-جاسوس البلقان- فيلم ساخر عن تأثير القمع السياسي على نفسية الإنسان وسلوكه والعلاقات الاجتماعبة


علي المسعود
2024 / 2 / 18 - 18:13     

الشمولية أو الحكم الشمولي هو نظام سياسي يرتكز على وجود حكم الحزب الواحد ولا يقبل وجود معارضة سياسية في البلاد، وتكون فيه للدولة سلطة كاملة على المجتمع وتسعى للسيطرة على جميع جوانب الحياة العامة، كما أن الأيديولوجية السياسية للنظام الشمولي تسعى إلى التغلغل داخل البنية المجتمعية، وتسمح بذلك للدولة بالتحكم الكامل في أنشطة المواطنين، ومن ثم توجيه أفكارهم . في معظم أنحاء العالم، تفككت الدول الستالينية. وبالمثل، انهارت العديد من الأحزاب الشيوعية التي تبعتها أو تحولت إلى أشكالٍ جديدة مشوهة. ولكن حتى في الأماكن التي يبدو أن الستالينية المنظمة قد تلاشت فيها، فإن إرثها الأيديولوجي لا يزال قائمًا .

هذه المقدمة هي بداية الحديث عن الفيلم اليوغسلافي ( جاسوس البلقان ) ، وأعتبره من روائع السينما اليوغسلافية . كوميديا ودراما و كوميدي تعكس حالة الإنسان المقهور الخائف التي يصورها الفيلم .
ورغم أن الفيلم إنتاج عام 1984 ، الا انه ينكأ جراحا قديمة ، الفيلم من إخراج المخرجين الصربيين دوسان كوفاشيفيتش وبوزير نيكوليتش. أحداث الفيلم تحصل في المقام الأول في مدينة بلغراد ، تدور القصة حول إيليا كفوروفيتش، وهو رجل عادي يعمل كعامل مسرح في المسرح الوطني . كان (ايليا) ثوريا ومناضلا في شبابه وكان ستاليني الفكر ومناصرا للثورة وبسبب نشاطه السياسي سجن سنتين، كبر الآن وتغير، لديه غرفة في بيته أستأجرها لرجل غريب، يتم إستدعاؤه لتحقيق روتنيني بشأن المستأجر الذي يسكن عنده ، لكن هذا الإجراء الروتيني البسيط، يقوده الى التصرف الجنوني بحق المستأجر القادم من باريس ، الفيلم مقتبس من رواية دوسان كوفاسيفيتش العظيمة ، المليئة بالعبثية والسخرية والنقد الذاتي والحاد للدولة البوليسية في مراقبة الناس ، وفي نفس الوقت ، الفيلم نقد لشخصية ستالين الاستبدادية، تُترجم إلى جنون العظمة من الفكاهة السوداء التي يعاني منها رجل بسيط تحول الى –( عبد أيديولوجي)، يمنح التمثيل الذي لا يُنسى لباتا ستويكوفيتش هذه الميزة قوة وتعبيرًا سينمائيًا أصيلًا نادرًا . التحفة الفنية : ليست واحدة من روائع دوسان فحسب، بل هي أيضًا واحدة من أعظم العروض التمثيلية على الإطلاق ، يظهر الممثل باتا ستويكوفيتش في دور لا يمكن نسيانه . يصور الفيلم بطريقة فكاهية النقد الذاتي للأمة بأكملها من خلال الشخصية الساقطة أيديولوجياً التي تتحول الى شرطي أمن تابع للدولة . تتميز المونولوجات بروح الدعابة وبشكل مثيرة للتفكير. كوميديا ذات مذاق مرير . يعتبر فيلم جاسوس البلقان واحدًا من أهم الأفلام في السينما الصربية واليوغوسلافية وغالبًا ما يُنظر إليه على أنه فيلم كوميدي، لكنه يتجاوز ذلك. إنه بمثابة تعليق اجتماعي واستعارة لجنون العظمة الوطني تجاه أي شيء أجنبي. الشخصية الرئيسية، إيليا كفوروفيتش، تعاني من الأوهام التي تؤدي من الارتباك الكوميدي إلى تصعيد مأساوي للعنف، محملاً بنظريات المؤامرة . تم استدعاء إيليا تشفوروفيتش في بلغراد ، الذي أمضى عامين في السجن في غولي أوتوك بسبب الستالينية ، لإجراء مقابلة روتينية في مركز المخابرات . يسأله المحقق بشكل روتيني عن مستأجره الجديد بيتار ياكوفليفيفيتش، وهو خياط عمل لمدة 20 عاما في دولة رأسمالية في فرنسا. يسمح لإيليا بالعودة إلى المنزل ، لكنه تغلب عليه العصبية وجنون العظمة لدرجة أنه بدأ يشك في المستأجر بيتار. بمجرد عودته إلى المنزل ، بدأ يشكو لزوجته دانيكا ، أنه لم يكن ينبغي عليهم أبدا استئجار شقة له. بعد استدعاءه الى دائرة المخابرات والسؤال عن الرجل الواصل حديثأ من فرنسا ، يصاب ( ايليا) بالشك لحد الجنون بشأن المستأجر ويصبح شغله الشاغل مراقبته، حتى يعرف سر سؤال الشرطة عنه، مطاردة ومراقبة وملاحقة تؤثر على حياته وأسرته. يبدأ خيال إيليا في العمل ويبدأ في تخيل أن بيتار يمكن أن يكون إرهابيا يريد الإطاحة بالدولة. سرعان ما بدأت في التجسس عليه ، إيليا رجل في خريف عمره يعيش مع زوجته وابنته التي أنهت دراسة طب الأسنان لكنها لم تجد عملا. في بداية الفيلم نرى إيليا ينتظر بقلق في ممر أحد مقار المخابرات بعد أن جرى استدعاءه. يسأله المحقق عن الرجل المستأجر لديه وإن كان يتلقى اتصالات فيجيب بالنفي. المقابلة مع المحقق وجيزة جدا وفي نهايتها يطلب المحقق من إيليا الانصراف ويطمئنه بأن لا يقلق فالموضوع غير مهم. لكنه لا يستطيع إلا أن يقلق وتصيبه الشكوك في أن جاره القادم من باريس والمدعو بيتر جاسوس ورجل خطر على أمن البلاد، خاصة بعد أن تبلغه زوجته أن بيتر تلقى بالفعل بعض الاتصالات. يصاب إيليا بالفزع فيتصل فورا بالمحقق ليبلغه أن جاره تلقى اتصالات كما عرف من زوجته، غير أن المحقق يطلب منه أن ينسى الموضوع فهو غير مهم. يأخذ إيليا إجازة من عمله ويبدأ بالتجسس على جاره مما يثير استهجان زوجته القلقة فقط بشأن مستقبل ابنتها، لكنه يصبح مهووسا بالقضية ويلاحق جاره في كل مكان ويلتقط له الصور، ويفسر أي تصرف عادي يقوم به جاره بأنه جزء من المؤامرة، ويتهم أي أشخاص يجتمع بهم جاره بأنهم عصابة الجواسيس المتآمرين معه. يطور إيليا من وسائل تجسسه وصولا إلى التنصت على هاتف جاره وتسجيل المكالمات التي يجريها. يتصل إيليا كل مرة بالمحقق، لكن المحقق يكرر الطلب منه أن ينسى الموضوع . غير أن شكوك إيليا تزداد لتصل إلى القناعة بأنه شخصيا مهدد من قبل العصابة فيقتني كلب حراسة ويركّب قضبان حماية لنوافذ وأبواب منزله ، ذات يوم يتعرض إيليا لحادث سيارة فتزداد شكوكه بأن حياته مهددة وأنه تعرض لمحاولة اغتيال، ولأنه لم يعد قادرا على الحركة بسبب إصابته في ساقه نتيجة الحادث، يستنجد إيليا بأخيه التوأم الذي بدوره يشرع بمساعدته في التجسس بحماس شديد. ويتطور الحال إلى الاستنجاد برجال من طينتهم بعد أن تورط الاثنان في اختطاف الجار وصار الاثنان يمارسان وظيفة المحقق مع الجار الذي يستغرب هذه التصرفات والتي كما سيتضح كان يعلم بها. يقيّد الأخوان جارهما في مستودع تابع للمنزل، وفي لحظة يكون فيها الأخ الآخر خارج المنزل يصاب إيليا بنوبة قلبية/ فيتمكن الجار من الهرب وهو مقيد إلى كرسي بعد أن ينجح بالاتصال بالإسعاف ويسرع للمطار للحاق بالطائرة التي ستقله إلى أمريكا للقاء ابنه الذي يدرس هناك. أما إيليا فعلى الرغم من إصابته بالنوبة القلبية يتصل بمنزل أخيه ليطلب منه إيقاف حركة الطيران في المطار .

"جاسوس البلقان" فيلم ساخر عن تأثير القمع السياسي على نفسية الإنسان وتأثيره على العلاقات الاجتماعبة. تأخذ حياته منعطفًا غير متوقع عندما يبدأ في الاعتقاد بأنه جاره جاسوس. تقوده أوهامه إلى الشك في كل من حوله، بما في ذلك زوجته وزملائه وجيرانه. ومع تزايد جنون العظمة لديه، يصبح الخط الفاصل بين الواقع والخيال غير واضح، مما يؤدي إلى سلسلة من المواقف الكوميدية والسخيفة. طوال الفيلم، يكافح إيليا في كشف هوية المسـتأجر الجديد والوصول الى حقيقة (الجاسوس) حسب ظنه وأوهامه . يختلق نظريات معقدة ويحاول الكشف عن المؤامرات الخفية. توفر تفاعلاته مع الشخصيات الأخرى لحظات من الفكاهة والسخرية والتعليق الاجتماعي . وبينما تتكشف أحداث الفيلم، يستمتع المشاهدون بمزيج من الضحك واللحظات المثيرة للتفكير ولمسة من المأساة الانسان في ظل تلك الأنظمة الأستبدادية ، في جوهره ، يعد فيلم "جاسوس البلقان" بمثابة نقد ساخر للأيديولوجية السائدة ورمز لجنون العظمة الوطني السائد خلال تلك الحقبة. إنه فيلم يمزج الكوميديا بسلاسة مع موضوعات أعمق، مما يترك الجمهور يفكر لفترة طويلة بعد انتهاءه ، مقتنعا بأن مستأجره من الباطن هو جاسوس وعدو للدولة .‏ مما أثار دهشة زوجته دانيكا التي تشعر بقلق أكبر بشأن ابنتهما سونيا ، التي لم تحصل على وظيفة منذ سنوات كخريجة طب أسنان . يتصل إيليا بمفتش أمن الدولة على الهاتف ويبدأ في إبلاغه عن تحركات بيتار وبعض لقاءاته مع أشخاص "مشبوهين" ، لكنه لا يأخذه على محمل الجد. سرعان ما يشتري إيليا كاميرا ومنظار ويبدأ في التجسس باستمرار على جاره بيتار وأصدقائه ، من المنتجع الصحي إلى المشي في الغابة. شقيقه دجورا ينضم إليه في مهمة التجسس. في إحدى الأمسيات ، يبدو إيليا مصابا وبملابس ممزقة ويروي كيف حاول شخص ما دهسه عمدا بسيارة أثناء وجوده في الشارع ، لجعله يبدو وكأنه حادث. سرعان ما تبدأ دانيكا أيضا في دعمه دون تحفظ ، بينما ترى ابنته سونيا بالفعل رجلا مريضا عقليا ، ينتقلون بسرعة إلى الخطوة التالية ؛ يقبض دجورا على أحد أصدقاء بيتار ومعظمهم من المثقفين والأكاديميين الأبرياء ، ويربطه ويأخذه إلى قبو منزله حيث يبدأ في ضربه وإجباره على الاعتراف بذنبه وخططه الإرهابية. لكن الجار بيتار أراد أن يقول وداعا ويسلم مفتاح الدار الموجرة والسفر في اليوم التالي الى مدينة نيويوك ، ويسأل الزوجة دانيكا لماذا يستمر إيليا في مراقبته. في تلك اللحظة ، اقتحم إيليا ودجورا المنزل وربطوه بكرسي وبدأوا في صفعه ، مطالبين بالاعتراف بكل شيء لهم. يخبرهم أنهم واهمون ، لكنهم لا يصدقونه. يغادر دجورا المنزل لفترة وجيزة ليذهب لإحضار الأستاذ الذي "اعترف بكل شيء" تحت الضرب ، ويواصل إيليا نفسه استجواب بيتار. ولكن ، من الإثارة الكبيرة ، أصيب إيليا بنوبة قلبية ، لذلك اتصل بيتار بسيارة إسعاف وغادر المنزل مقيدا بكرسي للحاق برحلة إلى نيويورك. إيليا ، الذي يتألم ، يخبر زوجة أخيه دجورا على الهاتف "يجب أن يوقف دجورا جميع الرحلات الجوية في المطار" ، وفي مشهد النهاية الذي يحمل الكثير من الدلالات لخاتمة لمثل هؤلاء من البشر ، حين يخرج أيليا كي يلحق بضحيته بيتار زاحفاً على أربع في الشارع مثل الكلب وبجانبه كلبه .

ينتمي الفيلم اليوغسلافي» جاسوس البلقان» للمخرج دوسان كوفاسيفتش إلى نمط الكوميديا السياسية التي تمتد جذورها من السينما الكوميدية السياسية الإيطالية فترة ستينيات القرن الماضي . . ناقد كبير لشخصية استبدادية ترجمت إلى جنون العظمة الفكاهة السوداء لرجل صغير - حولته الاجهزة المخابراتية (عبد أيديولوجي). يعمل الفيلم على العديد من المستويات المختلفة ويكاد يكون من المستحيل الحكم عليه بعد مشاهدته مرة واحدة فقط . يعمل الفيلم في المقام الأول كتعليق اجتماعي واستعارة لجنون العظمة الوطني تجاه أي شيء أجنبي ، ويستخدم الفيلم شخصيته الرئيسية إيليا كفوروفيتش كوسيلة لتنفيذ مواقف فكاهية وخطيرة نحو نهاية مريرة . لقد صاغ باتا ستويكوفيتش العظيم (في أحد أفضل أدواره هنا) ببراعة صورة لرجل تقوده أوهامه تدريجيا من حالة من الارتباك الكوميدي إلى تصعيد مأساوي للعنف محمل بنظريات المؤامرة. مثل عمل دوسان كوفاسيفيتش دائما. إنه يسخر من النظام وفي الوقت نفسه يعمل مع مواضيع جادة حقا ويطرح أسئلة جادة. تتحدث دراما دوسان كوفاسيفيتش هذه عن جنون العظمة السياسي لإيليا كفوروفيتش ، ستاليني السابق ، الرجل الذي أمضى عامين في السجن بسبب نشاطه. تنتقل إحدى الشخصيات الرئيسية بيتار ياكوفليفيتش (بورا تودوروفيتش) إلى منزل إيليا (باتا ستويكوفيتش) بعد فترة طويلة من العمل في فرنسا. يتلقى إيليا مكالمة من الشرطة ويتحدث مع مفتش حول ياكوفليفيتش. منذ تلك اللحظة ، اقتنع إيليا بأن ياكوفلييفيتش جاسوس وعميل للقوى الإمبريالية وعدوا للدولة وجاسوسا أجنبيا. الفيلم هو قطعة حقيقية من الفن من التصوير السينمائي اليوغوسلافي من فترة ثمانينيات القرن الماضي . يتحدث أيضا عن علاقات الشيوعيين المتشددين والرأسماليين في يوغوسلافيا الاشتراكية الليبرالية. يتكون طاقم الممثلين من بعض أفضل الممثلين الصرب في كل العصور: دانيلو "باتا" ستويكوفيتش ، بورا تودوروفيتش ، ميرا بانياك ، سونيا سافيتش ، باتا زيفوجينوفيتش ، ميكا توميتش والأسطورة الكرواتية زفونكو ليبيتيتش في دور دجورو كفوروفيتش. لديها حوار رائع وشخصيات رائعة وطاقم العمل رائع . ‏‏‏إنها كوميديا رائعة ، وقطعة جيدة من السخرية التي تكشف نفاق النظام " الشمولي" في يوغوسلافيا ، الذي سجن وأساءت معاملة الأشخاص الذين آمنوا حقا بما اعتاد الحزب أن يمثله .‏

‏ الفيلم أيضاً تحذير من جنون التشدد الأيدولوجي حد التطرف . ‏ يصور هذا الفيلم تصرفات رجل مصاب باضطراب الشخصية بجنون العظمة. من الناحية "النفسية" ، الفيلم ممتاز! لن أتفاجأ إذا استشار دوسان كوفاسيفيتش بعض الأطباء النفسيين أثناء كتابة سيناريو هذا الفيلم. ومع ذلك ، يجب أن أشير إلى شيء واحد - هذا الاضطراب بالذات لا علاقة له بالأيديولوجية! ‏ . يتم تمرير فلسفة كامو في العبثية من خلال سياق الأيديولوجية المتسلطة . هذه صورة لكيفية تأثير تيتو على الناس. تسببت علاقات تيتو في انقسام في الأمة و وصعود الدولة البوليسية . أصبح الكثيرون مصابين بجنون العظمة. لا عجب أن هذا الفيلم خرج بعد سنوات قليلة من وفاة تيتو عندما اختفت قوته. سقط الرجل االبسيط (أيليا) في جنون نظرية المؤامرة من قبل القوى العظمى و التجسس على الدول الأاشتراكية . وحده ضد الجميع يحاول الكشف عن المؤامرة على مستوى عال . يصور هذا الفيلم بدقة جنون العظمة لدى الدول والأشخاص أتجاه الاجانب ومن يعيش في الغرب الرأسمالي. ، وخاصة الخوف من أولئك الذين يأتون من دول أجنبية إلى يوغوسلافيا. تم تصوير ذلك بصدق شديد ، وبشكل ممتع للغاية أيضا. إنه أيضا فيلم رائع عندما يتعلق الأمر ‏‏بالستالينية والاشتراكية‏‏.‏ الحوار كان استثنائي للغاية ، والسيناريو ممتاز طوال الوقت والفكاهة مثالية.‏‏


كاتب عراقي