دواعي تسريب المكالمة الهاتفية بين عبد الناصر ومعمر القذافي في جويلية 1970
عزالدين بوغانمي
2025 / 5 / 7 - 17:53
المكالمة الهاتفية بين الزعيم جمال عبد الناصر والمغفور له معمّر القذّافي، كمين للأحياء وللسّلاح. وليس المقصود مدح الحبيب بورقيبة، ولا ذمّ جمال عبد النّاصر.
هنالك قاعدة تفيد بأنّ تسريب المكالمات السرّية لشخصيات عامّة، لا يُفهم أبدًا بما ورد فيها من كلمات، بل يُفهم بتوقيت نشرها، وسياقاتها السياسية، وتحديد المُتضرّرين من هذا البثّ، وأصحاب المصلحة في ترويجه... إلخ.
لذلك، فإنّ بثّ مكالمة جمال عبد الناصر مع القذافي في صيف 1970 حول ما يُعرف بـ"مبادرة روجرز"(*) في هذا التوقيت بالذّات، ليس حدثًا معزولًا عن السّياق العربي اليوم. بل هو جزء من حملة إعلامية تقودها أنظمة عربية مُطبِّعة. وفي الواقع، لا تتّجه نواياها لضرب رمزية عبد النّاصر بقدر ما تستهدف فكرة تحرير فلسطين.
بمعنى أن هدف الحملة ليس التشويه الشخصي لعبد الناصر، ولا تمجيدًا للحبيب بورقيبة، بل تقويضٌ لأُسس فكرة المقاومة(**)، وتبرير الضّغوط على فصائلها، ودفعها نحو نزع السّلاح والاستسلام، تمهيدًا لتصفية القضيّة وترك غزّة وحدها في مواجهة الإبادة.
لماذا الآن؟
منذ بثّت المكالمة المُسرّبة، لم تهدأ القنوات العربية ذات التوجّه الصهيوني، ولم تتوقّف عن تثبيت "اعتراف عبد الناصر" بالكيان، وكونه بذلك "الاعتراف" المُفتعل، يُعدّ سياسيًّا عقلانيًّا ورجل دولة ذكيًّا... غاية هذه القنوات ومن يقف وراءها، هي محاولة تقويض أُسس فكرة الصّمود وعدم الاعتراف بالاحتلال.
ردًّا على هذا الهجوم المتخابث على المقاومة، بافتعال سرديّة استسلام عبد الناصر، نُذكّر بما دلّت عليه التّطورات التي تلت قبول عبد الناصر بـ"مبادرة روجرز"، أنّ الرّجل لم يكن يثق بالأمريكان، في قرارة نفسه، ولا بجدوى تلك المبادرة. إنّما قبِل بها كغطاء سياسي مكَّنه من بناء حائط صواريخ دفاع جوّي غرب القناة، لمجابهة الطيران الإسرائيلي في تلك المرحلة، ولاحقًا لتغطية القوات المصرية التي ستعبر القناة في الحرب المنتظرة.
وهو ما كان خلال حرب أكتوبر 1973، حيث غطّت مظلّة الدفاع الجوي المصري عمق 15-20 كيلومترًا داخل سيناء، الأمر الذي مكّن من العبور، بأقلّ الأضرار الممكنة من الناحية العسكرية. بمعنى: عبد الناصر كان يستعدّ للمعركة، وقبوله بمبادرة روجرز هو جزء من الاستعداد للحرب. ولم يكن بإمكانه، في ذلك الظرف، الإفصاح عن نواياه لا للقذافي، ولا للفلسطينيين الذين ندّدوا به، ولا لغيرهم.
وبقطع النّظر عن تفاصيل وقائع التاريخ التي تدحض سرديّة الاعتراف والاستسلام المُزوّرة، والتي يُرادُ من خلالها المشاركة في نزع سلاح المقاومة وتعليق الجريمة على قامة عبد الناصر، وبقطع النظر عن أنّ أصحاب العقول يُدركون أن هذا الادّعاء يُعتبر عمليّة عسكرية صهيونية من نوع خاص، حيث يتمّ قصف التاريخ هذه المرّة لمحو المقدّمات الرمزية للمقاومة والصمود...
بقطع النّظر عن كلّ هذا، هنالك سؤال بسيط يطرح نفسه، ويحمل روح الحقيقة:
لماذا ظلّ عبد الناصر حيًّا بين الناس بعد وفاته، وإلى اليوم؟
الجواب:
مهما اختلفنا حول هذا الرّجل — ونحن فعلًا عندنا تقييمنا لأسباب فشل مشروعه في قيادة حركة التحرّر الوطني العربية، ونعتقد أن الرّئيس السّادات والمسار الذي انتهى إليه، قرينة قاطعة على أن فشل المشروع ارتبط بالبنية الطبقية للدولة النّاصرية نفسها، وليس بشخص عبد الناصر.
وعندنا فهمنا الموضوعي لأخطائه.
لكنّنا نعرف بأنه لم يستسلم حين انهزم في 1967. ولم يُفرّط في فلسطين. بل وجّه كلّ جهود مصر لإعادة هيكلة القوات المسلحة وبنائها وتسليحها في انتظار المواجهة. ولذلك، وخلافًا لما تُروّجه الرجعية اليوم، نحن نعتبر، على وجه اليقين، أن جمال عبد الناصر مات يُحارب على الجبهة.
---
(*) مبادرة روجرز: مبادرة لوزير الخارجية الأمريكي (روجرز) في عهد ريتشارد نيكسون، تضمّنت نقطتين أساسيتين:
وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر.
وتطبيق القرار 242.
(**) كان لعبد الناصر دور كبير في إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، ورعايتها، وتدريبها، وتسليحها. وقبلها حركة فتح، وقبل ذلك حركة القوميين العرب التي ستصبح لاحقًا الجبهة الشعبية.