|
|
التأطير الأحادي للإبداع -1
حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)
الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 14:42
المحور:
الادب والفن
يؤدي الأدب والفن دورًا جوهريًا في التعبير عن التحولات الاجتماعية وتجارب الإنسان، لكنه يواجه تحديات كبيرة عندما يتم حصره داخل إطار أيديولوجي واحد، ما يعتبره أداة مباشرة للنضال.
فالإبداع الفني والأدبي بطبيعته يعكس التعقيد الواسع للتجربة الإنسانية بكل تناقضاتها وغناها. وبالتالي، فإن وضعه ضمن سياق حصري مثل النضال الثوري الماركسي يُعد اختزالًا لدوره العميق وتجاهلًا لأبعاده الجمالية والنفسية والتاريخية. يجب أن يتمتع الفن بالحرية التي تمنحه القدرة على تعدد التفسيرات وإلهام النفس البشرية بعيدًا عن القيود الفكرية الضيقة.
حين يُقال إن الفن يجب أن يعكس مشاعر الفرح والحزن، التقدم والانتصار، الإخفاق والنقد الذاتي، ويُعبر صادقًا عن طموحات الناس وآلامهم، تبدو هذه الرؤية في الظاهر شاملة. غير أن هذا التعريف يضع حدودًا خفية للإبداع الفني، عبر تحديد إطار صارم لما يُعتبر محتوى مقبولًا. هذا التوجه يحدّ من أشكال التعبير الفني الأخرى كالتجريد، السريالية، أو الرمزية التي تبتعد عن الوضوح المباشر والالتزام بـ"آمال الناس ومعاناتهم".
المشكلة الجوهرية في هذه الطروحات تكمن في التأطير الإيديولوجي الأحادي (الماركسي)، حيث يتم التعامل مع الفن كتجسيد للسياسة وأداة وحيدة للتغيير الثوري. هذا النهج يستند غالبًا إلى تضخيم معين لتلميحات ماركس العرضية حول الفن، مما يؤدي إلى اختزال معناه بمنحى أيديولوجي محض، متجاهلًا بذلك جوانب الفن والأدب الأخرى التي كانت دائمًا جزءًا لا يتجزأ من تاريخهما.
على سبيل المثال، وصف قائد الأوركسترا نيكولاوس هارنوكورت السمفونية الخامسة لبيتهوفن كأنها "نداء سياسي بثورة"، يمثل تفسيرًا محددًا ومتصلبًا يُظهر محاولة لفرض رؤية أحادية. هذا التفسير يتناسى احتمالات النظر المختلفة إلى العمل كتعبير عن "روح النضال" أو "الانتصار" بشكل أوسع وغير مرتبط مباشرة بـ"النضال الثوري". مثل هذا التأويل الأيديولوجي يحمل العمل الفني معاني سياسية قد لا تكون موجودة في صميمه الأساسي. الاستناد إلى استشهادات ماركس بأعمال أدباء مرموقين مثل شكسبير وبلزاك، أو الاستعانة بآراء نقاد كفرانسيس وين، الذي يرى في "رأس المال" عملًا أدبيًا متقنًا، يُسهم في ترسيخ الفكرة بأن الفكر الماركسي يعتبر الأدب والفن جزءًا من مشروع التغيير الاجتماعي. ومع ذلك، يغفل هذا الطرح تأكيد ماركس الكبير على دور العوامل الاقتصادية والبنية التحتية التي يعدها جوهر الصراع الطبقي والمحرك الأساسي للتغيير.
ثمة من يعتبر أنواعًا معينة من الفنون، مثل موسيقى بيتهوفن أو الأغاني الشعبية، جزءًا لا يتجزأ من "النضال الثوري" و"الوعي التحرري"، اعتقادًا بأن الفن والقضايا السياسية مرتبطان بشكل دائم. ورغم أن الفن بالفعل قادر على التعبير عن الألم والهوية والأمل، فإنه لا يكون بالضرورة عنصرًا أساسيًا في المشروع الثوري، خاصة إذا لم يكن له أهداف واضحة لتحدي النظام الرأسمالي أو العمل على تغييره. فالفن قد يختار الابتعاد عن الإطار السياسي ويرتكز على التعبير عن الجمال أو التجارب الشخصية والفردية بشكل عام.
البعض يرى أن الفن، كالموسيقى والشعر، لطالما كان جزءًا من الحراكات الثورية المناهضة للرأسمالية. بيد أن هذا الاعتقاد يقلل من أهمية الأدوار الأخرى التي يؤديها الفن ضمن النظام الرأسمالي ذاته، سواء عبر آليات الإنتاج أو مجالات الاستهلاك أو حتى التفاعل النقدي معه. فهناك العديد من الأعمال الفنية التي تنتج كليًا ضمن أساليب رأسمالية وقد تكون خالية تمامًا من أي توجهات سياسية، بل وربما تخدم، بطرق غير مباشرة، تعزيز النظام نفسه. لذلك لا ينبغي افتراض أن أي عمل فني هو فعل ثوري لمجرد وجوده.
هناك ميل شائع للضغط من أجل تطويع الإبداع الأدبي والفني ليخضع فقط للإطار الماركسي المرتبط بالنضال الثوري. يتم التركيز هنا على أمثلة معينة لدعم فكرة أن الأدب والفن يهدفان للتغيير الاجتماعي وإدراك الوجود الإنساني من زاوية محددة. لكن هذا التوجه يختزل القيمة الحقيقية للفن والأدب، التي قد تكمن في كونهما وسيلة للتعبير الجمالي أو وسيلة للبحث الفلسفي أو حتى مصدرًا للتسلية الفردية بعيدًا عن القيود السياسة. القراءة الأيديولوجية تحد من معنى الأدب والفن، مختزلة أبعاده النفسية والجمالية والتاريخية لخدمة فكرة الصراع الثوري الماركسي. من الضروري تبني منهج أكثر شمولية يعترف بتعدد وظائف الأدب والفن بعيداً عن قيود أيديولوجية صارمة.
الربط بين خيبة أمل بيتهوفن تجاه نابليون وثورات 1848 وكومونة باريس يبسط الأحداث عبر إسقاط رمزية فردية على وقائع تاريخية معقدة. هذا التصور يبالغ في دور الأفراد والفنون، متجاهلاً الأسباب الحقيقية التي قادت لتلك الأحداث.
حين يُفترض أن النهج الوحيد للتحرر هو المقاومة وتجديد الفكر واستخدام الفن كوسيلة نضالية، يتم تهميش خيارات كالحوار الدبلوماسي أو الإصلاح التدريجي. التركيز على المنهج الثوري يحصر التحول في نمط أحادي.
دور الموسيقى والفن في الثورات حقيقة، لكن تضخيمه لتحويله إلى "سلاح مباشر" يعكس رؤية نفعية تتجاهل الجوانب الذاتية والجمالية للفن. الرؤية الماركسية للأدب الملتزم تربط الفن بالسياسة، مما يُحدّ من أبعاده.
هذا الطرح يعزز نظرة أحادية للتحرر عبر تسيس الفن، متجاهلاً تنوع وظائفه وقدرته على التعبير الحر خارج الأطر النضالية.
عند الحديث عن تأثير الأدب الثوري والتقدمي، يشير الكاتب إلى دوره في إلهام مجالات متباينة مثل الكتابة، الفلسفة، علم الاجتماع، والاقتصاد. مع ذلك، يُظهر الطرح شيئاً من المبالغة، إذ إن الأدب قادر على عكس الأفكار وإثارتها، لكنه ليس بالضرورة المحرك الرئيسي أو الأساسي لتطور العلوم الدقيقة كالفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد. هذه المجالات تطورت بمنهجياتها الداخلية المستقلة، ما يجعل من اعتبار الأدب عاملاً رئيسياً أمراً يعجز عن الإحاطة بالتعقيد الكامن في تطورها.
فيما يتعلق برأي فرانسيس وين الذي وصف "رأس المال" بأنه "تحفة أدبية متكاملة" واعتبر ماركس "شاعر الديالكتيك"، فهذا يبرز الجانب الجمالي في نصوص ماركس. لكن التركيز حصراً على الجوانب الأدبية يتغاضى عن الأبعاد التحليلية والمنهجية التي تجعل "رأس المال" عملاً علمياً واقتصادياً بامتياز. وبالتالي، فإن منظور وين يسلط الضوء على غنى أسلوب ماركس من الناحية الأدبية دون التطرق العميق إلى المضمون الاقتصادي والفلسفي الذي يشكل جوهر المشروع الماركسي.
من المعروف أن ماركس كان مثقفاً واسع الاطلاع، واعتمد في كتاباته على اقتباسات أدبية وتاريخية متنوعة. ومع ذلك، تصوير هذه الاقتباسات كدليل على محورية الأدب في تحقيق التغيير الاجتماعي يحتاج إلى رؤية أكثر توازناً. استخدام ماركس للأدب غالباً ما كان للتوضيح أو التشبيه أو حتى للسخرية، دون أن يعني ذلك مركزية الأدب في مشروعه الفكري. جوهر "رأس المال" يرتكز على التحليل الاقتصادي العميق لقضايا مثل القيمة والعمل وفائض القيمة، وهي الجوانب الأساسية لرؤيته النقدية للاقتصاد الرأسمالي.
أما الإشارة الساخرة لماركس إلى قصة "التحفة المجهولة" لبلزاك عندما قال "آمل ألا أنتهي مثل فرينهوفر"، فهي تعبير عن قلقه الشخصي بشأن استقبال عمله الكبير والمعقد "رأس المال". ماركس كان يخشى أن يُعتبر مجهوده الشاق غير مفهوم أو بلا معنى، تماماً مثل لوحة فرينهوفر في القصة. لذا، تفسير هذا القلق الشخصي والتعبير الفكاهي على أنه دليل على رؤية ماركس للأدب كأداة فلسفية للتغيير الثوري هو مبالغة تخدم توجهات أيديولوجية معينة لدى بعض الكتّاب. تُظهر فكرة أن الأدب والفن كانا دائمًا وسيلة لتجسيد الوعي الشعبي وأداة للتعليم والنضال من أجل التغيير الاجتماعي منظورًا وظيفيًا يتماشى مع السياق الفكري الماركسي أو الاشتراكي. وبهذا الاعتبار، يُنظر إلى الأدب والفن كعنصر ضمن "البنية الفوقية" المساندة لـ"البنية التحتية" الثورية. ومع ذلك، يبرز إشكال في هذا الطرح؛ إذ يميل إلى تجاهل أبعاد أخرى مهمة للأدب والفن، مثل الوظائف الذاتية والجمالية التي تتعلق بالترفيه، التعبير الروحي، أو الاستمتاع بالتجربة الجمالية الفردية. اختزال الأدب والفن في كونهما مجرد "أداة للنضال" أو "وسيلة للتغيير" يتجاهل التنوع الثري لتاريخ الفن البشري الذي طالما شمل أعمالاً عظيمة خالية من الالتزام السياسي وتركز فقط على الجمال أو التعبير الذاتي.
السؤال حول دور الجمهور في نجاح الفن الملتزم غير المباشر يسلط الضوء على نقطة جوهرية: إذ إن الفنان هو من ينتج العمل، لكن الجمهور هو الذي يمنح هذا العمل قوته وحياته واستمراريته.
في سياق الفن الملتزم غير المباشر (القائم على الرمزية، العمق، والنقد الضمني)، يصبح دور الجمهور أكثر أهمية وتعقيدًا مقارنة باستجابته للفن الدعائي المباشر. هذه الأهمية تتبدى في أدواره الثلاثة الرئيسية: الاستقبال الواعي، التقدير الجمالي، والمشاركة الفاعلة.
الفن غير المباشر يحتاج إلى جمهور لديه استعداد لبذل جهد فكري وعاطفي. فبينما يسمح الفن الدعائي المباشر للجمهور باستهلاك الرسالة بسهولة عبر شعارات جاهزة وخطابات مباشرة، يتطلب الفن غير المباشر من المتلقي التشكيك والبحث عن المعنى داخل الرموز المطروحة. ومع أنه يرفض تقديم حلول سريعة جاهزة، فإن نجاح العمل يعتمد على هذا التحدي الفكري الذي يتقبل فيه الجمهور تعقيد القضية وعمقها.
هذا النوع من الأعمال غالبًا ما يقدم وجهات نظر متعددة لقضية معينة، أو حتى يناقش إخفاقات المناضلين أنفسهم، ما يتطلب من الجمهور وعيًا وقدرة على التعامل مع النقد الذاتي. حينما يتفاعل الجمهور مع أفكار نقدية كهذه ويرى فيها قوة للتطوير والتغيير بدلاً من اعتبارها إضعافًا للمسعى النضالي، يصبح هو جزءًا لا يتجزأ من عملية التجديد والتحرر الفكري.
حين يتمكن المتلقي من فهم الرموز العميقة التي ينطوي عليها العمل الفني، يأخذها إلى مساحات نقاشية جديدة بين الأفراد والمجتمعات، مما يخلق نوعًا من "الوعي الموزع" الذي يمتد تأثيره بشكل أكبر مما يمكن أن تحققه نصوص رسمية مباشرة.
دعم الجمهور لمثل هذا الفن يعزز وجوده واستقلاليته. سواء عبر شراء الكتب التي تحمل عمقًا فكريًا، حضور العروض المسرحية غير التجارية، أو دعم الفنانين الذين يرفضون الخضوع لضغوط التمويل السطحي أو الحزبي. هذا الدعم لا يمنح الفنان فقط الاستقلالية الاقتصادية بل يحميه أيضًا من الوقوع في فخ تقديم أعمال تفتقد للعمق والرسالة هربًا من ضغوط العيش.
الجمهور يشكل كذلك الحصن الذي يحمي الفنان من الإقصاء أو التهميش عند اتخاذه مواقف نقدية جريئة. الإقبال الشعبي الكبير على عمل فني معين يقلل من إمكانية تجاهله أو فرض قيود عليه من قبل السلطات أو أي قوى معارضة.
يتبع
#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)
Hamid_Koorachi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأزمة الهيكلية للصراع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
-
الترجمة العربية: تحريفات لأسباب إيديولوجية
-
أسباب ضعف السلع الاستهلاكية في الاتحاد السوفيتي
-
الأهمية المستمرة لكتاب -رأس المال- في عصر الرقمنة
-
الشوفينية الفارسية أمام تحديات العقلانية والأممية
-
حقبة الركود السوفيتية
-
بين مزيج الأمواج والذكريات
-
ركود الأغنية العربية: بين أسطورة الماضي وتحديات الحاضر
-
أزمة اليسار في العالم العربي: تحديات الهيمنة القومية والليبر
...
-
ضرورة تحريم التقية: بين رخصة الضرورة وخطرها على المجتمع
-
اختلاف الآراء في اشتراكية الاتحاد السوفييتي السابق
-
ثلاثة قرون من الجمود: كيف دفع العرب والمسلمون ثمن حظر آل عثم
...
-
تآكل الليبرالية
-
اعتراف دون إيقاف حرب الإبادة
-
بيت ليس للتحديث
-
حول موت التراجيديا في الفن المعاصر
-
لتخلّد نار بروميثيوس
-
هل الصين بلد اشتراكي؟
-
قصيدة الشرق الأوسط
-
تحولات النظام العالمي ومستقبل الغرب
المزيد.....
المزيد.....
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
المزيد.....
|