مكان خلا من صورته: خاطرة في بنك هولندا المركزي.


مظهر محمد صالح
2025 / 2 / 14 - 00:49     

بدت لي امستردام الساحرة عاصمة هولندا الملكية ،التي غلبت قنواتها وجسورها شوارعها وابنيتها الكلاسيكية على اسم مدينتها التاريخية والثقافية ، وانت تشق طريقك صباحاً بيسر بين صفوف راكبي الدراجات الهوائية في اصطفاف لوني يزيدها جمالا ، وتذكرك تلك الدراجات انك امام لوحة مزدهرة ناطقة ومتحركة من لوحات فنان هولندا ( فان كوخ ) حيث يمتزج التاريخ القديم بالثقافة الحاضرة .
كانت واجهتي في مسير حافلتنا التي ضلت تلوي ببطيء نظراتي ، هي مكان يسمى بنك هولندا المركزي.
ولم اتمتع وقتها بالسعادة كما تمتعت بها في تلك اللحظات الدافئة بين حجم الازدهار اللوني لباعة الورود واعداد الدراجات الملونة التي اكتسحت هي الاخرى شوارع المدينة بلا ضجيج وجمال الطبيعة وعبور القنوات المائية ، التي اسبغت رونقا وجمالاً وبهجة على حياة شعبها ، بعد ان أشُبعت حاجاتهم بالراحة وساد الخير والنماء في ربوعهم…وقلت في سري ، لئن يفنى الانسان وهو يبني المجد خير من ان يهلك في وباء شر قوامه لدغة ثعبان او الموت في حروب خرساء وصراعات مدمرة.
ثم رق قلبي ، عندما بلغت مقصد مكاننا في تلك البناية المالية البالغة الجاذبية ، واذا بالتكنوقراط في ذلك المبنى قد صفوا دراجاتهم الهوائية كانها زرافات امام بنك هولندا المركزي ، و انهم ربما استوهبوا حياتهم لبلوغ المدنية والحياة الحرة باقل تكلفة ليحصدوا هدوءاً انسانياً لم يسبق له مثيل.
ونحن متوجهين الى ذلك البنك في مهمة رسمية ، الذي يُسمى “De Nederlandsche Bank” (DNB) باللغة الهولندية ، والذي تأسس في العام 1814، وهو مسؤول عن تنفيذ السياسة النقدية في هولندا والحفاظ على استقرار النظام المالي ، وبكونه جزءاً من منطقة اليورو، ويعمل تحت إشراف البنك المركزي الأوروبي (ECB). ثم دخلنا دون ضياع للوقت قاعة الاجتماع وبدأنا حواراً مالياً طويلاً مع اولئك الرجال المصرفيين من الذين بلغ مكان عمله قبلنا على الدراجة الهوائية منذ الصباح الباكر ، و بنظرات عمل سادتها البساطة والمحيا الجميل والنقاش العلمي الهاديء ، وكانك في حوار في جامعة اوروبية عالي المستوى ليس الا . انه حوار تخيل لي انه حمل في طياته فكرة عميقة حول السلام الداخلي والتوافق الإنساني الذي يمكن أن يتحقق إذا تعاملنا مع أنفسنا ومع العالم من حولنا بحكمة ورحمة. يبدو أنها دعوة للسلام الداخلي حقاً الذي يعم الإنسانية جمعاء، وهو مفهوم يُعد من أسمى الأهداف التي يسعى إليها البشر.
ولكن الغرابة في الامر ،وقبل ان نترك قاعة الاجتماع الكبرى ،وهي قاعة مجلس ادارة بنك هولندا المركزي ،توقفتُ امام سلسلة من الصور برسوم لرجال وبأجيال مختلفة ويمثلون رؤساء البنك المركزي الهولندي منذ تاسيسه في القرن التاسع عشر وحتى عام زيارتنا في القرن الحادي وعشرين .
هنا قال مضيفي ان هذه الصور تجسد خلاصة تاريخ الصيرفة المركزية لهولندا ، واثناء استعراضي لتلك الصور، وجدت اطار صورة (بورقة فارغة بيضاء) تعود الى اربعينيات القرن الماضي …؟ فقبل ان أبادره السؤال،جال في خاطري وعبر لحظات انتابها شيٍ من الجدية بكل معانيها والعبث الشرقي بكل نزواته..!! لأبادر الرجل بسؤال ساخن من فوري من هذا الذي خلا من الصورة بين الرجال واكتفى بنك هولندا المركزي ببروازٍ اسود وورقة بيضاء ..؟ هنا تنهد الرجل امامي وانا اقف في تلك القاعة الكبرى البالغة الهدوء التي تصنع فيها هولندا قراراتها في السياسة النقدية..!! ليقول انه شبه الخائن الوحيد في تاريخ هذه المؤسسة الذي قاد البنك كمحافظ او رئيس خلال الاحتلال النازي ..!! قلت له نعم، ثم واصل القول ،فقد خضعت بلادنا لذلك الاحتلال خلال الحرب العالمية الثانية ، منذ يوم بدأ الاحتلال في 10 ايار 1940 عندما غزت القوات النازية هولندا كجزء من حملتها العسكرية في غرب أوروبا، و استمرت حتى تحرير هولندا في ايار 1945 من قبل القوات الحليفة.
اذ كان البنك المركزي الهولندي (DNB) خلال فترة الاحتلال تحت سيطرة الألمان، وكانت الحكومة الهولندية قد انتقلت إلى المنفى في المملكة المتحدة. فالنازيون فرضوا العديد من السياسات القاسية على الشعب الهولندي، بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان… لذلك لا يشرفنا الاحتفاظ بصورته ولكن نحتفظ بآلام تلك الفترة القاسية التي مر بها الشعب الهولندي .
فخلال فترة الاحتلال النازي لهولندا في الحرب العالمية الثانية، تولى ديرك بوخويز (-dir-k B. D. Bakker) منصب رئيس البنك المركزي الهولندي وقت ذاك ، ولكن خلال تلك الفترة، كانت هناك ضغوط شديدة على المؤسسات المالية في هولندا، بما في ذلك البنك المركزي، بسبب سيطرة الألمان على البلاد.ففي فترة الاحتلال، كان البنك المركزي الهولندي يضطر إلى التعاون مع السلطات النازية، بما في ذلك تسليم احتياطيات الذهب الهولندية للجيش النازي، وهو ما أصبح موضوعًا مثيرًا للجدل بعد الحرب.
ثم واصل مضيفي وهو يشرح لي موضوع البرواز الخالي من الصورة ، بعد ان سالته عن مصير هذا الرجل ، فاجابني: انه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تم فتح تحقيقات حول مواقف ديرك بوخويز خلال فترة الاحتلال النازي. اذ تمت محاكمته في العام 1948 بسبب قراراته خلال فترة الحرب، وكان من بين التهم الموجهة إليه التعاون مع النظام النازي. خاصةً في ما يتعلق بتسليم احتياطيات الذهب الهولندية إلى ألمانيا النازية في العام 1943، وهو الأمر الذي أثار الكثير من الجدل.
فتحت الاحتلال النازي، كان البنك المركزي الهولندي تحت سيطرة الألمان، وكان بوخويز مضطراً للعمل وفقاً لسياساتهم. لكن الانتقادات كانت تُوجه له لعدم معارضته بشدة للقرارات التي كانت تصب في مصلحة الألمان، خاصة تسليم الذهب الذي كان يُعتبر من ممتلكات الدولة الهولندية.
ومع ذلك، في محاكمته لم يُحكم عليه بالسجن أو بالإدانة الكبيرة. وتمت في النهاية تبرئته من التهم المتعلقة بالخيانة الكبرى لعدم وجود دليل كافٍ يثبت تعاونه المباشر مع النازيين في أفعال خيانة كبيرة ضد الدولة. في الوقت نفسه، لم يتمكن من الهروب من الانتقادات الشديدة التي تعرض لها من المجتمع الهولندي بعد الحرب ، وكان له تأثير كبير على سمعة البنك المركزي الهولندي.
وعلى الرغم من التبرئة القانونية، فإن موقفه ظل مثار جدل في هولندا لفترة طويلة، حيث يرى البعض أن بوخويز كان ضحية للضغط النازي في ظل الظروف الصعبة، بينما يعتبر آخرون أنه كان يمكنه مقاومة الألمان واتخاذ موقف أكثر قوة ضدهم.

ختاماً ، قال الرجل نحن هنا في بنك هولندا الوطني ( المركزي) وضعنا صورته وهي ( الا صورة) مع الآخرين من رؤساء البنك وجاءت خالية من (الطعم واللون والرائحة) ،
لنتذكر دوما انه كان من جبناء الامة الهولندية و من انصاف الرجال ممن سادهم الخذلان امام تضحيات هولندا وشعبها ضد النازية.!!
انها دروس في تعرية الاحتلال ، ليبقى الخونه وانصافهم بلا صورة .