الكادح الريعي بين السركال والسجان .. قصة من حياتي .
مظهر محمد صالح
2025 / 5 / 2 - 00:19
لم تكن دعوة عادية بل استثنائية من جارنا الرجل الوقور الصارم الذي اعتاد ان يسوق سيارة (شوفرليت ستيشن) فارهة من موديل حديث قبل ستين عاماً ونحن ننظر اليه بهيبة عن بعد ، و الذي كان يعمل مديراً في واحدة من مصانع العاصمة بغداد لانتاج المشروبات الغازية وقت ذاك.
- ناداني نجله ، ان والدي يناشدنا ممن هم في سن العمل وجعلوا المحلة في هرج ومرج من كثرة النقاشات السياسية ، من يرغب فيهم العمل في عطلة الصيف لقاء اجر يومي في ذلك المشغل الكبير في اطراف العاصمة بدلاً من اللهو في عطلة مدرسية طويلة وصيف بغدادي سياسي ساخن.
- تحضرت انا ونجله في اليوم التالي عند الصباح الباكر ، وانا لا افقه شي وقتها عن طبيعة العمل الذي سأتولاه وما هو الاجر الذي سيساعدني ربما على شراء بدلة مدرسية وحذاء ومستلزمات دراسية تغنني عن والدي او ربما اتمتع بأجرٍ سيمكنني من الذهاب الى السينما او شراء كتاب عن نضالات الطبقة العمالية وشعاراتها ( يا عمال العام اتحدوا ) وغير ذلك من الاحلام الثورية وانا اقول في سري ما انا الا مُركب من تقاليد برجوازية وفكر طبقي ثوري في آن واحد ، واذ اختل منه عنصر تطاير البناء النفسي وتطايرت وتفتت اركانه.
ونجل من شغلنا يهون عليّ لاتهتم فستجد في مشغل العمل صفوة من القوم وان فيهم من يرفع راية العدل والرحمة آيا يكون …! قلت في سري العمال صفوة من الشغيلة يعكسون نضالات الطبقة العاملة، فكيف نحن ابناء الطبقة الوسطى المبلغون برسالتهم نحل محلهم ؟ اذ ظل والدي الموظف الحكومي المكافح يوفر لنا نحن الاخوة الخمسة منذ زمن بعيد براتبه المحدود عيشاً جميلاً مريحاً .
- وهنا وددت يومها الاستقلال بدخل جزئي وانا شديد التاثر بفكر الطبقة العاملة وكفاحها ونضالاتها في العيش وبناء السعادة الانسانية بشقاء اليد والعقل .
- كان اليوم الاول للإلتحاق بالعمل حقا من اكثر ألايام إرهاقاً لكي انتصر لنفسي وللطبقة العاملة بفضل الحظ رغم ضعف بنيتي ، حيث توليت وانا بهمة الشباب وعنفوانه وجديته عمل مراقبة القناني الفارغة لمتابعة درجة نظافتها وتماسك زجاجاتها من اية كسور كي ازيل المكسور او المثلوم منها من على مسار التدقيق الميكانيكي الكهربائي الذي تسير عليه القناني المغسولة الواحدة بعد الاخرى ، ثم انتقل عملي في الاسبوع الاخر وبالاجر المحدود نفسه ، لمراقبة القناني المملوءة وحذف من مسار التعبئة المهشم منها جزئيا او كليا وازالته من الذهاب او الافلات عبر المسار الآلي الى نقطة تجميع المنتج النهائي وهي عالية الجودة و مكتملة التعبئة ، او حتى خالية من الحشرات التي مررها مراقب القناني الفارغة قبلي على خط انتاجي سابق .
- مرت الايام العجاف التي كان اصعبها هو العمل ليلاً ، وانا اتلقى وجبة طعام في فترة الاستراحة مكلفة الثمن بعد ان فقدت وجبات الطعام الجاهزة التي كانت تهيأها والدتي في ازمنة الكسل والراحة في بيتنا ومطبخها العظيم الفاره ، وبدات اقارن يومها بين مشاق العمل حين اصبحت شاباً كادحاً في صيفٍ بغدادي متعب ، وبين طالب ريعي من الطراز الرفيع اعتاش على مداخيل والده ، وهي المعادلة الاقتصادية الصعبة الاولى التي وضعتني في مرتكز الثقافة الاقتصادية والتفكير يومها بنمطين من العيش بين الكادح وبين المثقف الريعي.
- لم يمر شهر وانا امارس عملي بجدية ولكن بدأ الارهاق يدب بين شراين واوردت جسدي الانساني وانا انتظر متى اتسلم اجري الذي لايوازي ما كان يدفعه لي والدي من تخصيص شهري من راتبه المحدود وقت ذاك وكنت الابن الاصغر الاكثر دلالاً و الاكثر ثورية في تحسس نضالات الطبقة العاملة وفقراء الامة .
- وذات ليلة حمقاء واثناء العمل ومع انبلاج الفجر الذي اخذني النعاس فيه وانا التقط زجاجة مهشمة من خط الانتاج تعرض كف يدي اليسرى الى جرح غائر واخذ الدم يسيل بقوة ، وانا اتلفت واذ مراقب العمل ( سركال العمل ) يطلق صيحة شاقة وعلى ملامح وجهه الذي احتقنت قسماته شكاً من دون الماً ورحمة …وهو يقول هل تعلمت الدرس الاجوف من العمال الاخرين ايها الاحمق ؟ قلت له وما هو الدرس ايها الرجل ؟ قال انت من تقصدت من فج كف يمينه من يساره ليتمتع باجازة لقاء الجرح الغائر وبأجور لا تستحقها ؟ هنا فهمت مغزى ثورات العمال يوم تلقى عليهم التهم الباطلة وانها العتبة الاولى للاستغلال والاغتراب ….!!! وقلت في سري لابد ان تنزل من حقك لضعفك فما ينبغي لي ان لا اتصدى لحكم السركال وانا ضعيف …!!!
- تركت المشغل وقلت في سري بالرغم من ذلك فقد انتصرت ثانية بفضل الحظ وعدت الى البيت وفظلت العيش ( ريعاً ) على مخصص والدي لاحفظ ( كرامتي ) من (سراكيل ) الانتاج الذين هم اشد ظلما وقسوة في حياة اجرها قليل و عملها مرهق ، وتحيطك اتهامات الباطل يميناً وشمالاً لكي اعود شديد الدلال قريبا من والدي بعيدا عن قصص الاستغلال ودروسها العملية الاولى ، ولكي امارس نضالاتي من اجل الطبقة العاملة وكفاح الجماهير بالكتاب وسرية العمل السياسي …. وانتهيت اقتصاديا عاش تجربة صراع الطبقات ، تحولت من اسراب القناني المهشمة لشركة المياه الغازية ومعاناتها حتى تلقفتني زنزانة السجن واختفيت مع احرار الكلمة والعقل في هذه المرة بين سجانين لايقلون جورا وظلما من سراكيل شركة المشروبات الغازية بعد عامين ونيف من حادثة المشغل.انها انماط من القمع الانساني ،في بلاد بنت صلاتها بين اشجار المر ممن احضرتها من مشاغل العمل وغرستها في زنازين القمع والدكتاتورية لدهور من الزمن الطويل.