأن هذه الحياة المضنية لا تستحق العيش! جلست معه بهدوء واوضحت له أهمية حياته له ولمن انجبه والدة ووالدة
الذين يحبهم ويحبونه وقلت له هل تخاف من الموت؟ قال لا الموت حق الله ! قلت له ونعم بالله الرحمن الرحيم مادمت لا تخاف من الموت، وما دمت تعرف أن الموت هو القدر المحتوم فلما تستعجله؟ تمتع بحياتك وحب الله الذي خلقك وكل شيء ما دون الموت من مصاعب هذه الدنيا مقدور عليه.
سوف تتخرج وتفرح اهلك وتحب شريكة حياتك وتتزوج وتنجب أطفالا حلوين وستجد ما يفرحك وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. والموت لا يأخذ الا ميتًا! كان مندهشا من كلامي وخرج من غرفتي بشعور جديد ونظرة إيجابيا ووجدته بعد أعوام من التخرج وهو صارا أبًا لطفلين وشكرني على نصيحتي له. وهناك مواقف مشابهة لا يتسع المجال لذكرها.
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وفي الختام مع الدكتور سامح الطنطاوي
الذي كتب ( أن "الفلسفة طريق لمواجهة المشكلات المؤلمة فى الحياة الإنسانية"،لم تكن قيمة الفكر الفلسفى لدى هذه الاتجاهات فى ذاته فقط، بل قدرته على جعل الإنسان يتحرر من قلق الموت والتشاؤم عن طريق التفكير فى الوسائل والغايات التى توصلنا للسعادة والفضيلة فى الحياة العامة،وهذا ما أكده "بيير هادوت" "Pierre Hadot"، فى كتابه "التدريبات الروحية والفلسفة القديمة) ( بنظر، سامح الطنطاوي ، الاستشارة الفلسفية عند حيرد اشينباخ)



#قاسم_المحبشي (هاشتاغ)       Qasem_Abed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة .. وعودة النموذج السقراطي في م ...
- اليونسكو .. الغياب الدائم والحضور المفترض
- حاجة العرب الى تدريس الفلسفة للأطفال أكثر من حاجة الغرب والأ ...
- مدني صالح .. مقاربة الاسم والمعنى
- الثورة التي ادهشت العالم!
- الهُوية إشكالية المفهوم وسياقات المعنى
- وداعا أفلاطون .. الفلسفة والأطفال.. استئناف الدهشة!
- منظمات المجتمع المدني ودورها في بناء السلام باليمن
- حينما يكون الجسد اكثر ادهاشا من الروح


المزيد.....




- إزالة واتساب وثريدز من متجر التطبيقات في الصين.. وأبل توضح ل ...
- -التصعيد الإسرائيلي الإيراني يُظهر أن البلدين لا يقرآن بعضهم ...
- أسطول الحرية يستعد لاختراق الحصار الإسرائيلي على غزة
- ما مصير الحج السنوي لكنيس الغريبة في تونس في ظل حرب غزة؟
- -حزب الله- يكشف تفاصيل جديدة حول العملية المزدوجة في عرب الع ...
- زاخاروفا: عسكرة الاتحاد الأوروبي ستضعف موقعه في عالم متعدد ا ...
- تفكيك شبكة إجرامية ومصادرة كميات من المخدرات غرب الجزائر
- ماكرون يؤكد سعيه -لتجنب التصعيد بين لبنان واسرائيل-
- زيلينسكي يلوم أعضاء حلف -الناتو- ويوجز تذمره بخمس نقاط
- -بلومبيرغ-: برلين تقدم شكوى بعد تسريب تقرير الخلاف بين رئيس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - قاسم المحبشي - ملاحظات أولية في نظرية الاستشارة الفلسفية