|
دفاترُ الحرب 3 : مقاطع من يوميات جنديّ مُسِنّ، من بقايا الحرب العراقيّةِ - الايرانيّة
عماد عبد اللطيف سالم
كاتب وباحث
(Imad A.salim)
الحوار المتمدن-العدد: 8108 - 2024 / 9 / 22 - 00:48
المحور:
الادب والفن
أنا أعودُ دوماً لبغداد. المطاراتُ تحملُني اليها، والمحطّةُ العالميّةُ، و "العَلاوي"، وكراجُ النهضةِ، و "الدَيْر"، والسيّد "الآمِر"، و "المُساعِد".. والمُقدّم (سليم). كلّما نزعوا عنّي ثيابَ خوفي عليها، قلتُ.. بغدادُ هذه، ستبقى مدينتي.. وها هيَ الآنَ، قد خَبَت، واستَكانَت، وأصبحت بائدةً، مثل تينِ الحبيباتِ في بُستانِ الجنود. * أنتِ شاحبةٌ، كنخلِ المُعسكَرِ في (الجِباسي).. ومثلُ الصنوبرِ في أرضِ أربيل. أتَذْكُرينَ يومَ أحرقوا العُشبَ على سفحِ (كورَك) ؟ كنتُ غَضّاً ..أكرهُ أنْ تدوسَ "البساطيلُ" قلبي. يومَها قُلتُ.. ما أقسى جنود العراق.. لقد أحرَقوا فوقَ صَدركِ عُشبي . * يقولونَ يومٌ لكَ، و يومٌ علَيك. وأنا .. كُلُّ الأيامِ عَلَيّ. كانَ هُناكَ يومٌ واحِدٌ لي . ترَكتُهُ يتسَكَّعُ فوقَ وجهَكِ المُدهِشِ، وذهبتُ إلى الحرب . * هي الحربُ إذاً.. يا أصدقاء القطاراتِ الصاعدةِ والنازِلةِ، كَنَسْغٍ مقطوعٍ بفأس الفُقدان. قطاراتُ أيلول، قطاراتُ سبتمبر، قطاراتُ الخُذلان.. التي نبدأُ في عرباتها الموحِشَةِ باحتساءِ "العَرَقِ الزحلاويّ" العظيم، بعدَ محطّةِ (الدورةِ) بقليل.. بينما "الانضباطُ العسكريّ" يغِضُّ النظرَ عن الثُقبِ الأسودِ الذي نحنُ فيه حيثُ الضوءُ.. حتّى الضوء لا يستطيعُ الهرب. * هي الحربُ إذاً.. يا أصدقاءَ" الكَراجاتِ" التي تشبهُ الحُزنَ.. الحربُ التي يموتُ الجنودُ النبيلونَ فيها، بينما الأنذالُ يُزَفّونَ، أثناءَ غيبَتِهِم، إلى النُسْوَةِ – الحُلْمِ، حيثُ لم يكُن بوسعِ امرأةٍ تشعرُ بالسأمِ أن تنتَظِر . * كنتُ غريباً.. أهيمُ على وجهي، في أرضٍ لم تَكُن لي. لم تكُنْ الرائحةُ في (خوزستان)، هي ذاتها الرائحةُ في (العطيفيّةِ).. ولم أكن أستطيعُ البكاءَ على ضفةِ النهرِ شَوقاً إليها. لم تكُن البساتينُ ذاتَ البساتينِ، ولَم يكُن (الكارونُ).. دجلة. * نائبُ العريفِ، المُهندسِ،(عبيد علي عبيد)، يرقصُ "الهَيوَةَ" (كما يجب)، (وليسَ كما يرقصها "الغِلمانُ" في التلفزيون الرسميّ)..هكذا كان يقول. أنا.. أجلسُ في "مَوضِعي" مع (رجاء انهيّبْ زعيبل). هو يدخّنُ سجائرَ "بغدادَ" بحُرقةٍ، وأنا أقرأُ "الاحتقار" لـ (ألبرتو مورافيا)، في "الموضِعِ الشَقِّيّ". نائبُ الضابطِ (خَشّان اكَمَيرْ اشْمَيس) يسألني: اذا كانت هذه هي الحربُ يا "فِيلَسوفْ"، وأنتم هنا معنا، فيها، تأكلونَ الَسَخامَ.. فلماذا تقرؤونَ كُلَّ هذهِ الكُتُبِ.. كالمخابيل؟ * نَفَدَت السجائرُ في "الحِجابات". قفزَ جُندِيّانِ إلى "الأرضِ الحَرام". وفي جيوبِ الجُثثِ اليابسة، وجدوا القليلَ منها. جاءوا بها إلينا، فعُدْنا ننفثُ بعُمقٍ ونشوة، غُبارَ الجنود العراقيين – الايرانيّين، النائمينَ منذ دهور ..في الأرضِ السَبِخَة . * يسألني (عبد الحسين عبد النبي) ، بعد منتصفِ الليل، وهو يشتاقُ لـطفلتهِ (بُثينةَ)، الغافيةُ في (الشَطْرَة).. بينما "نجومُ" المدفعِ "النمساويّ" تومِضُ فوق النخلِ في سماوات (الزِرَيجي) : تُرى ماذا نفعلُ نحنُ هنا، في هذا "الغارِ" يا صاحبي، بينما أنبياءُ بغدادَ الفقراءَ، يبيعونَ الكُتُبَ إلى "أسيادِ" مكّةَ.. في شارعِ المُتنبّي؟ * كانَ يُطِّلُّ علينا في "الحِجابات"، عبرَ راديو "التوشيبا" ذو الجِلدِ البُنيِّ، ويقولُ لنا بصوتٍ خفيضٍ أجَشّ: أنا.. مع هذهِ الحربُ.. اذهبوا واقتلوا بعضَكُم .. الى أن تقومَ القيامة. * في معركة "البسَيتين".. كانت ناقلاتُ الجنودِ بُنيّةُ اللونِ، تأتي من ساحة المعركة الى حيث تنتظِرها وحداتُ الميدان الطبيّة.. وكانت جثثُ الجنودِ القتلى، تتدَلّى منها كالعناقيد . كان جنودُ "وحدات الميدانِ الطبيّةِ" ينزعونَ "قُرْصَ الهَويّةِ" عن كلّ جثّةٍ، ويضعونَ الجنودَ الميّتينَ في كيسِ "اللحم الهنديّ" الأبيضِ –المُستورَدِ.. وهو الكيسُ الذي يُذكِّرُ الجنودَ الأحياءَ بمذاقِ لَحمِ "قُصْعَتِهِم" سيّءِ السُمعة. يُعيدُ جنودُ "وحدات الميدان" لَصْقَ "قُرْصِ الهويّةِ" على الكيسِ، ويرمونَهُ في الشاحناتِ المُبَرّدَة لـ "شركة تسويق اللحوم العامة"، و يرسلونهُ الى مستودعاتِ (الشعيبةِ).. هُناك.. حيثُ تصطَفُّ العائلاتُ المذهولةُ لاستلامِ أبناءها. * وبالقُربِ منها.. أجسادُ "الأصدقاءِ" السابقينَ تلك.. كانَ الذبابُ الأزرقُ الكثيف، يحجِبُ عن عيني رؤيةَ حبّاتِ الفاصوليا "اليابسة" فوقَ "التِمَّنِ" المُترَبِ، في "قُصْعَة" الغداء الباذخة. * في ذاتِ الوقتِ، من العام 1982، كانت الملكة (اليزابيث الثانيّة) تطلُّ علينا عَبْرَ الـ BBC، في راديو "التوشيبا" ذو الجِلْدِ البُنِيّ، وتأمرُنا بتَرَفٍ ملَكِيّ : لا تُزعِجوا (ديانا).. لأنّها حامِل. * من باب معسكر (الشِعيبَة)، تفوحُ رائحةُ الموتِ إلى كُلِّ البصرة. تجتمعُ الأمّهاتُ عند البابِ الرئيسِ، بينما أحدهم يقرأُ أسماءَ الأبناءِ المُمَدَدّينَ في المخازنِ من قائمةٍ طويلة : عبد الله أحمد؟ تصيحُ أُمٌّ من (أبو الخصيب): نعم . عبيد علي عبيد؟ تصيحُ أُمٌّ من (التنّومّةِ): نعم . دِلْشاد كريم؟ تصيحُ أُمٌّ من (السُليمانيّةِ): نعم . عشرة أسماء؟ تصيحُ عشرُ أمّهاتٍ من (الناصِريّةِ): نعم.. نعم.. نعم . * في كُلّ المُدنِ .. كانَ "تاكسي الروليت"، يستديرُ من الشارعِ العامِ نحو الزقاق، حامِلاً على سقف "التويوتا –كراون".. تابوتَ "الروليت" الملفوفِ بالعَلَم الوطنيّ . كلُّ أُمهاتِ الجنود واقفاتٌ عند أبوابِ البيوتِ، يُوَلْوِلْنَ: يبوووو.. بوجوهٍ شاحبةٍ كالرماد.. في انتظار أن يستَقِّرَ تاكسي الروليت عند بابٍ ما . "تاكسي الروليت"، بسائقهِ اليابسِ من شدّةِ الخوفِ ، و " المأمورُ" المذعورُ الذي يجلسُ الى جانبهِ.. يجتازُ بيوتَ الزقاقِ ببطءٍ.. بيتاً بعد بيتٍ.. وكلّ النساء يَنْحَبْنَ: يبوووو . تقفُ السيّارةُ – الروليتُ عند أحد الأبوابِ، فـ "تَعيطُ" جميعُ النساءِ المذهولاتِ: يبوووو. اُمٌّ واحدةٌ فقط، تقولُ لتابوتِ الروليت: ها يابَه.. جَيت؟ ويصبحُ فؤادها فارغاً كفؤادِ أُمِّ موسى . * كلما قالوا هي الحربُ.. قلتُ: أبي . الحربُ.. أبي . هو الذي يمنحها الطَعْمَ والرائحة ويجعلها إرثي الوحيد و يودِعُها عِندَ أُمّي . * بغدادُ تنأى.. و "شرقُ البصرةِ" يقتَرِب.. و نخلُ المُعسكَرِ ساكِت. (عبيد علي عبيد) ماتَ في "الطاهريّ"، ولم يُعُد إلى (التَنّومَةِ) أبداً. و (خَشّان) لم يعد يراني، وأنا أقرأُ الكتبَ في سَخامِ الحروبِ الرديئة. (رجاء انهيّبْ زعيبِلْ)، ما يزالُ يُدخِّنُ السجائرَ الرخيصةَ بطريقةٍ "تلْجَعُ المِعدَةَ".. كما كانَ يُفَضِّل. كلُّ هذا، ولَم يُطفيءُ الجُندُ بعد، على سفحِ (كورَك)، أعشابَ روحي. * لا أعرفُ ما الذي تفعلهُ الآلهةُ في الحروبِ المُشينة؟ ربُمّا لا شيءَ.. لا شيءَ.. لا شيء .. سوى أنّها تجعلُ الآباءَ يَسقُطونَ من "عِذْقِ" العائلةِ قبلَ الأوانِ.. قبل الأوان .. و يتركونَ الأبناءَ يصعدونَ نخلَ الجَمَراتِ.. قبل الأوانِ.. قبل الأوان .. ويكتبونَ قبلَ الأوان .. عن الحروبِ التي توقِدُها الآلهة.
#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)
Imad_A.salim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايةُ الجماعة في هذه الجُمعة وفي كُلّ جُمعة
-
نوحُ على الشاطيء.. ينتظرُ العائلة
-
تارا التي لا تُحِبُّ الجنود
-
دفاترُ الوقتِ طويل الأجل (2)
-
أنا و يوسفُ الأسى وخلاصةُ خذلاني
-
كَهفٌ واسعٌ لقلبي القديم
-
انتِفاخ وتلاشي الفُقاعة العقارية في العراق(2021-2024)
-
كَهفٌ واسعٌ لقلبي الوحيد
-
محنةُ المُعاقين في الدولِ المُعيقَةِ والمُعاقَة
-
الفتاة الذهبيّة ودولة السِكراب الصَدِئة
-
دفاترُ الحرب (4) .. مقاطع من هذيانات جندي مُسِنّ، من بقايا ا
...
-
السياسة النفطية في العراق واشتراطات تحالف (OPEC PLS)
-
وقائعُ تاريخِ المِحنة في العراقِ الراهن
-
كلفة التنمية وعائد التنمية وإدارة التنمية في العراق
-
كُلُّ احتلال.. وأنتِ روحي
-
سرقات اليوم الواحد وفساد القرن الكامل في العراق (2)
-
سرقات اليوم الواحد وفساد القرن الكامل في العراق (1)
-
هديلُ الحَمامِ الوحيد في كوكبِ المُشتري
-
سرقات اليوم الواحد وفساد القرن الكامل في العراق (3)
-
تلكَ الحياةِ المريرة
المزيد.....
-
زاعما سرقة فكرته.. المخرج المصري البنداري يحذر من التعامل مع
...
-
جرأة محفوفة بالمخاطر.. شهادات علنية لضحايا اعتداء جنسي تتحدى
...
-
الفرانكو- جزائري يخرج عن صمته ويعلق بشأن -فضيحة حوريات-
-
نافذة جديدة على العالم.. مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة ا
...
-
شون بين يتحدث في مراكش عن قناعاته وتجربته في السينما
-
تكريم مؤثر للفنانة المغربية الراحلة نعيمة المشرقي في مهرجان
...
-
بوتين يتذكر مناسبة مع شرودر ويعلق على رجل أعمال ألماني سأله
...
-
على طريقة أفلام الأكشن.. فرار 9 سجناء من مركز اعتقال في نيس
...
-
-الجائزة الكبرى للشعر الأجنبي- في فرنسا لنجوان درويش
-
الخنجر.. فيلم من إنتاج RT يعرض في مسقط
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|