اليسار بين الوجودية واليمين الديني - غافر
طلعت خيري
2025 / 1 / 17 - 10:01
ألقى الرجل المؤمن على أعضاء مجلس فرعون بعض المخاطر المهددة لكيان المجتمع ، استلهمها من التاريخ الديني البشري الذي تناقلته الأنبياء والرسل والشعوب عن الأمم السابقة ، والتي يمكن اعتمادها كإستراتيجية أمنية مستقبلية تحفظ المجتمعات من الانهيار على المدى البعيد ، منها الكوارث الطبيعية والانهيار السياسي والاقتصادي والعسكري ، ألا ان التكالب على المصالح الاقتصادية والسياسية حالة دون استيعاب جديتها ، مفلسفا حالة الفزع الذي سينعكس على الفرد ، والانقلاب السيكولوجي من حالة التكالب الى حالة النفور عن المال والسلطة والنفوذ خوفا من عذاب الموت ، فقال ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ، يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ، ومن يضلل الله فما له من هاد
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ{32} يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ{33}
كانت انطولوجيا الوجود المعتقد الرسمي للعشب المصري قبل نبوة يوسف ، تظم المئات من الأرباب الوثنية السماوية المتفرقة سخرت لإدارة مفاصل الحياة المختلفة ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، ثمة أحداث نقلت يوسف من الصحراء الى مصر ، وبعد خروجه من السجن قدم لملكها آلية كفليه تحفظ المحاصيل الزراعية من التلف ، مبتكرا طريقة حديثة رشدت استهلاك الحبوب خلال سنوات القحط ، أثمر تخطي الأزمة الاقتصادية عن تحول فكري وعقائدي جماهيري من اليسار الوجودي الى اليمين الديني ، بما ان نبوة يوسف كانت محدودة الفكر والتوجهات ، لذا بقي اليسار يمارس نشاطه السياسي الى جانب اليمين ، ولكن بعد وفاته تفكك اليمين الديني مما أدى الى وصول فرعون الى الحكم ، من أسباب الانقلاب الجماهيري من اليمين الديني الى انطولوجيا الوجود الادعاءات السياسية التي روج لها اليسار جازما ان يوسف أخر الأنبياء والرسل ولن يبعث أحدا من بعده ، ولتصحح ما روج له اليسار بخصوص هذا الأمر عرض الرجل المؤمن على أعضاء مجلس فرعون بعثة موسى التي تتعارض مع ادعاءات اليسار السياسية ، فقال ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم حتى إذا هلك قلتم لن يبعث من بعده رسول (بعثة موسى) كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ{34}
حكم فرعون شعب مصر حكما دكتاتوريا ابراغماتيا نافيا بعثه أي نبي أو رسول بعد يوسف ، ومراهنا على عدم وصول اليمين الديني الى الحكم ، ولما بعث الله موسى بآياته الى فرعون تعالت أصوات اليمين الديني من جديد ، فاستعان فرعون بالسحرة وما يخرج من خفايا أيديهم من مادة متغيرة في الشكل كابراغماتية وجودية مادية تنكر وجود الله الغيبي ، منكلا بالمؤمنين من بني إسرائيل اشد التنكيل ، بقتل أبنائهم واستباحة حياء نسائهم ، فأول تحول تاريخي في اليسار من الاعتدال الى الدكتاتورية كان في عهد فرعون ، الأبعاد السياسية من تنصيب فرعون نفسه ألها على مصر ، لإنهاء جدلية بعثة الرسل والأنبياء بعد وفاة يوسف ، فلما بعث الله موسى بآياته الى فرعون عاد الجدال بين اليمين واليسار من جديد ، قال الرجل المؤمن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم ، دليل على صدق جدالهم ، كبر مقتا عند الله وعند الذين امنوا ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ{35}
ثمة معطيات على الأرض تعكس ان فرعون بدء يفقد زمام سلطته بعد فقدان دلائل إلوهيته بعصا موسى ، ووصول آيات الله الى أعضاء مجلسه المتقوقع حول الدكتاتورية ، فلما عرض الرجل المؤمن الأمثلة التاريخية ذات الإبعاد العقائدية على الأعضاء ، باشر فرعون بالدفاع عن دين الدولة مستغلا غياب وجود الله ماديا والدعوة الاخروية الغيبية لصالحه سياسيا ، معتبرا ان ما جاء به موسى من ربه من الميتافيزيقا اللاوجودية ما وراء الطبيعة ، التي لا تنسجم مع ( البراغماتية الانطولوجية دين الدولة ) ولكي يثبت هذه النظرية اللاوجودية لأعضاء مجلسه طلب من هامان ، بناء صرحا عاليا مستغل أقطار السماوات الواسعة كدليل على عدم وجود الله ، فقال وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي ابلغ الأسباب ، أسباب السماوات فاطلع الى اله موسى واني لأظنه كاذبا ، وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصدعن السبيل ، وما كيد فرعون إلا في تباب
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ{36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ{37}
اقتصرت نبوة يوسف في مصر على بعض الانجازات الاقتصادية في مجال الزراعة ، فلم يواجه أي تحديات سياسية أمام اليسار الوجودي بل بالعكس ان تخطي التحديات الاقتصادية ألقت بظلالها على اليمين الديني واليسار ، اللذان اعتبرا الأمن القومي والسلم المجتمع فوق جميع الاعتبارات السياسية والمصالح الشخصية ، حاول الرجل المؤمن استقطاب بعض أعضاء المجلس للتأثير على فرعون لاستيعاب التحديات المهددة للمجتمع فلم يحضا بأي تأيد منهم خوفا على مصالحهم السياسية والاقتصادية من ناحية ، ومن ناحية أخرى خوفا من التنكيل الفرعوني لا سيما ما فعله بالسحرة ، بات مثلا مفزعا للشعب المصري ، استلهم الرجل المؤمن الرؤى المستقبلية من التجارب التاريخية للأمم السابقة ، مفلسفا الدنيا على أنها متاع زائل وان الآخرة هي دار القرار في دعوة أزالت فوارق الحساب الأخروي بين الرجل والمرأة ، ملقيا اللوم على قومه من عدم استيعاب جدية ، الإيمان بالله واليوم الأخر فقال
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ{38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ{39} مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ{40} وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ{41} تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ{42} لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ{43}
عرض الرجل المؤمن على آل فرعون إرشادات دنيوية وأخروية تعكس أمانته العلمية الداعية الى الإيمان بالله واليوم الأخر ، وهذا من باب إخلاصه لمجتمعه الذي لا يعي النهاية المأساوية للكوارث الطبيعية والانهيار الاقتصادي ، تاركا لهم حرية الاعتقاد ، ومحذرا إياهم بأنهم سيتذكرون هذه النصائح والإرشادات ولكن بعد فوات الأوان ، فالعذاب الدنيوي ليس أمرا حتميا لأنه سيعتمد على المعطيات الميدانية كالتحولات العقائدية الفردية أو الجماعية ، بينما العذاب الأخروي حتميا لا محال ، خاتما كلامه قائلا فستذكرون ما القول لكم وأفوض أمري الى الله ، بمعنى ستبقى اختيارية العذاب الدنيوي لله وحده ، ان الله بصير بالعباد
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{44}
من أسباب تهاون المجتمعات بحقيقة الكوارث الطبيعية والانهيار السياسي والاقتصادي ، كون مصرها الأنبياء والرسل ، فالتهديد بالعذاب سواء كان دنيوي أو أخروي يتعارض مع سياسة حزب الشيطان الرامي الى إزالة المخاوف الاخروية عن الفرد ، ليتسنى له صناعة فوبيا سياسية دنيوية تخضع الفرد للإرادة الطائفية ، ان تواجد الرجل المؤمن بين أعضاء مجلس فرعون له تمثيل شعبي كبقية الأعضاء ، لذا كان مطلعا على الأوامر والتوجيهات التي يصدرها من داخل المجلس ، فبعد خروج بني إسرائيل من مصر سرا اتبعهم فرعون وهامان وجنودهما منظما إليهم أصحاب مصالح السياسية والاقتصادية من إقطاعيين ورأسماليين وزعماء ، لان للخروج مخاطر سياسية وأمنية منها تشكيل قوة في المهجر مدعومة خارجيا تطالب بالقصاص منه ، حينئذ علم الرجل المؤمن ان الاستبداد الفرعوني قد انتهى فلم يخرج معهم ، فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بال فرعون سواء العذاب ، وبعد أيام خرج المصريون يقتصون اثر الجيش فلم يجدوا غير جثة فرعون ملقاة على الساحل ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ{45}