أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - يعقوب بن افرات - الرأسمالية الامريكية في قفص الاتهام















المزيد.....



الرأسمالية الامريكية في قفص الاتهام


يعقوب بن افرات

الحوار المتمدن-العدد: 211 - 2002 / 8 / 6 - 01:21
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


 

خطب الرئيس الامريكي جورج بوش امام الف من كبار مدراء الشركات في وول ستريت بنيويورك في 9 تموز (يوليو)، فقال: "لا رأسمالية بلا ضمير". وكان قصده ان الرأسمالية اذا ارادت لنفسها البقاء كنظام فعليها التحلي بالاخلاق. جاء الخطاب بعد الفضيحة الجديدة التي انكشفت في ادارة حسابات شركة الاتصالات "وورلدكوم"، ثاني اكبر شركة للاتصالات في الولايات المتحدة والتي يفوق مجموع اصولها (ممتلكاتها - assets) 100 مليار دولار. فقد تبين ان ادارة الشركة تهربت من تسجيل 3،8 مليار دولار كنفقات في سجلاتها، واخفت بذلك خسائرها عن المستثمرين. وادت الفضيحة الى هبوط حاد في قيمة اسهم الشركة التي لجأت على الفور الى اجراءات قانونية تمهيدا لاعلان الافلاس.

ويعتبر خطاب بوش حدثا نادرا اذا اخذنا بعين الاعتبار ان الساسة الجمهوريين لا يحبذون التعليق على اداء البورصة، ويرفضون اي تدخل من قبل الحكومة في السوق. ولكن هذه المرة اضطر للتدخل لان انهيار شركة وورلدكوم لم يكن حدثا شاذا، بل جاء ضمن سلسلة من الانهيارات بدأت مع افلاس شركة الطاقة "انرون". سبب الانهيار الرئيسي يكمن في التلاعب في حسابات الشركة وتزييف سجلاتها، مما رفع قيمة اسهمها في البورصة بشكل مذهل على امتداد عقد التسعينات.

بلا شك كان خطاب بوش تاريخيا، بل اخطر من خطابه بعد الاعتداءات على برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 ايلول 2001، الذي انقسم فيه العالم الى اخيار واشرار. فهذه المرة المشكلة ليست خارجية ولا يمكن حلها على الطريقة الامريكية التقليدية. اذ ليس بمقدور الصواريخ البعيدة المدى ان تقصف مواقع الشركات العملاقة في هيوستون تكساس او في كاليفورنيا. لا شك ان الضرر الذي جلبته هذه الشركات على الاقتصاد الامريكي كبير جدا، ولكن المشكلة الاكبر ان مدراء هذه الشركات الذين يتحملون المسؤولية المباشرة عن الكارثة الاقتصادية، يعتبرون من اهم الشخصيات في المجتمع الامريكي ويتمتعون بنفوذ حاسم في أروقة المؤسسة الحاكمة.

الانكى من ذلك ان هؤلاء المدراء المتنفذين علموا بالوضع الحقيقي لشركاتهم، واطّلعوا على السجلات المالية التي اكدت الخسائر، فسبقوا الانهيار وباعوا اسهمهم عندما كانت اسعارها لا تزال في ذروتها. وكانت المصيبة انهم لم يحذروا آلاف العمال من البلاد وخارجها بقرب الانهيار، ففقد هؤلاء صناديق تقاعدهم وتوفيراتهم التي استثمروها في اسهم هذه الشركات، كما خسر الآلاف من موظفي الشركات المنهارة الذين تقاضوا رواتبهم ليس بشكل نقدي بل بشكل سندات مالية تابعة للشركة.

 

اسهم بدل الرواتب

ما كاد بوش ينهي خطابه حتى انهالت عليه الانتقادات من كل حدب وصوب. وقد اعرب الناطق بلسان البيت الابيض عن غضبه لان المحطات التلفزيونية بثّت خطاب بوش وعرضت في نفس الوقت نشاط البورصة التي كانت اسعار اسهمها ترد على الخطاب بهبوط مستمر. واذا هدف بوش وقف التدهور الخطير في البورصة، فقد كانت النتيجة عكسية. فمنذ الخطاب طرأ هبوط حاد ومقلق في اسعار الاسهم زاد على 20%. خيبة الامل من الخطاب كانت كبيرة، فرغم شدة اللهجة الا انه لم يقترح خطوة عملية واحدة يمكنها اعادة ثقة الجمهور الامريكي بالشركات العملاقة.

يجمع المحللون على ان احد الاسباب الرئيسية لمشاكل الشركات الامريكية، هي الطريقة التي تدير بها حساباتها. اذ تسعى الشركات لتقليص حجم نفقاتها وتضخيم ايراداتها، وبالتالي خلق الانطباع بانها تحقق نسبة عالية جدا من الارباح. ولتقليص حجم النفقات فان الشركات تستغل ان اصدار الاسهم لا يعتبر نفقات ولا تُدفع عنه ضرائب، فتلجأ الى دفع رواتب المدراء ليس نقدا بل على شكل رزمة اسهم يمكن استثمارها في فترة محددة (وسنستخدم للدلالة عليها مصطلح "رزمة الاسهم" لعدم عثورنا على المصطلح الاقتصادي الدقيق لكلمة Options)، وبذلك تبدو الشركة وكأنها لم تنفق رواتب لمدرائها.

رزمة الاسهم هذه تُعطى للمدير او الموظف بسعر محدد، ويكون بامكانه الاستثمار فيها لفترة محددة قد تصل الى عشر سنوات. وبامكانه ان يربح اذا ارتفعت قيمة اسهم الشركة او ان يخسر اذا انخفضت قيمتها، اما اذا لم يبعها في الوقت المحدد فسيفقدها تماما. وهنا تكمن فائدة اضافية للشركة من دفع الرواتب على شكل رزمة اسهم، اذ ان إشراك المدير في اسهم الشركة يعطيه حافزا شخصيا لرفع قيمة الاسهم ولو بشكل مصطنع، وباسرع وقت ممكن، حتى يستطيع جني اعلى نسبة من الارباح من استثمار اسهمه.

في سياق النقاش المحتدم في الصحف الامريكية حول الموضوع، تطرقت صحيفة "واشنطن بوست" في 22 تموز (يوليو)، الى شركة "كابيتال وان" (Capital One) التي تصدر بطاقات الاعتماد، وتعتمد نفس الاسلوب في دفع الرواتب لمدرائها. حسب الصحيفة الامريكية لم تدفع الشركة لمديرها رتشارد فيربانك راتبا نقديا على الاطلاق، بل فقط على شكل رزمة اسهم حتى عام 2007. ومن المتوقع ان ترتفع قيمة اسهم المدير الى 105 مليون دولار اذا ارتفعت قيمة اسهم الشركة ب5% سنويا، او على 270 مليون دولار اذا ارتفعت قيمتها ب10% سنويا. اما اذا لم ترتفع اسعار الاسهم الى هذا المستوى، فهذا يعني ان فيربانك لن يتقاضى راتبه على الاطلاق.

وتتبع كل الشركات الكبيرة نفس الطريقة. وتشير الاحصائيات التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" في 11 تموز (يوليو) الى ان قيمة رزمة اسهم المدراء في الفين من اكبر الشركات الامريكية تبلغ 162 مليار دولار في عام 2000، في حين بلغت قيمتها عام 1997 نحو 50 مليار دولار. في شركة ميكروسوفت وحدها بلغت قيمة رزمة الاسهم الممنوحة للمدراء 3،3 مليار دولار في عام 2001. وترى المؤسسة التي نشرت الاحصائيات انه لو قامت 500 من هذه الشركات بتسجيل رزمة الاسهم هذه في قسم النفقات، لوصل النمو السنوي لارباحها بين الاعوام 1995-2000، الى 6% وليس 9% كما ورد في تقاريرها المالية.

عندما يقوم الموظفون ببيع رزمات اسهمهم بسعر اعلى من السعر المحدد، فان الشركة تسجل الفارق كخسارة، وتستخدم هذه الخسارة لتصفية، او حسم، ديونها المستحقة عليها لضريبة الدخل. بهذه الطريقة نجحت الشركات التي تستخدم بكثافة وسيلة الدفع بالاسهم، مثل "ميكروسوفت" و"سيسكو سيستمس" و"ديل كمبيوتر"، في تصفية الضرائب المستحقة عليها للحكومة الفيدرالية في السنوات الاخيرة. شركة انرون تمكنت بهذه الطريقة من تصفية اكثر من 625 مليون دولار كان عليها ان تدفعها كضرائب بين الاعوام 1996-2000.

نخبة المدراء الذين يملكون مبالغ خيالية على شكل رزمة اسهم، لا تبالي بمصلحة 85 مليون مواطن امريكي استثمروا توفيراتهم في اسهم هذه الشركات بطريقة مباشرة او من خلال صناديق التقاعد والتوفير. ان المنافسة غير المحدودة بين الشركات على جذب الاستثمارات اليها، يدفع بهؤلاء المدراء لاستخدام كل الوسائل حتى غير المشروعة لعرض موازنة ايجابية في التقارير المالية الفصلية لشركاتهم التي تخلق الانطباع بزيادة مدخول الشركة مما يرفع بالتالي قيمة اسهمها، دون علاقة بالوضع الحقيقي لنمو انتاج الشركة.

بين الوسائل الاكثر رواجا لتحقيق هذا الهدف: دمج او شراء شركات اخرى، بهدف تضخيم رأسمال الشركة واصولها، والتواطؤ مع بنوك كبرى لتسجيل قروض على انها عقود سمسرة. ولتوضيح هذه النقطة افادت صحيفة "الشرق الاوسط" (25 تموز)، نقلا عن "وول ستريت جورنال" (23 تموز): "ان شركة انرون تلاعبت لتضخيم رأسمالها، فزادت على الورق نتائجها بمعدل مليار دولار سنويا استنادا الى وثائق داخلية. هذه التحويلات المطروحة للمساءلة سمحت لانرون باستدانة 8،4 مليار دولار من "سيتي غروب" (صاحبة "سيتي بنك") و7،3 مليار دولار من بنك "جي بي مورغان". ونقلا عن مسؤول مقرب من التحقيق ان هذه التحويلات اتاحت لانرون التقليل من قيمة ديونها ب540% وتضخيم سيولتها ب50%".

 

صاحب المال صاحب القرار

في سياق هذا النقاش الساخن حول ضرورة ادراج رزمة الاسهم في جدول نفقات الشركات، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" في 26 آذار (مارس) 2002 تفاصيل محاولة شبيهة تمت في مطلع التسعينات. وذكرت الصحيفة انه في الثمانينات زاد الاقبال على هذا النوع من الاسهم، تحديدا في شركات مبادرة للتحديث التكنولوجي start ups في منطقة وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا. في نفس الفترة توجهت الشركات المختصة في تدقيق الحسابات الى "الهيأة الادارية لمعايير المحاسبة المالية"  Financial Accounting Standards Board (FASB)، وطالبت باعتبار هذه الاسهم نوعا من التعويض (compensation) وعلى هذا الاساس، أوصت بادراجها في جدول النفقات.

في نيسان (ابريل) 1993 صوّتت مؤسسة fasb تأييدا لطلب شركات الحسابات، الامر الذي أثار ضجة كبيرة بدأت في وادي السيليكون وانتشرت منه الى واشنطن. في عام 1994 تظاهر الآلاف من موظفي شركات الهاي تك في شمال كاليفورنيا ضد القرار وهتفوا بشعارات ضد FASB. وسافر اكثر من مئة مدير شركة الى واشنطن للضغط على اعضاء الكونغرس لعدم المصادقة على قرار المؤسسة. وكانت النتيجة ان صوّت مجلس الشيوخ الامريكي باغلبية 88 عضوا الى تسعة اعضاء ضد قرار FASB، كما تقرر في نفس الوقت تصفية دور المؤسسة من اساسها. في اواخر عام 1994 تراجعت FASB عن موقفها، واكتفت بالمطالبة بتسجيل قيمة رزمة الاسهم على هامش التقارير المالية للشركات.

كيف تمكنت الشركات من بسط نفوذها في الكونغرس؟ الجواب يوفره مقال نشر على حلقتين في صحيفة "هيرالد تريبيون" في 26-27 كانون ثان (يناير) 2002. كشف المقال ان 212 نائبا في الكونغرس من اصل 248 يشاركون في اللجان ال11 التي تشكلت للتحقيق في قضية "انرون"، سبق ان تلقوا تبرعات مالية لتمويل حملاتهم الانتخابية من شركة انرون نفسها او من شركة الحسابات "اندرسون" التي دققت في حسابات انرون وثبت تورطها هي الاخرى في نفس القضية.

الدليل القاطع على نفوذ هذه الشركات في المؤسسة الحاكمة، يُستدَلّ من القاء الرئيس بوش خطابه الاقتصادي للمرة الثالثة في اسبوع اثناء مأدبة عشاء في جامعة الاباما في سياق الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري بوب ريلي. في الحفلة جمع الجمهوريون تبرعات وصلت رقم قياسي قدره اربعة ملايين دولار. وبطبيعة الحال، من تبرع بهذا المبلغ السخي، يستطيع ان يطالب الساسة بخدمته ومراعاة مصالحه.

وما يقلل من مصداقية بوش تورطه هو نفسه في بيع رزمة اسهمه عندما شغل منصب عضو في الهيأة الادارية لشركة الطاقة "هاركن" (Harken). وقد نشرت صحيفة "فايننشال تايمز" اللندنية في 22 تموز (يوليو) 2002، ان بوش استخدم معلومات داخلية حول وضع الشركة المادي، بلغته من رئيس الشركة بوصفه عضو ادارة. ويعتبر استخدام المعلومات الداخلية مخالفا للقانون الذي يمنع استخدام معلومات لا علم للجمهور بها مما يضر بامكانيته المنافسة الحرة.

وقد استغل بوش معلوماته وقام في حزيران 1990 بالمتاجرة باسهمه وباع ثلثيها مقابل 848،560 دولار. وبعد شهر واحد، في تموز 90، اعلنت الشركة عن خسارة قدرها 23 مليون دولار، الامر الذي ادى الى هبوط اسعار الاسهم. ولم ترحم صحيفة فايننشال تايمز الرئيس الامريكي الذي يدّعي اليوم انه خرج بريئا من تحقيق الدائرة الحكومية التي تشرف على البورصة هيأة سوق الاوراق المالية والصرف SEC))، وكشفت ان مدير الدائرة المحققة كان معيّناً من قبل بوش الاب الذي كان رئيسا للولايات المتحدة في تلك الفترة.

وليس الساسة وحدهم المتورطون، بل هناك شركات استثمار ضخمة مثل "ميريلينش" (Merryl Lynch) التي كانت لها مصلحة في تضخيم اسهم الشركات الاخرى مقابل حصولها على عمولة على اصدار الاسهم. وقد وظّفت ميريلينش خبراء اقتصاديين كبار كمحللين لنشاط البورصة كان المفروض ان يكون دورهم توصية الناس بالاستثمار في الشركات الرابحة، ولكنهم في الواقع اوصوا الناس بالاستثمار في الشركات المتعاقدة مع ميريلنش. اما شركات تدقيق الحسابات الكبيرة فلم ينحصر دورها في تدقيق الحسابات، بل حصلت ايضا على مبالغ مقابل ما يسمى مشورة اقتصادية، وتحولت هذه المشورة فيما بعد الى نوع من الرشوة كما تبين في فضيحة انرون.

 

مؤسسة سياسية ضعيفة

ازاء الوضع الصعب الذي تمر به الولايات المتحدة، كان المفروض على المؤسسة السياسية التي تشمل البيت الابيض ومجلسي النواب والشيوخ، ان تتخذ اجراءت تشريعية سريعة تجبر الشركات على التقيد بمعايير حسابية، تمنع الاختلاسات من جهة وتدافع عن مصالح ملايين العمال والطبقة الوسطى التي تم تشجيعها على الاستثمار في البورصة لزيادة اموالها.

ولكن الجمهور الامريكي اليوم فقد ثقته بالمؤسسة السياسية، بعد ان ادرك تماما ان النواب تابعون للشركات الكبرى التي تمول حملاتهم الانتخابية، وحتى الرئيس نفسه مربوط بالشركات التي دعمت حملته الانتخابية ب50 مليون دولار. هذا بالاضافة الى ما ذكر آنفا من تورطه باستغلال معلومات داخلية لبيع اسهمه وتحقيق ارباح منها.

وفي محاولة لانقاذ ما يمكن انقاذه، صوّت مجلس الشيوخ باجماع 97 نائبا تأييدا لمشروع قرار يدعو لاصلاحات واسعة في قوانين المحاسبة وتداول الاسهم. ولكن الخلافات بين الحزب الديموقراطي والجمهوري تبقى على حالها. ففي حين يسعى الحزب الديموقراطي لتشديد الاجراءات والعقوبات ومنع تداخل المصالح بين الشركات ومؤسسات الاستثمار ومكاتب تدقيق الحسابات، للحيلولة دون وقوع كوارث اقتصادية كالتي تشهدها الولايات المتحدة اليوم، فان الحزب الجمهوري يميل الى عدم التدخل في السوق والسماح لها بتصحيح نفسها بنفسها.

ولكن الواقع ان الاجماع الذي يسود مجلس الشيوخ، يتستر على حقيقة ان الشركات الكبيرة تعمل وراء الكواليس من خلال الضغط على النواب، للتقليل من صرامة القرارات التشريعية كيلا تمس بارباحها. ورغم ان عميد البنك المركزي آلان غرينسبان نفسه الذي كان وراء الازدهار التكنولوجي في التسعينات والذي يحظى باحترام كبير، يرى ضرورة تسجيل رزم الاسهم كنفقات، الا ان احدا من نواب الكونغرس، باستثناء نائب واحد، لا يجرؤ على تنفيذ التوصية والمس بارباح الشركات.

 

الرأسمالية والضمير

الاوصاف التي استخدمها بوش لتفسير مرض الاقتصاد الامريكي، كانت سطحية. فتارة وصف الاقتصاد بالتفاحة الفاسدة التي افسدت كل الصندوق، وتارة بصداع السكّير الذي قام لتوه من النوم. ولكن المحللين يجمعون على ان المرض مزمن وعميق، وليس بسيطا او عابرا على الاطلاق. ان المعطيات الاقتصادية مثل هبوط قيمة الدولار مقابل اليورو، والعجز الكبير في ميزانية الدولة، تشير الى ان امريكا موجودة في ازمة عميقة، والبورصة الامريكية انما تعكس هذه الازمة بدقة.

رغم ان الرأسمالية اعلنت انتصارها الحاسم على الاشتراكية، فان نقاشا حادا يدور اليوم في امريكا نفسها وعلى المنابر البرجوازية التي تشمل كل الصحف الرئيسية، حول قدرة الرأسمالية على التغلب على الازمة الراهنة. افتتاحية واشنطن بوست من 23 تموز (يوليو) تقول: "معارضو الاصلاحات يقولون ان الرأسمالية ستصحح نفسها. ولكن حتى لو وافقنا على هذا الرأي، فليس بوسع النظام الرأسمالي ان يحسّن اداءه اذا واصل خداع الناس".

الازمة الحالية تعيد محللين آخرين الى اجواء الثلاثينات التي شهدت انهيار البورصة الكبير الذي جر العالم كله نحو الحرب العالمية الثانية. ويرى هؤلاء انه فقط اذا وصلت الازمة الى الانهيار الكامل، فسيكون بالامكان حدوث تغيير سياسي داخلي يسمح بحدوث تحولات كبيرة في الاقتصاد والمجتمع الامريكي. الجمهور الامريكي، في نظرهم، فقد ثقته الاساسية برجال الاقتصاد والسياسة، ومن جهة اخرى، فالتعادل بين الحزبين لا يمنح اغلبية واضحة للحزب الديموقراطي للقيام بعملية اصلاح تشمل كل قطاعات المجتمع.

ولكن الحقيقة ان الحزب الديموقراطي والجمهوري وجهان لعملة واحدة. فالخطوات الاقتصادية التي اتخذها بوش وتشجيعه رأس المال الكبير على حساب الجمهور ككل، هي استمرار لنفس السياسة التي انتهجها سلفه الديمقراطي، بيل كلينتون. وقد لمّح بوش مؤخرا الى ان الازدهار الذي شهده عهد كلينتون هو الذي جلب الفساد، لانه كان مؤسسا على فقاعة الهاي تك التي خلقت الارباح الوهمية في البورصة.

باختصار كذب الجميع على الجميع: كلينتون والكونغرس والبنوك الضخمة الامريكية ومكاتب تدقيق الحسابات ودوائر الاشراف والشركات نفسها. ولكن المصيبة الكبرى ان الجمهور الامريكي كان يدرك تماما ان كل هؤلاء فاسدون، ولكنه وافق على الفساد وانجر وراءه طالما انه استفاد منه. واليوم يقف هذا الجمهور امام الحقيقة المرة ويدفع ثمنا غاليا على موقفه بالهبوط الحاد في مستوى معيشته وفقدانه اسهمه ومدخراته.

لقد نزلت امريكا عند طلب الاقتصاديين اليمينيين امثال ميلتون فريدمان، وحررت الرأسمالية من كل قيودها. ولكن ليس بمقدور الرأسمالية الحرة ان تلجم نفسها وتمنع الكوارث، فالسوق الحرة التي سيطرت على العالم حولت الربح الى المثل الاعلى، وجعلت الانسان عبدا والاقتصاد وسيلة لخدمة رأس المال وليس لخدمة المجتمع. في خطابه لا يزال بوش يؤكد ان الربح اساس تقدم البشرية، ولا يستنتج ان السعي المحموم وراء الربح هو الذي دفع الشركات للاختلاس وتضليل الجمهور.

العالم يعاني من التخلف والجوع والبطالة، والاسواق تتقلص باستمرار. ومن غير الواضح والحال كهذه اين سيكون بالامكان استثمار رؤوس الاموال والارباح الضخمة التي حققتها الشركات الكبرى. لقد ادّعت هذه الشركات ان الطلب على الانترنت مثلا سيزيد مئة مرة في السنة، وكان هذا مبالغا فيه. فالسوق اليوم مشبعة، ولا مجال لتطوير المزيد، وليس هذا لان جميع البشر حصلوا على حصتهم في هذا التطوير، بل لان المزيد من البضائع يهدد بهبوط الاسعار وبالتالي بهبوط الارباح.

ان الفصل بين حاجات الانسان والسعي الرأسمالي للربح وصل الى مرحلة لا تعرف التوفيق. يستطيع بوش ان يمنّي نفسه بان الرأسمالية ستصحح نفسها، ولكن الحقيقة ان الرأسمالية دخلت منعطفا اخيرا، قد يكون طويلا، ولكنه ثابت في طريقه نحو الانهيار.

الصبار 155 



#يعقوب_بن_افرات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوضع الامني يفاقم الازمة الاقتصادية
- الماركسية في عصر العولمة لم تفقد قيمتها الثورية
- محور عالمي جديد ضد الارهاب العم بوش يحتضن الدب بوتين
- هدف العدوان: استبدال السلطة الفلسطينية بوصاية دولية
- فشل الاسلام السياسي .....هكذا اهدروا دماء الجزائر4
- المعالم الفكرية للاسلام المتطرف
- فضيحة "انرون" اكبر افلاس في تاريخ امريكا
- فشل الاسلام السياسي
- على نفسها جنت براقش ..امريكا تفقد القيادة


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - يعقوب بن افرات - الرأسمالية الامريكية في قفص الاتهام