الكريبكائية المكية والشيطنة العالمية


طلعت خيري
2024 / 8 / 5 - 09:31     

بعد الحضور الطوعي للمؤمنين والمنكرين للبعث والنشور الأخروي ، تبدأ عملية الفصل المصيري بينهم ، لاطلاع المجتمع المكي على واقع حال تجمع أهل الجنة ، قائلا ان أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، شغل تعني انشغال بفكاهة الحديث معبرين فيما بينهم ، عما في داخلهم من فرح وسرور واطمئنان ، هم وأزواجهم ، أزواجهم لا تعني زوجاتهم ، إنما أمثالهم من نفس الصنف من الذكور والإناث ، في ظلال على الأرائك متكؤون ، لهم فيها فاكهة ، ولهم فيها ما يدعون ، يدعون، يطلبون ، سلاما قولا من رب رحيم ، ثم انتقل التنزيل الى موقف المعارضين من البعث والنشور الأخروي ، لاطلاع المجتمع المكي على واقع حال تجمع أهل النار، قائلا وامتازوا اليوم أيها المجرمون ، امتازوا تعني ابرزوا لما هو ينتظركم ، بعد فصل أهل الجنة عنكم ، اليوم يوم الحساب ، أيها المجرمون ، الذين أجرموا بحق أنفسهم

وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ{59}

قبل إبليس بالمصير الأخروي مختارا الجحيم ، وقبل ادم أيضا بالمصير الأخروي طالبا الجنة ، بعد توبته من المعصية ، ثم حذر الله ادم وذريته من إغواء الشيطان الذي سيلازم البشرية الى نهاية الخليقة ، فالشيطان هو إنسان دنيوي له أفكار شيطانية مختلفة الاتجاهات لاستقطاب ذرية ادم لحزبه ، وفقا لاختياره المصيري، فمن الأفكار المضلة التي يروج لها على نطاق واسع وعلى كافة الأصعدة والميادين ، هي تلك التي توصل الفرد الى الجحيم ، كالشرك بالله ، وإنكار البعث والنشور الأخروي

دواعي الشيطان

1- شيطنة التوبة لتشريع المعصية على لسان الشريك مع الله ، كعقيدة الفدى التي جعلت لله ابنا ، ليحمل خطيئة ادم وأمه والبشرية

2- الشيطنة الكونية ، تلك التي تستحوذ عليها الميثولوجيا ، كالظواهر الطبيعية والمسخرات الكونية والماديات الأرضية ، ناسبة تدبيرها الى آلهة السماء ، كالملائكة بنات الله ، والهة الشمس ، وأصنام السماء كالكواكب والنجوم

3- الشيطنة العقائدية وتعني التلاعب بالنصوص الدينية ، التي تدعو الى الإيمان بالله واليوم الأخر، محرفة إياها بما يتلاءم مع رغبات وتوجهات الدين السياسي ، وتمثل الطائفية والمذهبية بكل أنواعها

4- شيطنة الحريات الشخصية الرغبوية ، عن طريق الفتوى الفاسدة التي أجازت الممارسات المشبوهة تحت غطاء ديني ، كزواج المتعة المسيار والسياحي والزواج العرفي ، والتعري عند الأنهر والبحار ، والمنتجعات السياحية للتكفير عن الخطيئة

5- شيطنة الروايات التاريخية للمقدسات ، والتي تعتبر مصدر ريعي للرأسمالية الدينية ، كالمعابد والأضرحة والمراقد والمقامات ، التي تنشط حولها والصناعات اليدوية والحرفية ، كالتماثيل والمحابس والعقود والصلبان والصور والرايات ، ورموز ملاحم أحداث الرواية التاريخية ، كالملابس والسيوف والخيام والأقنعة

6- شيطنة مكملات الفرد الدنيوية ، كالسعادة والحمل والإنجاب والنصيب والزواج ، بالاعتقادات الظنية التي تؤمن بعلمية عالم الجن الغيبي ،عن طريق السحر والشعوذة والنصب والاحتيال والتنجيم ، مستغلة للاوعي لمنافع مالية

7- شيطنة الكتب المنزلة ، كالتوراة والإنجيل والقران ، وهي اشر شيطنة على وجه الأرض ، والتي تعتبر محور السياسات العالمية للدين السياسي، وتمثل المحافل السرية ، واليد الخفية ، والدولة العميقة ، التي يسيطر عليها رجال طائفيون ، لهم أهداف امبريالية توسعية تدعمها جيوثقافية بلورتها الكتب المحرفة ، لأعادت الأمجاد التاريخية

8- الشيطنة القومية للمقدسات ، وتعني صناعة الله للتوجهات قومية عن طريق دس اسمه في الكتب المقدسة ، ثم تمريره على مقدسات الشعوب الأخرى ، لسلبها عقائديا لشرعنة الحروب ، كالقتل والتهجير والمجاعة ، وحرق المدن والحصار وسرقة المقدرات ، عبر مؤامرات سياسية وعسكرية داخلية وخارجية ، لتعكس مشاهد تدمير المدن لجيوثقافية معينة ، على أنها آيات الله في أعدائهم ، عاتب الله بني ادم في يوم الحشر قائلا ، الم اعهد إليكم يا بني ادم إلا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين


أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{60}

وكآلية للتخلص من الشيطنة العالمية ، أوصى الله ادم وذريته بالابتعاد عن دواعي الشيطان ، الدعية الى الإشراك بالله ، كعبادة الملائكة والصالحين ، والأولياء والأصنام والجن ورجال الدين ، معززا وصاياه على لسان الأنبياء والرسل في فترات متعاقبة ، مع الأخذ بالاعتبار التطورات الحضارية التي رافقت المجتمعات ، كظهور القراءة والكتابة قائلا ، وان اعبدوني هذا صراط مستقيم

وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{61}

اطلع التنزيل المجتمع المكي على الأسئلة الاخروية ، التي سيطرحها الله يوم القيامة على المعارضين للبعث والنشور لتحريك الفكر دنيويا مغبة الوقوع بالمسائلة الاخروية ، مستغربا من عدم قدرة عقولهم على استيعاب وأدراك جدية البعث ، قائلا ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ، أي أضل الشيطان منكم بشرا كثيرا ، جبلا تعني الجبلة ، لبنة الطين المعدة للبناء والمكونة من التراب والماء الممزوج جيدا ، وهنا أشارة الى خلق أدم من طين ، والكيفية التي جعلت نسله في قرار مكين ، أفلم تكونوا تعقلون

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ{62}

وعد الآخرة أول وعد ديني عقائدي ، طرحه الله على الملائكة وإبليس وادم وزوجه ، رفضه إبليس ، وقبل به ادم والملائكة ، بما ان ادم قبل بالآخرة ، إذن هو وضع ذريته أمام اختيارين إما الجنة وإما السعير، مع بقاء وعد الآخرة ساري المفعول الى يوم الحساب ، فعندما تحشر البشرية من كافة العصور والأزمنة التاريخية في مكان واحد ، وفي يوم واحد ، فان المحصلة الزمنية للحياة الدنيا ستكون صفرا ، لان الإنسان عاش اللحظة فقط ، فلم يستفد من ماديات الأرض ولا من سنين حياته ، إلا ما أبقاه على قيد الحياة ، فالفرد لا يشعر بقيمة الزمن الدنيوي إلا بعد بلوغ الآخرة قال الله ، هذه جهنم التي كنتم توعدون ، أصلوها اليوم ، يوم الحساب بما كنتم تكفرون ، تكفرون بالبعث والنشور، وهنا سيشعر الفرد بقيمة الزمن الذي استنفذه في إتباع دواعي الشيطان ، الرافضة للإيمان بالله واليوم الأخر

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{63} اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ{64}

العمل والكسب من ركائز الحساب الأخروي ، العمل يخص الأفراد الذين لا يرغبون بالامتثال لدعوة الحق ، لكن ليس لهم تأثير ميداني ، لا على دعوات الرسل ، ولا على الكتب المنزلة ، ولا على المؤمنين ، أما الكسب هو ما يكسبه الفرد ميدانيا من وراء شيطنة الأديان والكتب وفطرة الإنسان ، بما ينسجم مع دواعي الشيطان وتوجهاته الدنيوية الطامسة لقول الحق ، والرافضة للبعث والنشور الأخروي ، فأي فكر ديني عقائدي جديد يتعارض مع الكسب السياسي والمالي والاقتصادي والتجاري والسلطوي والشخصي، يتصدى له شياطين الميثولوجيا والدين السياسي ، بوضع الخطط الميدانية ، كالحشد المجتمعي ، والطرح السياسي ، وقد تصل الى الاستعانة بالنفوذ السلطوي لقمع واضطهاد المؤمنين ، طرح التنزيل آلية الحساب الأخروي للكسب الشيطاني ، لاطلاع المجتمع المكي بان الإنكار ألقولي للحقيقة الكسبية لن يجدي نفعا ، لان الناطق بالحق أطراف الجسم وليس اللسان ، قائلا اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ{65}

لم يرغم الله البشرية على الإيمان به ولا باليوم الأخر، ولكن من باب النصيحة الاخروية ، في محيط شأنه الأخروي الجامع لكل الناس يوم القيامة ، وإرادته التي اقتضت بمحاسبة كل من غيب عقله عن النصيحة متعمدا ، طرح الله على منكري البعث والنشور قدرته على إرغامهم الطوعي ، في إتباع الصراط المستقيم ، قائلا ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ، طمسنا حجب نظرهم عن مفاصل الحياة الواسعة وقيدناه باتجاه الصراط المستقيم ، فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ، ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ، المسخ تغير الخلق مع إزالة القدرة العقلية والفكرية ، فما استطاعوا مضيا المضي الذهاب ولا يرجعون ، العودة ، فالطمس والمسخ سهلان على الله ، يمكن مشاهدته واقعيا على البنية الخلقية للرجل المسن بعد فقدانه العقل والبصر ، قال الله ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون

وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ{66} وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ{67} وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ{68}

واجهت الدعوة القرآنية في مكة ، كم هائل من التحديات والأفكار السياسية المعارضة للتنزيل ، منها تحدي العذاب ، وتبديل القران ، وإنزال الملائكة ، وتحديد زمن الحساب ، وأعجمية القران، اتهم خلالها محمد بالجنون ، والمس ووطأة الإلهة ، كلها كانت تهدف الى صرف النظر عن آيات الله ، وكان أخرها ادعائهم ، بان محمد شاعر تعلم الشعر من ربه ، انزله عليه في القران ، رد التنزيل قائلا ، وما علمناه الشعر وما ينبغي له ، ينبغي له قول الشعر، ان هو إلا ذكر وقران مبين ، لينذر من كان حيا ، واعيا مستجيبا للتغير العقائدي، ويحق القول ، قول العذاب على الكافرين ، بلقاء الله

وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ{69} لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ{70}