جلست أحتسي فقري


فوز حمزة
2024 / 5 / 26 - 11:36     

بعد جولة تسوق فشلتُ فيها في شراء أي شيء، استوقفتني رائحة القهوة المنبعثة من أحدى المقاهي، أيقظتْ فيّ إحساسًا لذيذًا ورغبة عارمة لاحتساء فنجان الإسبريسو مع سيجارة قبل استئناف الجولة مرة ثانية، تجاوزت عتبة المقهى لأشعر بخيبة أمل وأنا أرى طاولات المقهى شُغلت جميعها و قبل أن أستدير لأخرج بادرني النادل بالسؤال:
- بماذا أساعدك سيدتي؟
سألني بصوت رخيم وابتسامة عذبة كأنه يغازل حبيبته.
قلت له بيأس:
- كنت أمني نفسي بفنجان قهوة، يبدو لا حظ لي اليوم، ربما في وقت آخر!
وضع الدفتر الصغير والقلم في جيب صدريته ليسألني ثانية:
- هل تدخنين؟
- نعم.
- انتظريني لحظة، هناك محل فارغ في صالة المدخنين، سأتأكد من ذلك.
عاد بعد دقيقتين ليخبرني بإمكاني مشاركة سيدة في الجلوس على طاولتها، إن لم يكن لدي مانع.
أشرت برأسي علامة الموافقة، تبعته غير مهتمة إلا بفنجان القهوة. وصلت إلى مكان الطاولة. السيدة كانت في غاية الحسن والأناقة، معطفها شبيه بالمعطف الذي رأيته قبل ساعة وتمنيت شراءه!
اعتذرتُ لتطفلي عليها.
وهي تمسك بإحدى يديها مجلة وفي اليد الأخرى سيجارة ردًّت:
- لا بأس، البرد في الخارج شديد، لهذا تجدين المقاهي في مثل هذا الوقت مزدحمة، على أيّ حال، سأغادر بعد عشر دقائق.
عذوبة صوتها، بدد الإحراج الذي كنت أشعر به فشكرتها، لقد كانت مثيرة فوق العادة، البشرة الناعمة، وزرقة العينين، رسمت لوحة مع لون شعرها الأشقر اللامع. كانت جميلة بوقاحة.
ذهاب النادل ليعد لي الطلب، منحني فرصة التفرس في معطفها الثمين.
تساءلت مع نفسي: كم أحتاج من المال لأشتري مثله؟
سألتني بصورة مباغتة وهي تغلق المجلة لتضعها في الحقيبة:
- هل تعملين؟
- أجل، في شركة اتصالات.
رجوت الله ألا تسألني عن الأجر الذي أتقاضاه من الشركة التي لا تدفع لمنتسبيها إلا ما يسد الرمق، بالفعل لم تسأل، بل هزت رأسها ببطء، ثم زمّتْ شفتيها قبل فتحها لعلبة سجائر فاخرة، وتقدم لي واحدة منها، لم تسمعني حين شكرتها لانشغالها بالرد على الهاتف، تساوم شخصًا على مبلغ عشرة آلاف دولار.
أقفلت الهاتف بعد أن قالت للمتصل:
- بدولار واحد أقل لن أقبل بغير هذا المبلغ، هل فهمت؟
قلت لنفسي: لو كنت مكانكِ لقبلت بنصف المبلغ، وربما ربعه!
- لكني لم أطلب سوى القهوة!
قلت للنادل باستغراب وهو يضع أمامي طبقًا فيه قطعة كاتو.
أجابني، وهو ينظر إليها بكل الرقة:
- إنه على حساب السيدة.
شكرتها وأخبرتها، كان في استطاعتي طلب الكيك.
قالت بنبرة تحاول من خلالها تبديد الإحراج الذي شعرت به:
- في هذا المكان يقدمون ألذ كاتو على الإطلاق، ثم أنتِ ضيفتي و...
اتصال جديد غيّر لون سحنتها البيضاء إلى حمراء فبدت أكثر فتنة. بدأت تنقر على الطاولة بولاعة السجائر الفضية التي جاءت منسجمة مع خاتم الألماس في إصبعها.
وأنا أحتسي القهوة، شعرت كأنني أحتسي فقري. بدأت أنكمش على جسدي البائس بملابسي الرخيصة التي تستره، شعرت بالندم لأنني دخلت هذا المقهى، لم أوفق في شيء هذا النهار.
أغلقت هاتفها ثم رمته بعنف على الطاولة وهي تردد: لصوص، أوغاد.
طلبتْ من النادل أن يأتيها بفنجانين آخرين من القهوة على أن تكون القهوة هذه المرة ساخنة جدًا،
اتصال جديد وردها، بدت أكثر هدوءًا مكتفية بترديد حسنًا لأكثر من مرة، ثم قالت مستغربة: عشرة آلاف دولار ليس مبلغًا كبيرًا! هناك مواقع أبدت استعدادها للعمل معي بالمبلغ الذي أحدده دون نقاش، طيب، اتصل بيّ حينما يصبح كل شيء جاهزًا، ضع في حساباتك، لقد ألغيتُ عقدًا مهمًا من أجلكم، وإلا لن ترضيكم ردة فعلي.
جاء النادل بالقهوة الساخنة جدًا حسب طلبها.
ارتشفتْ قليلًا منها لتقول لي:
- أصحاب العمل لصوص، بل أكثر من ذلك، إنهم قوادون، لا يتوانون في فعل أي شيء من أجل جني المزيد من المال!
قلت لها وكأنها عزفت على وتر حساس:
- قصتي محزنة معهم!
كنت على وشك إخبارها عن معاناتي في العمل، لولا اتصال آخر منعني من تحقيق رغبتي. سألتْ مَنْ يحدثها بكل هدوء:
- هل أنتم جاهزون؟ لا تدعني أنتظر كالمرات السابقة.
ارتشفتْ قليلًا من قهوتها ثانية ثم سألته:
- هل حضر الممثل؟
لا أدري ما الذي جعلها تضحك بصوت عال.
ختمت حديثها بالقول:
- ربما أفكر في جعلك شريكي المرة القادمة.
وهي تلملم حاجياتها، تمكن مني فضول كبير لمعرفة أين تعمل، فلم تسبق لي مشاهدتها في أي عمل درامي.
- هل تعملين في السينما؟
وهي تحاول ربط حزام معطفها الرائع وحمل حقيبتها الثمينة ذات الجلد الطبيعي أجابتني:
- أنا نجمة إباحية.
خرجتْ مسرعة لتستقل سيارتها الفارهة التي كانت تحتل رصيف المقهى وتركتني وسط دوامة من الغضب بعد اضطراري لتسديد ثمن الفاتورة كلها.
حينما خرجت من المقهى، ضحكت من نفسي، وقد خطرت في ذهني تلك اللحظة التي تمنيت فيها موافقتي على نصف المبلغ.