مؤتمر باندونغ: يوم هزّ عرش طفولتي


مظهر محمد صالح
2025 / 9 / 8 - 22:50     

كانت مدرستي المسماة “فيصل الثاني”
تضج بالحراك والاستعداد لإجراء امتحاناتنا الأولى، نحن تلاميذ الصف الابتدائي. كنّا قد تعلمنا أبجديات الكتابة، وكان الامتحان الخطوة الثقافية والتربوية الأولى التي منحتنا مفتاحًا لطموحات طفولية لم تكن تدرك تمامًا شكل العالم، لكنها كانت تسعى لفهمه.
في تلك الأيام، لم يكن يخلو بيتنا من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، وكان الجميع في أسرتنا الكبيرة يطالع الأخبار ويستمع إلى الراديو، يتابعون ما يدور في البلاد والعالم.
كنت أجد نفسي منجذبًا إلى ذلك الزخم الإعلامي، وأحاول أن أفهم بفضول طفل لم يتجاوز الثامنة ، ماذا تعني كل تلك الكلمات الكبيرة: الاستعمار، الاستقلال، التكتلات، الحرب الباردة…!
لكن الحدث الذي هزّ وعيي الطفولي لأول مرة ، مؤتمر باندونغ الذي انعقد في إندونيسيا في 18 نيسان/أبريل عام 1955.
اذ كان حديث الصحف والمجلات مشحونًا بالحماسة، يصوّر المؤتمر كعلامة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية، ومنعطفًا أساسيًا في مسيرة حركات التحرر، ونقطة انطلاق لمشروع دولي جديد (حركة عدم الانحياز)
كنت يومها أتقلب بين صفحات القراءة الخلدونية، ومحاولات الفهم البريء لمعنى “عدم الانحياز”، غير أنني وجدت نفسي أتساءل: ما هو الانحياز أصلًا حتى أفهم نقيضه؟
أعجبتني صور القادة الذين احتلوا الصفحات الأولى لصحف اليسار واليمين العراقي، وتجلّت أمامي هيبة رجالٍ صنعوا مجد المؤتمر: نهرو، سوكارنو، عبد الناصر… كانوا رموزًا للاستقلال والكرامة.

وفي الوقت ذاته، كانت مدينتي تئنّ من آثار الاستعمار البريطاني وقواعده التي لا تزال نشطة، تدعم حلف بغداد.
كان هناك تناقضاً فاضحاً بين ما نقرؤه عن الحرية ، وما نراه من جدران ومعسكرات لا تزال قائمة وقتها . كانت الوطنية في ذهني الطفولي تنمو في وسط تلك التناقضات، تبحث عن معنى الحرية الحقيقي.
مرت سنوات قليلة، وكنا نقترب من نهاية المرحلة الابتدائية.
جمعتني الحياة ذات يوم بمقعد دراسي مع أحد التلاميذ ، كان مولعًا بفكرة “الحياد الإيجابي” سألته ببراءة عن نتائج مؤتمر باندونغ، بعد أن بدأت أفهم - بشق الأنفس - معنى عدم الانحياز ، وحاولت أن أبدو كمن يملك مفاتيح السياسة الدولية.
ابتسم بثقة، كأنما هو قائد سياسي، وقال:
“لقد دعا المؤتمر إلى تعزيز السلام العالمي وتخفيف التوترات الدولية ، وكان منصة للتضامن الدولي، وقد مهد لانتصار مصر في حرب السويس في الاعوام القليلة الماضية.”
عدت إلى البيت متحمسًا، وجلست على مائدة الغداء، وأخذت أشرح لوالدي بصوتٍ عالٍ أهمية مؤتمر باندونغ، وسألته بحرارة: لماذا لم يحضر العراق ذلك المؤتمر؟
نظر إلي والدي، وفي عينيه نصف ابتسامة، ثم قال بهدوء وهو يشير إلى طبقي الممتلئ بالأرز ومرق السمك العراقي البني، الذي أعدّته أمي بتمر هندي وثوم وكرفس وهو متبل بتوابل شرق آسيا:
“يا بني، مؤتمر عدم الانحياز يعني أن نحافظ على خيرات بلادنا… لنستمر في التمتع بهذه المائدة، دون أن نُحرم من لذتها.”
عندها، ترسّخت في ذهني فكرةٌ جديدة: أن السياسة ليست فقط مؤتمرات وشعارات، بل هي أيضًا أرزٌّ ومرق، كرامةٌ يومية، واستقلالٌ يتجلى حتى في الطعام.
تلك كانت بذرة وعيي الاقتصادي الأول، تنامت في ظل ما كان يُسمى بـ”العالم الثالث”، ورافقني هذا الهمّ حتى وأنا أقترب اليوم من عقدي الثامن. لقد تغيّر شكل الاستعمار، وبدّل جلده، ولم يعد احتلالًا مباشرًا، بل صار هيمنةً عبر “الإمبريالية الوظيفية”، حيث توظَّف الدول التابعة لخدمة مصالح القوى الكبرى، دون أن تطأ جيوشها الأرض.
انها هيمنة لا تُفكك السيادة والاستقلال فحسب ، بل تجعل الأرض والدولة مسرحًا لعمليات اقتصادية وسياسية تخدم الآخر، لا الذات.
ولكن يبقى مؤتمر باندونغ لن يغيب عن ذاكرتي ومحيطها الوطني والانساني.


انتهى///