مثقفو السلطة والطائفة.... مؤيد ال صوينت نموذجا
قاسم علي فنجان
2025 / 1 / 23 - 16:13
في بداية مقالته الموسومة "تكوين المثقفين" يتساءل غرامشي: "هل المثقفون فئة اجتماعية مستقلة وقائمة بحد ذاتها، ام ان لدى كل فئة اجتماعية صنف مخصوص بها من المثقفين"؟ وهو يعترف بأن القضية معقدة، لكنه رغم ذلك يستمر بطرح الأسئلة حول "ما هي الحدود القصوى لقبول مصطلح المثقف"؟ "هل يمكن للمرء ان يجد معيارا واحدا لتحديد الطابع المميز لجميع أنشطة المثقفين"؟ ويخلص غرامشي الى نتيجة مهمة جدا هي "أن كل البشر مثقفون، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع".
من خلال هذه الترسيمة بإمكان المرء ان يتحدث عن صيغة مثقفي اليوم، والدكتور مؤيد ال صوينت ليس غنيا عن التعريف، فهو لم يخرج الى العلن "لقاءات، ندوات، حوارات، مقالات" الا منذ فترة قريبة، وكتبه ومقالاته غير مشهورة، أنه أستاذ في الجامعة المستنصرية، قسم اللغة العربية، من أهالي مدينة الثورة-الشيعية حسب تصنيفه-، له عدة كتب منها: "انسجام المعرفة اللغوية... انطولوجيا المعرفة اللغوية...شيعة العراق الرؤى والمسارات"، وله الكثير من المقالات التي ينشرها على صحيفة "المثقف" لأنه "مثقف" منها: "الشيعة والذاكرة والمخيال، الشيعة والبناء الموازي، الشيعة ودلالات التركيب، المجتمع الشيعي واحتكار التمثيل".
ما يدعو المرء للكتابة عن بعض "المثقفين" هو معرفة ان من هذا البعض من يريد ان يطفو على السطح، يريد ان يلفت انتباه السلطة له، يريد ان يكون مستشارا لها او يكون أحد مثقفيها، ومن جهة أخرى فأن هؤلاء البعض من "المثقفين" ومن خلال كتاباتهم ولقاءاتهم وندواتهم انما يصرحون بالدفاع عن طائفتهم الدينية، يريدوا المحافظة على شكل الدولة الحالي "الطائفي"، يطالبون هذه السلطة الطائفية بمراجعة نفسها، انهم ينصبون انفسهم كمتاريس بوجه أي تغيير قد يحصل، بالنتيجة النهائية فهم مستفيدين من شكل النظام الحالي، لأنه يزيد من تميزهم وتمايزهم، يجعلهم "فئة اجتماعية مستقلة قائمة بحد ذاتها".
الشيء الجيد ان كتابات هؤلاء "المثقفين" لا تلقى رواجا، أو انها محصورة جدا بفئات محدودة ومحددة، فهي "نخبوية" جدا، لا يمكن "للعامة" ان تفهمها، فمثلا نقرأ للدكتور مؤيد ما نصه:
"تعتمد فكرة التأطير الدلالي للتوصيفات السوسيو-سياسية على ما تقدمّه اللسانيات من بناءٍ تركيبي للولوج إلى الحقل السياسي العام، لتتخذَ منه تنظيراً وممارسة وأفعال منجزة من دون الالتفات إلى الجذر التوصيفي الذي تمّ ترحيله من حقل اللسانيات إلى الفضاء العام المرتبط بالسياسة والتوصيفات الاجتماعية على نحو وثيق".
أو:
"يجري استعمال الدلالات بقصدٍ معاكس لاستعمالها التداولي الذي يرتبط بإدخال المقام مرتكزاً أساسياً للتوظيف المعرفي الذي يحاولُ حصرَ المعاني وفق ضوابط مُحدِّدة بعيدا عن الذاتية والاستعمال المخاتل، هذا الاستعمال الذي لا يُصرّح بغايته الحقيقية في علْمنةِ مفهوم المقدّس ونقله من حقل إلى حقلٍ آخر مع الاحتفاظ بحمولاته الدلالية وتوظيفها في الفضاء الدنيوي العام والسياسي على نحوٍ خاص".
وهذه اللغة هي السائدة في كتابات بعض "المثقفين، فهم يريدون المحافظة على تميزهم وفصلهم عن باقي المجتمع، ودقيق جدا ما يقوله انجلز فأن "المخارج اللفظية تشكل آخر أسلحة البورجوازية"، انه يتعمد صياغة هذه العبارات في مقالاته، لكيلا يستطيع أحد ان يقف على معناها أو ما يريده صاحبها، رغم هشاشة منطقها الذي يحكمها.
ان أمثال هؤلاء "المثقفين" يريدون ان يكونوا معاصرين في الكتابة، فيفترضون انهم "خواص" لهذه المرحلة، وعلى حد تعبير غرامشي ف "المرء الذي يعتبر نفسه خاصا ومميزا لأنه "معاصر" ليس سوى موضوع استهزاء"، وهو يذكر حكاية البرجوازي الفرنس الصغير الذي طبع كلمة "معاصر" على بطاقة الزيارة التي تحمل اسمه، ويبدو ان صاحبنا كان يعتقد بانه لا يساوي شيئا، ثم اكتشف ذات يوم انه شيء ما، انه "معاصر".
يكتب الدكتور مؤيد ما نصه:
"فمطالبة السيستاني ب (دولة مدنية) تحتكم إلى القوانين والدستور في العراق كانت من أبرز المؤشرات إلى حجم تلك التحديات، وهي أشارة نادرة وشجاعة لا يمكن تصور صدورها من غير السيستاني، بل لا يمكن توقع صدورها حتى من خلفاءه".
هل يتصور أحد كيف يفكر "المثقف" بأن يكون له حصة من الكعكة؟ والا ما معنى ان السيستاني طالب بدولة مدنية؟ متى كان ذلك؟ هل من وثيقة او بيان او خطبة؟ ترى من كتب الدستور الطائفي الظلامي التقسيمي او أشرف عليه او شكل لجنته؟ اليس هو السيستاني؛ من افتى بوجوب انتخاب قائمتي "555، 169" الطائفيتين البغيضتين، من شكل الميليشيات بصورة رسمية؟ "دولة مدنية" يقودها السيستاني، ومفصلة على قد مفاهيمهم، وقد توجت هذه "الدولة المدنية السيستانية" بتعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي يجوّز الزواج بالصغيرات دون التسع سنوات، وهللويا يا دكتور مؤيد.
المشكلة ان الدكتور مؤيد ومن لف لفه من شلة "المثقفين" يكاد يجزم المرء بأنهم لا يعرفون مفهوم "الدولة"، الذي هو احد اعقد المفاهيم السياسية، فهو يردد في اللقاءات بأن الدولة تتكون من المؤسسات والنخب، انتهى، في تزييف تام وكامل لحقيقة مفهوم الدولة.
بيار بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي، القى محاضرات لمدة ثلاث سنوات 1989-1992 في "الكوليج دو فرانس" فقط عن الدولة، وقد قال في بداية محاضراته انه لم يستخدم مفردة الدولة الى ان نضجت أفكاره عنها في وقت متأخر جدا من حياته، هذه المحاضرات جمعها طلبته في كتاب ضخم جدا، ورغم انه اتبع المنهج الفيبري في بحوثه عن الدولة، الا ان المنهج الماركسي كان حاضرا في ثنايا محاضراته؛ اما "مثقفي-نا" الاشاوس، فأنهم لا يبخلون ابدا بترديد المفاهيم دون دراية او علم، وهيجل كان يقول "والحق انه ما من مفهوم أسيء إليه في الأزمنة الحديثة مثل الإساءة إلى المفهوم نفسه".
طرحت جريدة النداء اللبنانية والصادرة عام 1979، مجموعة أسئلة على أساتذة كبار في الفلسفة "موسى وهبي، معن زيادة، الهام منصور، مهدي عامل" الذي دار حوار بينهم حول "ما هي العلاقة بين البحث العلمي واللغة؟ وهل ان الباحث هو الذي يطرح على اللغة مشكلة بحثه، ام ان اللغة هي التي تطرح على الباحث مشكلته؟ رغم عمق الحوار الذي دار بينهم، ورغم انهم ابقوا الحوار مفتوحا، لكن ما قاله مهدي عامل كان ملفتا جدا، فهو يقول:
"لا يكتب كاتب الا في إطار نظام فكري محدد يتحرك فيه فكره"؛ وهذه العبارة الدقيقة جدا ممكن ان ترينا الطريق الذي يكتب فيه "مثقفي-نا"، ولا يمكن ان يكون الدكتور مؤيد استثناء منهم، فكتاباته تحدد الإطار الفكري الذي يشتغل عليه، انه الفكر الطائفي، ولسنا هنا بمعرض المطالبة منه ان يتخلى عن طائفيته، ولكن فقط ان لا يكون بوقا لها او للسلطة.