العقبات التي يجابهها شباب العصر الرقمي، من حوارنا -كأن الذكاء الاصطناعي هو الكأس المقدسة-، مع الرفيق رزكار عقراوي – بؤرة ضوء – الحلقة السادسة
فاطمة الفلاحي
2025 / 6 / 20 - 03:08
سؤال 6 لماذا يجابه شباب العصر الرقمي داخل التنظيمات اليسارية الكثير من العقبات في تقبلهم، عكس ما يحدث في الرأسمالية تتبنى وعي عقولهم ؟
يتم تغذية الذكاء الاصطناعي بالآلاف أو الملايين من المعلومات، وتم تصميم "شبكته العصبية" لكي تحدد، من خلال مستويات التجريد، السمات أو الأنماط العامة في هذه القطع من المعلومات.
لأن أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه يمكن تدريبها على كميات هائلة من المعلومات المحددة، أكثر بكثير مما يمكن أن يفعله الإنسان على الإطلاق، مما يسمح لها بتحديد الأنماط في ظواهر لا يستطيع البشر فهمها، أو قد يستغرقون وقتا طويلا جدا لفهمها. ماذا لو تم تغذية إدارة التنظيمات اليسارية بالمعلومات.. هل سيجابه شباب العصر الرقمي مثل تلك العقبات؟
يجيبنا مشكورا الرفيق رزكار عقراوي في أدناه:
سؤال جوهري، لأن فهمه يتجاوز مجرد سلوك تنظيمي داخلي، ويمس صلب العلاقة بين اليسار والشبيبة في العصر الرقمي. الجواب لا يمكن اختزاله فقط في ضعف اهتمام معظم الشباب بالسياسة والابتعاد عنها وخلق مبررات لذلك، الامر يتطلب إعادة النظر بشكل جدي وعميق في البنية التنظيمية اليسارية التقليدية التي لم تعد قادرة على التفاعل مع التحولات العميقة التي فرضها التطور المعرفي والتقني والحقوقي والديمقراطي، والتغيير الكبير في اليات التعبير والتفاعل، سواء على صعيد الوعي أو أدوات التواصل أو الفعل والنضال السياسي نفسه.
كما نرى، الرأسمالية وبالأخص الرقمية استطاعت ونجحت في جذب معظم الشبيبة، ليس من خلال برامج سياسية واجتماعية فقط، وإنما من خلال خلق فضاء واسع للتعبير عن الذات، وتوليد إحساس بالوجود والفاعلية اللحظية، عبر المنصات والخوارزميات وآليات الاعتراف الرمزي والتفاعل الفوري. هذه المساحات الرقمية تقدم للشباب ما يشبه الحرية والشفافية والتفاعل والتعبير الحر عن الرأي، وان كانت في الحقيقة تعيد إنتاج قيم السوق، وتطبع وتغسل الوعي الفردي والأنماط السلوكية داخل نموذج رأسمالي استهلاكي رقابي، يخدم السيطرة الطبقية، ويحاصر ويقيد أي ميل للتغيير الاجتماعي أو التفكير اليساري والتقدمي.
في المقابل، ما زالت معظم التنظيمات اليسارية تعتمد هياكل وأشكال تواصل قديمة، بطيئة، هرمية، مغلقة، لا تعترف بالمبادرات الفردية بشكل جدي، ولا بالحق في التعبير المستقل خارجها، وتحصره في الأطر الحزبية المغلقة وفق توجهات القيادة، وفي أغلبيتها بخط فكري واحد لا يتقبل الأفكار اليسارية الأخرى وحق الاختلاف. هذا ولد فجوة عميقة في الوسائل والثقافة التنظيمية، وجعل العديد من الشباب والشابات يبتعدون عنها حيث يشعرون بأن انخراطهم داخل هذه التنظيمات من الممكن ان يتطلب التخلي عن هويتهم الرقمية وحرياتهم وحقهم الكبير في التعبير عن الرأي، وتكييف وعيهم وتأطير أفكارهم وفق معايير فكرية وتنظيمية جامدة، يفرضها غالبا من هم في مواقع القيادة ومعظمهم كبار في السن، ولدي معظمهم ضعف واضح في مواكبة وفهم ديناميكيات العصر وبالأخص الثورة الرقمية.
الشبيبة هم الفئة الأكثر عرضة للاستغلال الرقمي، ولكن في نفس الوقت الأكثر قدرة على مقاومته، إذا توفرت لهم الشروط السياسية والتنظيمية والفكرية التي تتيح تفعيل وعيهم التقدمي وقدراتهم الكبيرة. وهذا يتطلب تغييرا جذريا في البنية الحزبية والتنظيمية لليسار، وتجاوز أشكال القيادة التقليدية التي تقييد العقل الجماعي، وتعطل الإبداع، وتخضع كل فكر متجدد لمساطر أيديولوجية أو تنظيمية ثقيلة ومقيدة، وتحصره بمجموعة أشخاص. وقد طرحت ذلك بالتفصيل في المواضيع المتعلقة باليسار الإلكتروني الذي يدعو الى تحديث وتطوير تنظيمي وفكري كبير في قوى وتنظيمات اليسار، بحيث تقترب من الشباب ويكون لهم دور قيادي فعلي داخل تلك التنظيمات.
كما اشرت في فصول الكتاب، الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل هو الان أحد ساحات الصراع الطبقي المهمة، وفضاء يعيد توزيع القوة والهيمنة. من هنا، فإن اعادة دمج الشبيبة داخل قوى اليسار هو شرط موضوعي ومهم جدا لخوض هذا الصراع الحيوي.، حيث لهم إذا تم تمكينهم، القدرة على تحويل هذه البيئة الرقمية من أداة هيمنة رأسمالية إلى أداة مقاومة وتحشيد وتغيير لصالح قوى اليسار والتقدم.
لذلك ان أي حديث عن تجديد اليسار يبقى ناقصا إذا لم يدمج الشبيبة كقوة قيادية. المطلوب إذا ليس فقط إشراكهم في المهام التنظيمية، وإنما الاعتراف بموقعهم القيادي التاريخي الفاعل في هذه المرحلة. فالتنظيمات اليسارية لا يمكنها أن تواجه الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، الذي يعمل على هندسة السلوك البشري وفق قيم السوق، وهي تعاني من أمية رقمية واضحة وتتمسك بأدوات تقليدية. كسر الهيمنة الرقمية يتطلب تطوير الإمكانيات والكفاءات التقنية، وخاصة عبر توظيف طاقات الشبيبة التي تمتلك قدرة وديناميكية فريدة على التحرك الفاعل داخل الفضاء الرقمي، واستخدام أدواته، وفهم لغته. هذه الشبيبة لا تحتاج بالضرورة إلى تأطير تنظيمي تقليدي، وانما إلى فضاء حر ومرن يتيح لها ربط مهاراتها الرقمية بمشروع سياسي يساري تحرري. لذلك لا يجوز جرهم إلى الوراء نحو آليات تنظيمية عفا عليها الزمن، لذلك يجب أن يتحول انخراطهم إلى فرصة لإعادة تجديد وعصرنة أدوات التنظيم، وتطوير نماذج يسارية مرنة، أفقية، متعددة المنابر، مفتوحة وتشاركية، قادرة على تحويل الذكاء الرقمي إلى وعي سياسي، وتحويل الاستخدام اليومي للتقنيات إلى مساحات نضال فعالة من أجل التغيير الاشتراكي.
الشبيبة اليوم ليست فقط هدفا للهيمنة، إنما أيضا تمثل إحدى أخطر التحديات لهذه الهيمنة حين يتم تنظيمها. وبدون هذا التنظيم، ستبقى الرأسمالية قادرة على تطويقهم فردا فردا، وتوجيههم وفق أفكارها، وتحويل طاقتهم إلى أرباح ولتعزيز سياساتها، وتسخير حضورهم الرقمي لتغذية آلة السيطرة والهيمنة. في المقابل، حين يفتح أمامهم أفق العمل اليساري الجماعي، تعترف بأدوارهم وقدراتهم في القيادة والقاعدة وفي كافة المستويات والتخصصات، من الممكن ان نكون أمام تحول حقيقي تدريجي في ميزان القوى داخل الفضاء الرقمي وفي المجتمع كله.
بالتالي، ليست المسألة هنا في تكييف الشبيبة مع تنظيمات اليسار وإقناعهم بالانضمام لها ، وانما في تكييف تلك التنظيمات نفسها مع الوعي والشروط التاريخية الجديدة التي أنتجها العصر الرقمي. لقد تغير وعي الشبيبة، ولم تعد تنظيمات اليسار قادرة على استيعابه ما لم تغير نفسها. و يتطلب ذلك واجراء تغييرات تنظيمية وفكرية حقيقية وجذرية وخلق الظروف والاليات والسياسات التي تجذب الشباب لتنظيمات اليسار مرة اخرى حسب طبيعة كل بلد ووفق موازين القوى الطبقية، بهذه الطريقة يمكن تعزيز ربط الجيل الجديد بالنضال اليساري والتقدمي من اجل عالم افضل للبشرية.
انتظرونا في الحلقة السابعة من "كأن الذكاء الاصطناعي هو الكأس المقدسة".