الاشتراكية كذاكرة أمريكية: قراءة في استعارة زهران ممداني لعبارة ديبس


دينا الطائي
2025 / 11 / 13 - 20:25     

6/11/2025 - دينا الطائي

قرأتُ منذ الأمس كثيراً عن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، لكن قلّ من التفت إلى استعارة صغيرة في خطاب فوزه، استعارة تُعيد فتح صفحة منسية من الذاكرة السياسية الأمريكية، حيث قال ممداني:
“I can see the dawn of a better day for humanity.”
«أنا أستطيع أن أرى فجر يومٍ أفضل للبشرية.»
هذه الجملة ليست من صياغته، بل من يوجين ڤيكتور ديبس (Eugene Victor Debs)، أحد أبرز رموز الحركة العمالية والاشتراكية في الولايات المتحدة أوائل القرن العشرين.
قالها ديبس في خطبته الشهيرة عام 1918 في كانتون - أوهايو، قبل أيام من دخوله السجن بتهمة “التحريض ضد الحرب العالمية الأولى”، لتصبح فيما بعد أحد أكثر العبارات الخالدة في الأدب السياسي الأمريكي.

حين تمرّ الاستعارة كوميضٍ من التاريخ

لم يكن ممداني يستعير تفاؤلاً بلاغياً بقدر ما كان يعيد رمزاً أخلاقياً اشتراكياً من زمنٍ نُسي فيه معنى السياسة كالتزام إنساني.
أن يتردّد صدى ديبس بعد أكثر من قرن، وسط صخب الحملات النيوليبرالية الأمريكية، هو إعلان غير مباشر بأن “الاشتراكية” التي أُقصيت من الوعي العام، ما زالت تمتلك لغة قادرة على الإلهام.

ديبس: ضمير العمال وصوت الإنسان في قلب أميركا

ديبس (1855 – 1926) كان زعيماً نقابياً واشتراكياً أسس الحزب الاشتراكي الأمريكي (Socialist Party of America)، وترشّح للرئاسة خمس مرات.
بدأ حياته عاملاً في السكك الحديدية، ثم قاد إضراب “بولمان” عام 1894، وبعد سجنه قرأ مؤلفات كارل ماركس وتأثر بالفكر الماركسي الأوروبي، خصوصاً بكتابات كارل كاوتسكي، التي كانت آنذاك المرجع النظري للأممية الثانية.
ورغم هذا التأثر، ظلّ ديبس مختلفاً عن الماركسيين اللينيين والأرثوذكسيين والثوريين الطلائعيين: لم يدعُ إلى الثورة المسلحة، بل إلى تحررٍ إنساني عبر الوعي والتنظيم الشعبي.
قال ديبس بعد خروجه من السجن: «بدأت في قراءة وتحليل بنية النظام الذي يمكن للعاملين فيه أن يتفرقوا ويتعرضوا للضرب وينقسموا بضربة واحدة مهما كانوا منظمين. أرسل بيلامي وبلاتشفورد كتاباتهم إليّ في وقت سابق. أعجبني أيضًا تعاون حزب الكومونويلث، لكن كتابات كاوتسكي كانت واضحة وحاسمة لدرجة أنني فهمتها بسهولة، ولاحظت أيضا كلامه المفعم بالاشتراكية، أشكره هو وكل من ساعدني في الخروج من الظلام إلى النور.»
يشترك ديبس في بعض أفكاره الجوهرية مع روزا لوكسمبورغ، خصوصاً في اعتبار الحرية شرطاً أساسياً ومبدأً ملازماً للاشتراكية، وفي رفضه العنف الثوري كأداة للتغيير والإيمان بأن الوعي الجماهيري والعفوية الثورية أهم من الطليعة الحديدية.
وكتب مؤيداً للثورة الروسية 1917 بوصفها “ثورة الشعب ضدّ الإمبريالية”، لكنه رفض استنساخ النموذج البلشفي في أميركا.

«فلاديمير لينين» يشهد لـ «يوجين ديبس»
كتب فلاديمير لينين في رسالته إلى العمّال الأمريكيين عام 1918 مشيداً بموقف ديبس المناهض للحرب الإمبريالية، ومقتبساً من مقالته الشهيرة “What Shall I Fight For” المنشورة في صحيفة Appeal to Reason أواخر عام 1915. قال لينين في نصه:
«لن يتبع العمّال الأمريكيون البرجوازية، بل سيكونون معنا في الحرب الأهلية ضدّها. إن تاريخ العالم وتاريخ الحركة العمالية الأمريكية يعزّزان قناعتي بذلك.
كما أستذكر كلمات أحد أحبّ قادة البروليتاريا الأمريكية، يوجين ديبس، الذي كتب في صحيفة Appeal to Reason، أواخر عام 1915 في مقال بعنوان “من أجل ماذا أقاتل؟”، بأنه يفضّل أن يُطلق عليه النار على أن يصوّت لصالح الاعتمادات المالية لهذه الحرب الإجرامية الرجعية؛ وأنه لا يعرف إلا حرباً واحدة مقدّسة ومشروعة من وجهة نظر البروليتاريا، هي الحرب ضدّ الرأسماليين، الحرب لتحرير البشرية من عبودية الأجر».

النص الأصلي كما ورد بالإنكليزية في رسالة لينين المؤرخة في 20 آب/أغسطس 1918:
“The American workers will not follow the bourgeoisie. They will be with us, for civil war against the bourgeoisie. The whole history of the world and of the American labour movement strengthens my conviction that this is so. I also recall the words of one of the most beloved leaders of the American proletariat, Eugene Debs, who wrote in the Appeal to Reason, I believe towards the end of 1915, in the article ‘What Shall I Fight For’—that he, Debs, would rather be shot than vote credits for the present criminal and reactionary war that he, Debs, knows of only one holy and, from the proletarian standpoint, legitimate war, namely: the war against the capitalists, the war to liberate mankind from wage-slavery.”

من خلال هذه الرسالة، أظهر لينين إعجاباً صريحاً بموقف ديبس المبدئي، واعتبره صوتاً صادقاً للطبقة العاملة في أميركا، ورأى أن محاكمته وسجنه يمثلان دليلاً على وحشية الديمقراطية البرجوازية الأمريكية تجاه من يعبّر عن مصالح العمال.
كما كتب لينين في مقالات لاحقة في جريدة البرافدا (Pravda) عام 1919، مؤكّداً الموقف ذاته من ديبس وصموده في السجن.

ديبس بين الجدل الثلاثي: كاوتسكي، روزا، ولينين

كارل كاوتسكي: المرجع النظري للأممية الثانية، تبنّى خطّ الإصلاح البرلماني التدريجي نحو الاشتراكية.
روزا لوكسمبورغ: عارضت كاوتسكي بشدة، وانتقدته بوصفه “مفكراً خان المبدأ الثوري”، معتبرة أن الثورة الجماهيرية العفوية هي روح الاشتراكية.
فلاديمير لينين: هاجم كاوتسكي لاحقاً في كتيّبه «الثورة البروليتارية وكاوتسكي المرتدّ» (1918)، واعتبره “مرتداً عن الماركسية الثورية.”
أما ديبس، فبقي على علاقة فكرية هادئة بكاوتسكي من دون أن يتورّط في هذا الصراع النظري، محتفظاً بموقعه كـ ضمير إنساني حرّ بين مدارس الاشتراكية الثلاث.

ممداني يستعيد ما وُئِد: ديبس والاشتراكية كلغةٍ أخلاقية

حين يستخدم زهران ممداني جملة ديبس بعد أكثر من قرن، فهو لا يستعير تفاؤلاً عاطفياً، بل يستدعي ذاكرة سياسية وأخلاقية دفنتها الحرب الباردة وشيطنة كلمة "الإشتراكية".
كأنّه يقول إن الاشتراكية ليست غريبة عن أميركا، بل من جذورها الإنسانية الأولى - جذور ديبس، العامل النقابي الذي رأى في العدالة جوهر الحرية، وفي المساواة شرط الإنسانية.
فحين يردّد ممداني:
“I can see the dawn of a better day for humanity.”
فإنّه لا يصف نفسه اشتراكياً فقط، بل يعلن امتداد إرثٍ وُئِد قبل قرنٍ وأُعيد إحياؤه بلغةٍ جديدة ومعاصرة.
ورغم كل ذلك، يبقى زهران ممداني أمام اختبارٍ حقيقيٍّ وصعب؛ فبين الحملات الانتخابية المليئة بالشعارات والممارسة اليومية للسلطة، يبدأ الامتحان الفعلي لليسار الأمريكي - لا في خطابه، بل في قدرته على الفعل.

6/11/2025
دينا الطائي

------------------------------------------
🔴 المصادر:
📌فلاديمير لينين (رسالة الى العمال الأمريكيين) في المجلد (٢٨) من الاعمال الكاملة.
V. I. Lenin, “Letter to American Workers”, August 20 1918, في المجلد 28 من Collected Works,
متاح على موقع ضمن أرشيف الإنترنت للماركسيين
Marxists Internet Archive.
https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1918/aug/20.htm
📌يوجين ڤيكتور ديبس، خطاب كانتون – أوهايو (خطاب مناهض للحرب)، 16 حزيران/يونيو 1918، منشور لأول مرة في جريدة The Call، ومتاح ضمن أرشيف الإنترنت للماركسيين:
https://www.marxists.org/archive/debs/works/1918/canton.htm
📌السيرة الذاتية ليوجين ديبس / ويكيبيديا
https://ar.wikipedia.org/wiki/يوجين_فيكتور_دبس
@followers