مترجم / جان كافاييس في إرث ليون برنشفيك: فلسفة الرياضيات ومشكلات التاريخ (الجزء الثالث)


أحمد رباص
2024 / 5 / 11 - 02:52     

اللحظة الأكثر تمثيلاً للنزعة الرياضياتية، في نظر برنشفيك، هي اللحظة الديكارتية. يتم تقديمها على أنها غزو لاستقلالية العقل، وتحويل المكاني والخيالي إلى علاقات عقلانية، واختزال الخارجية إلى داخلية، وإظهار القوة البناءة لـ "التحليل" - وهذا الأخير يؤخذ بالمعنى الجبري الجديد، الذي سمح لبرنشفيك بالحديث عن "روحانية الجبر". أحد أكثر مفاهيم ديكارت أصالة، والتي تم اقتراحها بالفعل في كتابه "قواعد لتوجيه الفكر"، هو مفهوم الحدس كفعل عقلي، وذكاء علائقي مباشر، مثل الوضع في معادلة. والنتيجة النهائية هي محو أي اختلاف في الطبيعة بين الحدس والاستنباط. "الحدس"، كما يقول برنشفيك في كتابه "مراحل فلسفة الرياضيات"، ليس شكلا أعلى من التمثيل الذي من خلاله يتواصل العقل مع شيء في ذاته، ويؤكد الحقيقة المتعالية للموضوع: إنه تعقل خالص يجمع في فعل اتصاب غير قابل للتجزئة مجموعة متنوعة من الأفكار المتميزة ويؤكد وحدتها كحقيقة واضحة بذاتها». لا يتعلق الأمر هنا بـ «ملكة ميتافيزيقية»، بل بـ «مبدأ العلم الذي وصل إلى أعلى درجات الوضوح والمعقولية»، مما يسمح لتعقلية الفكر الحديث بأن تتكشف بحرية وخصوبة لا حدود لها.
هذا التصور الديكارتي هو على وجه الخصوص ما سمح لسبينوزا بمعارضة الحدس الحسي باعتباره ملكة إدراك محتواها الصور، بالفكرة كفعل عقلي. عند سبينوزا، «العلم الحدسي مكتف بذاته، إنه ليس سوى تطور الدينامية الداخلية التي تحدد طبيعة الفكر، تميز التلقائية العقلية». كل فكرة تؤكد نفسها، وتنتج من تلقاء ذاتها نتائجها الخاصة، والتحقق من صحة المعرفة ليس سوى وعي بالقوة التركيبية للأفكار.
نحن نعرف، وكثيرا ما شرحنا، إحالات كافاييس إلى سبينوزا. باعتبارها كذلك، فهي بالأحرى ضمنية، مرتبطة باختيار بعض التعبيرات المميزة، مثل "الجواهر المفردة"، وبدلاً من إرادة الاسترجاع المحضة والبسيطة، سيكون من الأفضل بلا شك الحديث عن انخراط عام، من حيث المبدأ، في السبينوزية. يخفي عنده هذا الانخراط، من بين أمور أخرى، قناعة، تم تأكيدها مرات عديدة، بهيمنة الضرورة في التاريخ، وقبل كل شيء بالطبع في تاريخ الرياضيات. لقد طوَّر كافايليس تصورا أصيلا، مستوحى من المآل المعاصر لنظرية المجموعات، للضرورة الرياضياتية التي تُفهم على أنها محايثة للتاريخ. سوف يتعين علينل العودة إلى ذلك، لكن من المناسب هنا التأكيد على أن وضع الضرورة في المقدمة هو إحدى النقاط التي يبتعد بها كافاييس بدقة عن تصورات برنشفيك الذي يربط، كما رأينا، فكرة تاريخ العلم بجهة المعرفة الممكنة. يقول: «إن الحل الذي سيقدمه سبينوزا - ضمنيًا بلا شك، ومع ذلك بكل وضوح - لمشكلة الجهة سيكون اختزال جميع أشكال الجهة في نوع واحد، هو الضرورة»، أو مرة أخرى: "تتمثل مشكلة جهة الحكم عند سبينوزا في البديل التالي: “ليس هناك حل وسط بين الممكن والضروري؛ الممكن يؤول إلى العدم، الوجود هو الوجود الضروري”. إذا نظرنا إليه في علاقة بتنظير برنشفيك، الذي سنناقش أدناه نسخته العقلية المختلفة تماما عند جورج كانغيلام، يمكننا القول إن تصور كافاييس، مثل تصور سبينوزا، يذهب إلى أقصى الحدود على طريق الضرورة، أو بشكل أكثر دقة ربما، ينزع، بين قطبي الضرورة والإمكان، إلى إلغاء قطب الممكن البسيط. قد يكون هذا هو المعنى الأساسي لإحالة كافيليس إلى سبينوزا.
يبدو أن كاتبنا (كافاييس) وجد عند ديديكيند التطبيق المثالي لما كان يقصده بالضرورة. في كتابه "المنهج الأكسيوماتيكي والنزعة الصورية"، يستشهد ب"خطاب التمكين" (لديدكيند) ويأخذ مثال الأسي غير الكامل: "إن التوسعات في التعريفات لا تترك مجالا للاعتباطي ولكنها تتبع بضرورة مطلقة تعريفات بدائية إذا طبقنا مبدأ أن القوانين التي تنشأ منها هي سمة من سمات المفاهيم التي تقدمها وذات صلاحية كونية. هناك "توليد ضروري لمفاهيم جديدة"، ووفقا لضرورة مزدوجة، يوضح كافايييس، وهو يعترف بأنه لا يمكن تحديد الكلمة بأي طريقة أخرى سوى بالاعتراف بمتطلبات معينة، متطلبات داخلية للمشاكل والأفاهيم. تتطلب العملية المطلوبة توسيع مجال الموضوعات؛ وفي هذا المجال الجديد، تتطلب العلاقات تعريفا جديدا. يتعلق الأمر في الأساس باستقلالية إجرائية، أي استقلالية أفعال عالم الرياضيات الذي يمارس العمليات. في عرض ديديكيند للتقدم الرياضياتي كتقديم ضروري، لأنه ضروري، لمفاهيم جديدة، يقرأ كافاييس "الدينامية الداخلية للرياضيات المستقلة": استقلال الرياضيات ومستقبلها، ضد أي محاولة للاختزال.
هذا العداء لأي شكل من أشكال الاختزال (بالأخص الحسابي هنا) وجد تعبيره عند ديديكيند في معجم "الخلق"، وهو مصطلح استخدمه كافايليس نفسه في أطروحته الصغيرة حول النظرية الكانتورية، دون أن يكون هناك تناقض واضح. يتعارض مع ضرورة المسار: كيف يمكننا أن نفهم الأخيرة؟
في الواقع، لا يسعى كافاييس إلى استيعاب النمو برمته في خطاطة الاستقلال الذاتي-الضرورة، ويعرف تماما كيف يفسح المجال، على هامش مثل هذا الخطاطة إذا جاز التعبير، للاحتمال. وإذا رجعننا، في "ملاحظات على تشكيل النظرية المجردة للمجموعات، إلى وصف ظهور هذه الأخيرة، نرى أن الضرورة بالنسبة له، في تاريخ أصيل، ليست مطلقة. إن التأملات التمهيدية موجهة بالتأكيد ضد ممارسة التاريخ التي من شأنها أن تبالغ بشكل غير لائق في دور الاحتمال، وهي لا تنفيه. لا يقول كافاييس إن تاريخ الرياضيات ليس مرتبطا بما يحمله - فهذا الارتباط ذو شقين، مع المشكلات والأساليب، وهو مجرد موقف جزئي - ولكنه، من بين جميع القصص، هو الأقل. لا ينكر أي قيمة تفسيرية تاريخية لعوامل مثل الاعتباطي، الفردي أو أسلوب البيئة، فهو يدعي أنها ليست كافية للتفسير. بل إنه يدرك صعوبة التمييز بين الترابطات النفسية أو الاجتماعية والضرورة الرياضياتية، أو صعوبة الإجابة على السؤال: هل هناك ظهور ضروري، أو بنية مستقلة، أو خيال تاريخي، أو تعددية مدمجة في نسق محتمل؟ ما يتعلق به الأمر هو الحفاظ على وجود نواة غير قابلة للاختزال من الموضوعية في المعرفة، من الضرورة في التطور التاريخي للرياضيات.
المصدر: https://www.cairn.info/revue-de-metaphysique-et-de-morale-2020-1-page-9.htm