جنان السعدي حين يصوغ المعاني السامية


داود السلمان
2024 / 5 / 12 - 14:21     

ثمة من يسيء لقصيدة النثر، وهناك من يرفع من شأنها ويبدع فيها، أيما ابداع. فالذين أساؤوا لها لا شأن لنا معهم، فالكثير من المتابعين للشأن الثقافي يعرفهم ويراقبهم عن كثب، حيث أطلق عليهم البعض تسمية "الشعراء الفيسبوكيين"، وأنا بطبيعة الحال، لا أتفق معهم على هذا المصطلح، أو هذه التسمية المسيئة، كون لها تجاوز فاضح على الشعراء المبدعين في هذا الاطار، إذ حتى الشعراء البارزين المبدعين، كونهم ينشرون نتاجهم الفكري والابداعي على صفحاتهم الفيسبوكية، فهل من العقل والمنطق بمكان أن نطلق عليهم ذلك المصطلح الذي استهجناه، أعني مصطلح "فيسبوكيين". أقول لم اتطرق إلى ذكرهم بالمرّة (الذين أساؤوا للشعر، كي لا أدخل معهم في معمعة، وسجال طويل بلا فائدة تُذكر، وحتى لا أجلب لنفسي خصومة أنا في غنى عنها، فلربما هناك من يعتبرني متطفل عليه، أو كان قصدي الاستهانة به وبما يكتب. وللأسف الشديد، فأن هؤلاء الذين عنيناهم، لم يدكروا فلسفة "قصيدة النثر" ولا يعرفون قوانينها، وشروطها ولا ميزتها الفنية كلون ابداعي له ميزته خاصة، و وجوده ككيان ابداعي ينبض بالحياة. فالبعض يكتب خواطر ويتصور أنّ تلك قصائد نثرية، وآخر يكتب طلاسم أشبه بما يكتبه البوني في كتابه "شمس المعارف الكبرى" حيث لا توجد شمس تنير مُدلهمات الدُجى، ولا معارف تزيح التخلف الفكري، والغباء العقلي، الذي أصاب بعض العقول الهرمة بمقتل.
بعد هذه المقدمة البسيطة، أحببت أن أنوّه عن الصنف الثاني من الذين عنيتهم في هذا المقال، وأقصد بهم الذين أبدعوا في قصيدة النثر، وكانت كتاباتهم جميلة وأخاذة، ومن حقنا أن نشدُّ على كتابها، لأنهم حقا أبدعوا في هذا الجانب، ولم يتركوا خلة، ولا مثلبة أو شيء من هذا القبيل، وهم بحمد الله كثير. وأعني به الشاعر جنان السعدي، وأنا اقرأ له نصًا تحت عنوان "(قُلْ شيئاً) فهو نص ملتزم بالقواعد الشرطية التي تمسّك بها الشاعر، على اعتباره مدركا أن لكل شيء قواعده وشروطه الخاصة، وقصيدة النثر كونها كيان حيّ ينبض بالحياة، ويتطلع لاستنشاق نسيم العذوبة الجمالية، الكامنة بين حروف رسمها الشاعر بمقاس فكره وأبداعه، على اعتباره اخذ عهدا على نفسه بأن يصنع الجمال.
السعدي يستخدم – في جُل نصوصه- اللغة الجميلة السلسة، الخالية من شوائب الكلمات الزنانة ذات الفائدة غير المجدية، التي البعض منهم يقحمها في غير موقعها، بل أنه يختار الكلمات بعناية فائقة ودقة متناهية، بحسب اطلاعي على كثير من نصوصه التي ينشرها على صفحته الخاصة، بين الحين والآخر، كوني من المتابعين المهتمين بنتاج معظم أصدقائي.
واللغة التي يشيّد بنائها السعدي هي ليست سلسة فحسب، بل وكانت جذابة وفياضة بمعانيها السامية، فالرجل مختلف بشكل لافت للنظر في نصوصه الابداعية، فهو يملك حسّ شاعري فذ، ومخيال جياش يفجر المعاني العذبة، لينتج بالتالي نصوص تليق به وبأمثاله من المبدعين العراقيين، فضلا عن سواهم من شعراء العرب.

نص: (قُلْ شيئاً)
الشاعر: جنان السعدي
قُلْ شيئاً
كي تُعلنَ للعالمِ أجمع
ما زلتَ على قيدِ الإبداع
قُلْ شيئاً
لتحيي حرفاً
بالكادِ يشمُ نسيمَ الحرية
لترسمَ للغدِ ظِلّاً
من فيءِ بُحبوحتهِ يقتاتُ الجياعُ
قُلْ شيئاً
كي تجمعَ آهاتِ الأمسِ
تودعها أوجاعَ اليومِ
قطارُ الأحلامِ ما زالَ يناديك
إركبهُ و أرحل
قُل شيئاً
ما زالت ليلى عند البابِ
تنتظرُ الساعي
ارسل باقاتِ الوردِ
لا تبخل
قُل شيئاً
خضرٌ احداقُ الوطن
اسقها شهداً
كي تّزهرَ
قُلْ شيئاً
طفلٌ بينَ الأضلاعِ
يرقصُ على نوتاتِ الدفءِ
برفقٍ ربّت على كتفيهِ
كَيْ يسعد
قُلْ شيئاً
تمرَّدْ
مزِّق صحفَ الأخبار
جوريةً حمراء احمل
كي تحيا حياةَ الأحرار
قُلْ شيئاً.