حوار الطالب وعامل النظافة : كرامة تلامس البحر
مظهر محمد صالح
2025 / 6 / 26 - 22:39
في أزمنةٍ تتداخل فيها القيم، وتتصدّع فيها معايير التقدير الاجتماعي، يبقى الحوار الإنساني العميق هو ما يكشف معادن الشعوب، ويرسم ملامح مصير الحضارات.
أبكتني حكايةُ الأديب محمد رؤوف عن ابنة عامل النظافة العراقي التي أصبحت طبيبة ، لكنها ظلّت تحمل على كتفيها أوزار طبقةٍ لا ترحم.
في بلادنا، لا تعفيك الكفاءة من مرارة الأصل، ولا تضمن لك الشهاداتُ كرامةً ما دامت تُوَزَع وفق الأنساب لا الأحلام.
ذكّرتني هذه القصةُ بمشهدٍ من غربتي البعيدة، يوم كنت طالبًا في ويلز، غرب المملكة المتحدة، قبل أربعين عامًا.
كنت أبحث في مساءات نهاية الأسبوع عن شيء من الدفء، في مطاعم المدينة الجامعية الصغيرة المطلة على ساحل البحر.
لم يخطر ببالي يومها أن عامل نظافة شارعنا سيكون أحد أنبل من عرفت.
كان شابًا أنيقًا حين يخلع عن كتفه ثوب العمل، ويجلس بهدوء في ركن من حانة متواضعة (pub)، محاطًا بروّادها من أهل المدينة.
لم يكن بيننا تكلّف؛ تبدأ أحاديثنا من هموم الحياة اليومية، وتمتد إلى اقتصاد مارغريت تاتشر، وضيق البرامج الاجتماعية، وتقشف الدولة.
لم يكن يتذمّر، بل كان يتحدث بفخر عن راتبه، وعن الضمان الاجتماعي، وعن الحقوق التي يصونها له القانون.
أما أنا، فكنت أحدثه عن ضيق العيش كطالب مغترب، أحاول إكمال دراستي العليا بالقليل من الجنيهات، وأتدبّر شؤوني باقتصاديات طالبٍ عربي في بلادٍ كانت تبذر مواردها في حروب لا قيمة إنسانية لها.
كنا نبتسم بألم، ونُطبق أسماعنا ونحن نتطلع إلى ملامح مستقبلٍ في كلٍّ من بلاده.
كنت أنسى أنه عامل نظافة ، وهو ينسى أنه يُزيل قاذورات الآخرين.
كنا فقط إنسانَين يتقاسمان مساءً خفيفًا، ويصغيان للعالم دون أقنعة.
كنت، في لحظات حوارنا، أنسى هموم الدراسة، وهو ينسى هموم رفع القمامة.
التقينا في نقطة واحدة: الاحترام المتبادل، والجوهر الإنساني.
هناك، في ذلك المكان البعيد على شاطئ البحر الإيرلندي الشرقي، الهادئ الأمواج والقليل الدفء على مدار العام، فهمت الفرق:
ليس في المهنة، بل في نظرة المجتمع والقانون لها.
في بعض الأمم، تُورِث المهن ذلًّا. وفي أخرى، تُكسى بالعزّ.
هناك، أدركت أن الأمم لا تنهض إلا حين يعتزّ أبناؤها بأعمالهم، أياً كانت، ما دامت توفر لهم الكرامة والأمان.
فليس العمل هو ما يصنع الفارق، بل القيمة التي تمنحها له الدولة والمجتمع.
وعندها، عرفت يقينًا أن التمايز لا تصنعه المهن ولا العرق، بل تصنعه الأنظمة الاجتماعية التي تُهين الإنسان… أو ترفعه.
ومن تلك الأمسية الباردة، خرجت بإيمانٍ دافئ:
في عالمٍ تحفظ فيه القوانين كرامة عامل النظافة ، لا تبقى الكرامة غريبة عن أحد.
وبالمحتوى الإنساني، وحده، تتقدّم الأمم.