اليسار في الكيانات الكونفدرالية العراقية: مواطن القوة واستراتيجيات الفعل السياسي


ليث الجادر
2025 / 11 / 14 - 00:52     

مع تحقق مشروع الاتحاد الكونفدرالي العراقي وقيام كيانات مستقلة تتمتع بصلاحيات واسعة على المستوى المحلي، تتكشف أمام التيار اليساري فرص غير مسبوقة لتحويل خطاب الدعم للكونفدرالية إلى فاعلية سياسية ملموسة. هذا الفراغ السياسي لا يمثل مجرد مسألة نظرية أو فلسفية، بل مساحة عملية يمكن للتيار من خلالها بناء قوة اجتماعية وسياسية قادرة على التأثير المباشر في حياة المواطنين اليومية. في هذا الإطار، لا يتحدث اليسار عن وحدة الدولة أو فلسفة الكونفدرالية، بل عن القدرة على تحويل المؤسسات المحلية والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية إلى أدوات نفوذ حقيقي، وإعادة صياغة الواقع السياسي والاجتماعي بطريقة عملية ومستدامة.

تكمن الفرضية الأساسية للورقة في أن استقلالية هذه الكيانات تمنح اليسار ميزة استراتيجية، إذ يمكنه التحرك مباشرة ضمن الأطر المحلية وربط مصالحه بمصالح المجتمع بطريقة عملية، وهو ما يتيح له بناء بدائل اجتماعية واقتصادية قائمة على العدالة والمشاركة، بعيدًا عن الخطاب الطائفي أو الهوياتي التقليدي. إن التواصل المباشر مع الطبقات المنتجة يتيح للتيار اليساري أن يصبح مرجعًا لحل القضايا اليومية للعمال والمزارعين والموظفين، ويكسبه شرعية عملية تتجاوز الموروث السياسي التقليدي. في الوقت نفسه، توفر المؤسسات الاقتصادية المحلية، بما فيها التعاونيات والبنوك المجتمعية وإدارة الموارد، وجودًا مستقلًا يمكن للتيار من خلاله ممارسة السلطة بشكل ملموس، عبر تقديم خدمات مباشرة للمجتمع وتأمين استقلالية القرار الاقتصادي المحلي.

تلعب النقابات والمجالس المهنية المستقلة دورًا محوريًا في هذا السياق، حيث تمثل أدوات تنظيمية تجمع بين المطالب المهنية والسياسية، وتؤسس لقاعدة مترابطة بين الأقاليم يمكن استثمارها في بناء شبكة مؤسساتية قوية تعزز النفوذ السياسي للتيار. إلى جانب ذلك، يمتلك اليسار القدرة على إقامة شبكات تضامن أفقي بين الأقاليم المختلفة، ما يعزز قوة سياسية موحدة قائمة على التعاون والمصالح المشتركة، ويتيح تجاوز الانقسامات المحلية التقليدية. كما يمكن للتيار أن يشغل الفراغ المرجعي في غياب السيطرة المركزية، ليصبح مرجعًا للعدالة والحقوق من خلال مشاريع ملموسة تهدف إلى تحسين الخدمات، وضمان العدالة في التوظيف، وحماية حقوق المواطنين بشكل عملي ومرئي.

تحقيق هذا الفعل يتطلب تحويل التنظيم إلى مؤسسات فاعلة، والمشاركة في إدارة البلديات والمشاريع المحلية، وهو ما يمنح التيار حضورًا يوميًا وفاعلية ملموسة في حياة الناس. كما يبرز الدور الحاسم للتحالفات المصلحية المبنية على نتائج قابلة للتحقق في مجالات التعليم والسكن والأجور والخدمات، إلى جانب الاستفادة من الإعلام المحلي لنقل التجارب الناجحة ومساءلة المسؤولين، بما يعزز الشرعية الشعبية ويقوي تأثير اليسار في الفضاء المحلي. ويكتمل هذا الدور من خلال التركيز على توزيع الموارد بشكل عادل، وتنفيذ مشاريع مشتركة بين المجموعات المختلفة، ما يسهم في تعزيز وعي المجتمع بالعدالة العملية ويقلل من قدرة الخطابات الطائفية والهوياتية على التأثير في حياة المواطنين.

رغم ذلك، يظل الفعل اليساري عرضة لتحديات واضحة، أبرزها مقاومة القوى المحلية التقليدية، وتفتت القاعدة الشعبية، أو محاولة تغلغل المصالح البرجوازية داخل المؤسسات المحلية. مواجهة هذه التحديات تتطلب تعزيز الحماية القانونية، توثيق الأحداث، بناء شبكات حقوقية، وضمان الشفافية والمحاسبة والمشاركة الحقيقية في إدارة المؤسسات، بحيث يبقى العمل السياسي للتيار مستقلاً وقويًا.

على المدى المتوسط، يمكن لهذا الفعل أن يحدث تغييرًا ملموسًا في طبيعة العلاقات بين الأقاليم، من خلال تعزيز التعاون الأفقي بين الكيانات المختلفة وفرض معايير جديدة للحوكمة والشفافية، بالإضافة إلى تطوير ممارسات اقتصادية مشتركة ومستدامة تقلل التفاوت بين الأقاليم وتخلق فرصًا عادلة لتوزيع الموارد. وفي الوقت نفسه، يسهم اليسار في بناء وعي مجتمعي جديد يركز على العدالة والحقوق والمساءلة، مما يقلل من قدرة القوى التقليدية على استخدام الانتماءات الطائفية أو القومية كأدوات للسيطرة. بهذا المعنى، لا يمثل اليسار مجرد معارضة نظرية أو خطاب داعم للكونفدرالية، بل يصبح عنصرًا فاعلًا قادرًا على إعادة صياغة الواقع الاجتماعي والسياسي للعراق في إطار الاتحاد الكونفدرالي، وإرساء أسس لممارسة السلطة بطريقة عادلة ومستدامة على المستوى المحلي والعابر للأقاليم.