اِسْتَيْقِظُوا أَيُّهَا الْغَرْبِيُّونَ فَإِنَّ الطُّوفَانَ قَادِم
اسحق قومي
2025 / 11 / 8 - 16:54
يا أَيُّهَا الْغَرْبِيُّونَ، إِنَّنا نَقِفُ الْيَوْمَ عَلَى أَعْتابِ تَحَوُّلٍ عَميقٍ يَجْتاحُ مُجْتَمَعاتِكُمْ، تَحَوُّلٍ لَمْ يَعُدْ خافِيًا ولا عابِرًا، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ يَتَشَكَّلُ بِهُدوءٍ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ مَفاجِئًا كَالسَّيْلِ إِذا طَمَى.
إِنَّ مَسْأَلَةَ تَقَلُّدِ اللاجِئِينَ وأَبْنائِهِمْ مَواقِعَ السُّلْطَةِ وَالتَّأثيرِ في الدُّوَلِ الغَرْبِيَّةِ لَيْسَتْ قَضِيَّةً عابِرَةً، بَلْ قَضِيَّةٌ تَمَسُّ الْهُوِيَّةَ والوَلاءَ والأَمْنَ الْقَوْمِيَّ.
فَالْوَطَنُ لَيْسَ فُنْدُقًا يَدْخُلُهُ الإِنْسانُ مُؤَقَّتًا فَيَسْتَمْتِعُ بِما يُناسِبُهُ، ثُمَّ يُغادِرُ إِذا شِئْتَ المَصالِحُ.
الْوَطَنُ جُذُورٌ تَنغرس فِي التُّرابِ، وَإِرْثٌ يَنْتَقِلُ فِي الدَّمِ وَالذَّاكِرَةِ وَالإِحْساسِ.
فَهَلْ يَسْتَوِي الَّذِي عاشَ أَجْدادُهُ قُرونًا يَبْنُونَ وَيُدافِعُونَ وَيُقَدِّمُونَ الضَّرائِبَ وَالأُرْواحَ، مَعَ الَّذِي وَصَلَ أَمْسِ وَلَمْ يَعْرِفْ بَعْدُ إِلَّا أَسْماءَ الشَّوارِعِ؟
هَلْ هَذِهِ عَدالَةٌ؟
أَمْ هِيَ مُسَاوَاةٌ تَمْحُو فَرْقَ الْجُذُورِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ وَالتَّضْحِيَةِ؟
إِنَّ الدِّيمُقْراطِيَّةَ الَّتي لا تَضَعُ حُدُودًا لِوَظائِفِ السُّلْطَةِ تَتَحَوَّلُ إِلى فَوْضى مُقَنَّعَة، وَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ الَّتي لا تُقيَّدُ بِمسؤوليَّةٍ تَنْقَلِبُ إِلى فَوْضى مَدَنِيَّة تَأْكُلُ نَفْسَها.
إِنِّي قُلْتُ لِذَلِكَ السِّياسِيِّ الْأَلْمانِيِّ بِلَفْظٍ صَريحٍ:لا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَلَّدَ المَناصِبَ الحَسَّاسَةَ فِي الدَّوْلَةِ إِلَّا مَنْ تَجَذَّرَ هُوِيًّا وَوَطَنِيًّا، وَذَلِكَ يَحْتاجُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَجْيالٍ عَلَى الأَقَلّ؛ لِأَنَّ الْوَلاءَ لا يَنْشَأُ فِي الْوَقْتِ، بَلْ فِي التَّوارُثِ الْقِيمِيِّ وَالثَّقافِيِّ وَالذّاكِرِي.
فَالَّذِي لا يَحْمِلُ تَارِيخَ الْوَطَنِ فِي صَدْرِهِ، سَيَحْمِلُ تَارِيخًا آخَرَ،وَالَّذِي لا يَرى الْمَصيرَ مُشْتَرَكًا، سَيَراهُ مُتَجَزِّئًا.
وَهُنا يَبْدَأُ تَصارُعُ الأَجْنَداتِ،وَيَنْشَأُ الخَوْفُ الَّذي سَيُعِيدُ التَّاريخَ إِلى مَراحِلِ الصِّراعِ وَالتَّشَقُّقِ.
وَقَدْ قُلْتُ لَهُ أَيضًا:إِنَّ الْغَرْبَ يَظُنُّ أَنَّ فَتْحَ الأَبْوابِ كَرَمٌ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَنَّ كُلَّ حَضارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مَحْمِيَّةٌ بِسُورٍ قِيَمِيٍّ وَأَخْلاقِيٍّ مُشْتَرَك.
فَإِذا اِنْهارَ السُّورُ، لَمْ يَبْقَ شَعْبٌ، بَلْ أَفْرادٌ مُتَجاوِرُونَ لا مُتَّحِدُونَ.
أَنَا لا أُعادِي أَحَدًا، ولا أَحْمِلُ بُغْضًا لِدِينٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ عِرْقٍ.
وَلَكِنَّ إِدارَةَ الدُّوَلِ لا تُقامُ عَلَى الْعاطِفَةِ، بَلْ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالتَّوازُنِ وَحِفْظِ الْكِيانِ.
وَالْقَوانِينُ الَّتي سُنَّتْ لِمُجْتَمَعاتٍ مُتَجانِسَةٍ، لا يُمْكِنُ أَنْ تَصْمُدَ فِي وَاقِعٍ لَمْ يَعُدْ يَجْمَعُهُ قِيَمٌ مُشْتَرَكَة.
وَعِنْدَئِذٍ – وَأُقُولُهَا بِلا مُراوَغَةٍ –سَيَدْفَعُ الْغَرْبُ ضَرِيبَةَ الدِّماءِ،لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعِدْ.
اِسْتَيْقِظُوا… قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الإِنْقاذُ مُتَأَخِّرًا،فَإِنَّ الطُّوفانَ لا يَقْتَرِبُ، بَلْ يَهْجُمُ مُباشَرَةً.
وَلَيْسَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْقَانُونَ الْوَضْعِيَّ تَحْتَ دِينِهِ بِالَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ أَمْرُ دَوْلَةٍ تَقُومُ عَلَى الدُّسْتُورِ وَالْمُؤَسَّسَةِ وَالْقِيمِ الْمَدَنِيَّةِ. فَمَنْ يَرَى أَنَّ الطَّاعَةَ العَقَدِيَّةَ أَعْلَى مِنَ الْوَطَنِيَّةِ، لَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ خَالِصًا، وَلَنْ يَقِفَ مَعَ الدَّوْلَةِ إِذَا وَقَعَ التَّصَادُمُ بَيْنَ النَّصِّ الدِّينِيِّ وَالنَّصِّ الْقَانُونِيِّ.
وَهُنَا يَجِبُ أَنْ نَقُولَ الْحَقَّ كَمَا هُوَ:
إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَمُونَ إِلَى بِيئَاتٍ شَرْقِيَّةٍ – لا لِأَصْلِهِمْ الْبَشَرِيِّ، بَلْ لِتَكْوِينِهِمُ التَّرْبَوِيِّ وَالثَّقَافِيِّ – يَحْمِلُونَ مَفَاهِيمَ عَنْ الْهُوِيَّةِ وَالسُّلْطَةِ وَالْقِيمِ تَخْتَلِفُ فِي جَوْهَرِهَا عَنِ الْمَفَاهِيمِ الَّتِي تُقِيمُ عَلَيْهَا الدُّوَلُ الْغَرْبِيَّةُ نُظُمَهَا الْحَدِيثَةَ.
فَهُمْ – فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِمْ – أَبْنَاءُ تَرْبِيَةٍ جَمَاعِيَّةٍ، يَتَقَدَّمُ فِيهَا وَلاءُ العَشِيرَةِ وَالدِّينِ وَالطَّائِفَةِ عَلَى وَلاءِ الدَّوْلَةِ.
وَلَوْ بَدَوْا فِي الظَّاهِرِ مُتَحَدِّثِينَ بِلُغَةٍ حَدِيثَةٍ، وَوَاجِهْتَهُمْ تُظْهِرُ حَضَارَةً وَانْفِتاحًا، فَإِنَّ الْبِذْرَةَ الْقِيمِيَّةَ الْأَصْلِيَّةَ تَبْقَى رَاسِخَةً، تَظْهَرُ حِينَ تَتَاحُ لَهُمُ السُّلْطَةُ أَوِ الْغَلَبَةُ.
فَالسُّؤَالُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُطْرَحَ عَلَى صُنَّاعِ الْقَرَارِ الْغَرْبِيِّينَ هُوَ:
هَلْ هَذَا غَبَاءٌ سِيَاسِيٌّ؟
أَمْ هِيَ سِيَاسَةٌ مُتَعَمَّدَةٌ لِتَفْرِيغِ الدُّوَلِ مِنْ هُوِيَّتِهَا، وَتَحْوِيلِهَا إِلَى جُزُرٍ بَشَرِيَّةٍ مُتَنَافِسَةٍ لَا أُمَّةً وَاحِدَةً؟
إِنَّ الدُّوَلَ الَّتِي تُفْرِطُ فِي تَسْلِيمِ الْهُوِيَّةِ تَظُنُّ أَنَّهَا تُؤَدِّي عَمَلًا أَخْلَاقِيًّا،وَلَكِنَّهَا – فِي الْحَقِيقَةِ –
تَفْتَحُ بَابًا لِصِرَاعِ هُوِيَّاتٍ سَيَكُونُ دَمَوِيًّا إِذَا نَضَجَ.
وَالْعَاقِلُ يَعْلَمُ:لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِكَ، قَدْ أَصْبَحَ مِنْكَ.
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ لَبِسَ زِيَّكَ، قَدْ دَخَلَ فِي قِيمِكَ.
وَلِذَلِكَ قُلْنَا وَنُعِيدُ:إِنَّ الْمَنَاصِبَ الْعُلْيَا وَالْمَجَالِسَ التَّشْرِيعِيَّةَ وَمَفَاصِلَ الْقَرَارِ
لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهَا إِلَّا مَنْ ثَبَتَ وَلَاؤُهُ وَتَجَذَّرَ انْتِمَاؤُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَجْيَالٍ عَلَى الْأَقَلّ.
فَإِذَا لَمْ تُحْمَ الهُوِيَّةُ،فَسَيَجِيءُ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ الْوَطَنُ غَرِيبًا فِي بِلادِهِ.
وَحِينَئِذٍ سَيَكُونُ الطُّوفَانُ قَدْ وَصَلَ.
وَإِنَّنِي – وَأَنَا أُحَاوِلُ أَنْ أُوَضِّحَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ – لَا أَسْتَنِدُ إِلَى حَدْسٍ وَلَا إِلَى تَخَيُّلٍ، بَلْ إِلَى تَجْرِبَةٍ مَعِيشَةٍ وَمَعْرِفَةٍ عَمِيقَةٍ بِالنُّظُمِ التَّرْبَوِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَبْنَاءِ الشَّرْقِ.
فَهُمْ – فِي غَالِبِهِمْ – بُنِيَتْ نُفُوسُهُمْ عَلَى دَوَائِرِ وَلَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ، تَبْدَأُ بِالْبَيْتِ وَالْعَائِلَةِ، ثُمَّ الطَّائِفَةِ، ثُمَّ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ الدِّينِ، ثُمَّ أَمَّةٌ مُتَخَيَّلَةٌ لَا حُدُودَ لَهَا، ثُمَّ أَخِيرًا – وَقَدْ لَا تَأْتِي – وَلَاءُ الدَّوْلَةِ.
فَإِذَا كَانَ الْمُلْتَقَى الْأَوَّلُ فِي نَفْسِ الْفَرْدِ غَيْرَ الدَّوْلَةِ،فَإِنَّ المَنْطِقَ يَقُولُ:
سَيَبْقَى الْوَطَنُ خِيَارًا مُتَأَخِّرًا، وَلَيْسَ هُوِيَّةً أَصِيلَةً.
وَهُنَا مَكْمَنُ الْخَطَرِ.
فَمَنْ تَشَكَّلَ وَعْيُهُ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّسَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْقَانُونِ،وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ أَرْفَعُ مِنَ الدَّوْلَةِ،وَأَنَّ الْهُوِيَّةَ تُسْتَمَدُّ مِنَ التُّرَاثِ وَالنُّصُوصِ وَالْأُسَرِ، لَا مِنَ الدُّسْتُورِ وَالْمَدَنِيَّةِ،فَهَذَا – وَإِنْ تَبَسَّمَ وَتَحَدَّثَ بِلُغَتِكُمْ –سَيَبْقَى وَفِيًّا لِمَا تَجَذَّرَ فِيهِ.
وَمَا يَتَظَاهَرُ بِهِ مِنْ حَدَاثَةٍ، إِنَّمَا هُوَ قِشْرَةٌ،تَسْقُطُ يَوْمَ يَتَاحُ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِنَهُ.
هَذَا لَيْسَ تَجَنِّيًا، بَلْ قِراءَةٌ أَنْثُرُوبُولوجِيَّةٌ وَاجْتِمَاعِيَّةٌ لِلْهُوِيَّاتِ.
وَإِنَّ السُّؤالَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُسْمَعَ بِوُضُوحٍ فِي الْغَرْبِ هُوَ:
أَتُرِيدُونَ دَوْلَةً ذَاتَ هُوِيَّةٍ، أَمْ تُرِيدُونَ أَرْضًا مَفْتُوحَةً لِكُلِّ مَنْ يَحْمِلُ جِنسِيَّتَهَا؟
فَإِنَّ الْوَطَنَ إِذَا فَقَدَ هُوِيَّتَهُ، لَمْ يَعُدْ وَطَنًا،بَلْ أَصْبَحَ سُوقًا يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ لِلْمَنْفَعَةِ،فَإِذَا وَلَّتِ الْمَنْفَعَةُ، تَفَرَّقُوا.
وَمَا نَقُولُهُ الْيَوْمَ لَيْسَ تَشَاؤُمًا،بَلْ هُوَ تَوْثِيقُ بَصِيرَةٍ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدَثِ.
فَإِنَّ سَنَوَاتٍ قَلِيلَةً سَتُظْهِرُ مَنْ تَجَذَّرَ فِي الْوَطَنِ،وَمَنْ كَانَ يريد الْوَطَنَ لِيَكُونَ جِسْرًا لِغَيْرِهِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ سَيُقَالُ:هَذَا مَا أَخْبَرْنَاكُمْ بِهِ.
فَلْتَقْرَأهُ الْأَجْيَالُ الَّتِي سَتَأْتِي،وَلْتَعْلَمْ أَنَّنَا وَصَفْنَا الْوَاقِعَ قَبْلَ وُقُوعِهِ،لِأَنَّ خِبْرَتَنَا نَتَاجُ تَرْبِيَتِنَا الشَّرْقِيَّةِ،وَمَعْرِفَتُنَا بِالْمُكَوِّنَاتِ وَالْخَفَايَا وَالْمَسَارَاتِ.
الباحِثِ السُّورِيِّ
إِسْحق قَوْمِي. 7/11/2025م