( النهر لا يسكر )


سعد محمد مهدي غلام
2025 / 4 / 21 - 04:52     

أوقفني في التيه وقال لي:
أقعد في ثقب الإبرة, لا تبرح
فإذا دخل الخيط في الإبرة
لا تمسكه
النفري

أَقْعَيْتُ وَسْطَ ثُقْبِ الإِبْرَةِ،
شِمَالِي قَبْوٌ،
يَمِينِي هُوَّةٌ...

شَمْعُ لِسَانِي، رُضَابٌ سَاخِنٌ،
نَفَضْتُ فُؤَادِي عَنِّي،
فَتَسَوَّمَكِ فَوْقَ عُشْبِ الوَصِيدِ النَّاشِفِ،
نَهَسَتْ مَخَالِبُ شَاهِينٍ
ذَهَبِيٍّ، طَائِرِ عَقْلِي المُنْكَمِشِ،
دَرَزْتُ الحُرُوفَ
حَتَّى أُنْدِرِسَتْ هُوِيَّتِي...

لَازَمَنِي حُلْمٌ شَاحِبٌ،
رَأَيْتُ بُومَةً بَاغَتَهَا النُّورُ،
تَرْمُقُنِي كَثَدْيٍ مُمتَلِئٍ
بِكَرَزٍ مَطْبُوخٍ،
صَقَلْتُ خُشُونَةَ الوَحْدَةِ الجَارِحَةِ
بِمِلْحِ الصَّدَى البَاهِتِ،
انْخَمَشَ صَدَأُ النِّسْيَانِ
أَصْفَرَ، كَوَجْهِ مَسْلُولٍ
تَعْكِسُهُ مِرْآةُ العُزْلَةِ،
فَتَحْتُ صَدْرِي
حَشَرْتُهُ قُرْبَ الشَّمْعَةِ الزَّرْقَاءِ
الوَاجِمَةِ، المُطْفَأَةِ فِي الرُّكْنِ البَارِدِ...

خُذِي عَيْنِي، وَأَهْمِلِي صُورَتَكِ،
اِقْتَبِسِي شَفَتَيَّ، وَأُغْفُلِي قُبْلَتَكِ...

ـ وَمْضَةٌ لَامِعَةٌ فِي العَتْمَةِ،
ـ صُورَةُ نَجْمَةٍ عَلَى طَسْتِ نُحَاسٍ،
مَعْشُوقَتِي:
قَمَرٌ أَسْوَدُ فِي مِرْآةِ الصُّبْحِ...
مَوْلَاتِي...

ثُقْبُ الإِبْرَةِ قَارِسٌ، نَاصِعٌ،
لَا رَمَادَ فِي صَقْعِهِ،
لَا شُرُوقٌ،
لَا غُرُوبٌ،
ارْتَدَانِي الحُزْنُ اللَّزِجُ،
عَرَشْتُ كَالشَّبَحِ،
ثُقْبُ الإِبْرَةِ نَارٌ تَتَمَيَّزُ
كَثَلْجٍ أَسْوَدَ، حَارِقٍ...

لَصِيقٌ بِي حُزْنِي، كَسْرَتِي،
لِسَانُ الغَيْبِ...
نَسَمٌ هَبَّ، بَلَّلَنِي بِالتَّبَلْبُلِ،
فَزِعَتْ سُنُونُوَاتُ الدَّمْعِ،
تَقَطَّرَتْ لِلْكَأْسِ،
فَيْضُ وِشَامٍ عَلَى وَجْهِهَا...

سَمِعْتُ لِسَانَ الغَيْبِ يُنَادِينِي:
اِشْرَبْ عَصَارَةَ بُسْتَانِكَ،
لِيَفْرَحَكَ الفَرَجُ...

كَأَنَّهُ يَقْرَأُنِي...
قَالَ: لَا وِصَالَ، يَا صَاحِبُ،
لِمَنْ بِلَا قَلْبٍ وَلَا عَقْلٍ،
وَلَكِنَّكَ سَتُصِيبُ نَشْوَةَ العِنَاقِ
لَوْ ثَمِلْتَ...

مَنَاقِيرُ الرِّيحِ تَلْتَقِطُ
سَنَابِلَ جَسَدِي، كَغَيْمَةٍ
تَنْدُفُهَا أَنْفَاسُ الشَّوْقِ،
تَبَدَّدْتُ سَرَابًا سِمْتِيًّا
وَرَاءَ أُفُقِ الحَدَثِ،
سَبَخَ جَسَدِي؛
ذَرَّ هَشِيمَ فَرَاشَاتٍ مُحْتَرِقَةٍ،
مَغْسُولَةٍ بِشَغَفِ شَمْعَةِ صَدْرِي الخَاوِي،
تَنَهَّدْتُ فِي الأَرْجَاءِ؛
وَحْشَةَ زَفَرَاتٍ قُرْنُفُلِيَّةٍ بَنَفْسَجِيَّةٍ،
زَكِمَتْ، فَتَجَعَّدَتْ، كَطَحَالِبَ يَابِسَةٍ
فَوْقَ بُرْكَةٍ رَاكِدَةٍ،
دَخَلْتُ النَّوْمَ مَوْجُوعًا،
تَغُصُّ رِئَتِي بِدُخَانِ الغِيَابِ...

ثُقْبُ الإِبْرَةِ، صَيْرٌ فِي بَابِ "الهُوَ"...
المُكُوثُ هُنَاكَ امْتِحَانٌ،
لِحَاقُ العَقْلِ مِحْنَةٌ،
القَبْضُ عَلَى القَلْبِ مِحْنَةٌ،
طَالَمَا كُنْتُ فِي ثُقْبِ الإِبْرَةِ،
فِي ثُقْبِ الإِبْرَةِ، يَلِجُ اللَّيْلُ النَّهَارَ،
فِي ثُقْبِ الإِبْرَةِ، يَلْبَسُ النَّهَارُ اللَّيْلَ...

وَثَبْتُ مِنْ نَفْسِي لِنَفْسِي،
بِنَفْسِي...
لأَمْسَكَ أَذْيَالَ حِجَابِ الطَّيْفِ،
اكْتَسَيْتُ بِضَبَابٍ مَالِحٍ،
سَمِعْتُ لِسَانَ الغَيْبِ يَقُولُ:
لِلتَّوِّ وَصَلْتَ، يَا صَاحِبُ، لِـجَلْوَةِ الثَّمِلِ،
فَتَمَتَّعْ، يَا صَاحِبُ، بِالوِصَالِ،
هُنَا، لَا تَهَاوِيمَ غُبَاشٍ

*لسان الغيب لقب يطلق على حافظ شيرازي
هنا نعنيه وتارة نوظفه عبر المعنى المعجمي