مقامة الرفقة .


صباح حزمي الزهيري
2024 / 5 / 15 - 18:10     

مقامة الرفقة :
عزيزي ابا بيدر ....شاكرا اهتمامكم .
يقول شمس التبريزي : شخص واحد فقط , سيمر في حياتك , خطوط يديه تشبه خارطة وطنك , ما أن يسحب كفه من مصافحتك , حتى تشعر انك في المنفى.
كثيرون من رفاقي ورفاقك أندهشوا للعلاقة الوطيدة التي نشأت بيننا , بأعتبار ان السياسات الخاطئة التي اتبعتها القيادات يفترض ان تباعد بيننا , ولما قرأت كتبك رأيتك تفكر أنسانيا مثلي ويهمك وطنك كأسبقية , مترفعا عن كل ما من شأنه ان يضعف جبهتنا الداخلية التي تواجه أعداء الأنسانية , مددت يدي لأخي في العقيدة والوطن , عسى ان ترمم شيئا من عذاباته التي سببها اصحاب القرارات الخاطئة , ولما كنا قد نشأنا في جيل كانت المباديء والألتزام بها سمته الأساسية , فالمنطقي ان نتقارب , فأنا قد انتميت قبلك لتنظيم كان يثقفنا بكتاب د . الياس فرح ( تطور الفكر الماركسي ) , ويقرره علينا في كلية العلوم السياسية ضمن مادة الفكر الأشتراكي , ولا زال أيماني راسخا بما كان يلقنه لي مسؤولي الحزبي : (( حزبنا يستلهم التراث دون التوقف عند حدود الماضي , وينفتح على الفكر العالمي وفي مقدمته الفكر الماركسي ليأخذ ماينسجم مع نضالنا القومي )) .
وهكذا فإن الوطن هو الذاكرة التي جعلتنا نتعارف, نحن من جيل فتح أعينه أواسط القرن الماضي على جيش من المتعلمين من الجنسين, يشمّرون عن سواعد مباركة في التربية والاقتصاد والهندسة والطب والصناعة والزراعة ومختلف الحرف والمهارات, وكان هناك سلاح منضبط شامخ يحمي كل ذلك, نغني له في مدارسنا : «الجيش سور للوطن», ذهب الملايين من أبناء وبنات الأميين والأميات إلى المدارس المجانية ودخلوا الجامعات وسافروا في بعثات, كان الوطن يكبر بهم ويتوهج ويشق مكانه في عالم واسع سريع التطور, ملعونة هي السياسة والأصابع الخارجية التي لعبت بعقول جامحة وصرفت الأحزاب عن نظرياتها الطيبة المفترضة وأحالتها ميداناً للتقاتل والدماء, وحين جاءت الحروب اكتمل البلاء.
عندما قرأت كتاباتك شخصتك من هؤلاء العراقيين المغتربين الذين قد يكونوا خرجوا من المكان العراقي, لكنهم بكل تأكيد ما زالوا يعيشون الزمن العراقي, بل لعلك تراهم يعوضون فقدانهم المكان بمزيد من الإغراق بالزمان, أنت وأنا كنا ولم نزل علامة من زمن كان واعداً مضيئاً وانطفأ, ننتمي الى ملايين العراقيين الذين حرفت السياسة مصائرهم وحكمت عليهم بالهجرة من بلد الخيرات والتشتت في القارات بدل أن يقدموا ثمار عقولهم ومواهبهم لأبناء شعبهم , يموتون ويدفنون في التُرب الغريبة والمتحكمون بالوطن ساهون عنهم , كلانا وجد في الآخر ثقافة وشجاعة لنموذج المواطن حامل الأمل , متوشّحين برجاحة العقل لا بأحجيات مصطنعة, عراقيان سليلا رجال ونساء قاوموا في الأرياف وفي المدن على امتداد القرن الماضي لبناء عراق حضاريّ مستقل قوي ثريّ مضيء في منطقته, يلهم الوطن العربي بمواهب أبنائه الرواد من الشعراء النحاتين والرسامين والمعماريين والمسرحيين والمطربين وصانعي الجمال,كنا قد أعددنا للوطن كل مابوسعنا , ان نكون نبراسا يضيء درب مستقبلنا الآتي , ولم يكن يضيرنا أن نشتعل.

تقول د. نوال السعداوي : (( يموت المثقفون العلمانيون التنويريون فقراء, ولا يتركون شيئا من متاع الدنيا , ويموت المشايخ و الدعاة وفي أرصدتهم الملايين , وأبناؤهم في أرقى معاهد وجامعات الغرب, ولكن في النهاية نسمع أن العلمانيين ماديون تهمهم الدنيا, والدعاة يحرصون على الآخرة, ورغم أن اللعبة مكشوفة تماما منذ قرون , إلا أن الناس يفضلون الغفلة مع الطمأنينة المغشوشة, على اليقظة والوعي مع قلق السؤال)) ,إنّنا اليوم نُمارِس الحداثة الغربيّة على مستوى "تحسين الحياة" اليومية ووسائلها, لكنّنا نرفضها على مستوى "تحسين الفكر والعقل" ,أيّ أنّنا نأخذ المنجزات ونرفض المبادىء العقليّة التي أدّت إلى ابتكارها, إنّه التلفيق الذي ينخر الإنسان العربي من الداخل, ولئن كان علامة على انهيار الفكر الفلسفي العربي في مرحلة التوفيق بين الدين والفلسفة, , فإنّه اليوم يبدو إيذاناً بانهيار الشخصيّة العربيّة ذاتها.
عزيزي ابا بيدر , حيثُ لا أخطر على العقل من الشبهات, ولا أذهب لراحة الإنسان من الحيرات, ولا أفخر نسبًا من تنسب العلم , ولا أعدل من التأكد قبل الحُكم , ولا أسمى من الفهم, ولا أحلى عذوبة من الإيمان, ولا راحة بلا اطمئنان, ولا اعتزاز بجهالة , دعني اشكرك على روعة ماتفضلت به , ولتكن صداقتنا بلسما يداوي جزءا من عذاباتك في هذا الوطن , وأثني على مبادئك وأدعوك أن تستند علي وعلى مبادئي في طريقك الى املنا المنشود.