الذات الشاعرة والآخر في فنيّة قصيدة - كِسَرٌ- للشاعر حسن مجيد*


مؤيد عليوي
2023 / 12 / 24 - 03:05     

تنبلج مشاعر الحزن في عتبة القصيدة الأولى:(كِسَرٌ) من صيغ المبالغة وقد جاءت هذ الصيغة على وزن(فِعَلٌ) ليدلّ على الحزن العميق في النفس نتيجة كَسَرٍ معنوي أو خذلان الشاعر من شخص يحبه أو يحبّها..فالعنوان ثابت وباقٍ في الذات الشاعرة، لأنه متصل بالاسمية التي تشير لها صيغة المبالغة فالاسم ثابت لايتغير مع مرور الزمن كما الفعل، ثم أن(كِسَرٌ) اسم نكرة دلالة على شيوع الحزن في جميع أركان تلك الذات الشاعرة وفكرها، لتأتي ولادة القصيدة بيسرٍ وسهولة دفقة واحدة قصيرة، لتعبر عن حدة إنفعال الشاعر حسن مجيد، إذ قصيدة(كِسَرٌ) قصيرة جدا مبينة من(34) شطرا في حين قصيدة التفعلية السيّابيّة تأتي طويلة لطول لتعدد الافكار وطول نفَس الشاعرليعبر عن مشاعره وذاته الشاعرة، إلا أن قصيدة(كِسَرٌ) جاءت بفكرة واحدة وهي المعاناة الحزينة بسبب الآخر، كما جاء ايقاع القصيدة مبنيا على تفعلية (فعولن) وهو من الاوزان السريعة أيضا، مما يوضح حدة الانفعال النفسي للذات الشاعرة كذلك تعدد القافية بين (الباء والتاء والقاف والراء والهمزة والعين والنون) كل هذه الاصوات وحروفها قوافيا في قصيدة قصيرة، ليعطي هذا التنوع فيها تعبيرا عن قلق الذات الشاعرة في تنقلها من قافية الى آخرى، كما أن الشطر الواحد مكوّناً من تفعليتين أو ثلاث في أغلبه بما يؤكد حدة الانفعال النفسي ودفقة المشاعر للبوح الشعري بسرعة مثلما انسان يتكلم بسرعةٍ جملا قصيرة ليعبّر عن داخله، وما هذا البناء الفني لقصيدة التفعلية إلا بسبب الحزن العميق من الآخر وموفقه من الذات الشاعرة، وفيما تقدم يكون الشاعر حسن مجيد قد حقق صدق التعبير الفني عما في داخله وفكرته.
ففي المقطع الآخير الذي يبدأ من (وفيها سأنثرْ/على خاطرٍ..مرْ/ مِن الحبِّ أن لاينال الضياء/ بنزفِ الشموعْ) وينتهي بـ(وحين أرتقى سُلّمَ الانبياءْ/ نفته الجموعْ/فدينُ القلوبْ/مساءً/سيهجرْ) هنا يتجلى الحزن العميق واللجوء الى الله وحده فالذات الشاعرة تختار الدموع والبكاء تعبيرا عن حزنها وقد أنسن الشاعر ذلك البكاء فجعل له ركوعا وهو من مستلزمات الصلاة ويلحقه سجودٌ طبعا ودعاء وكله من الدموع لله:(فلله وحيٌ/يسمى البكاءْ/أطال الركوعْ/وحين أرتقى سُلّمَ الانبياءْ/..) فالذات الشاعرة هي التي ارتقت الى مصافي الانبياء وليس الدموع أو البكاء ثم ينفي المجتمع ذلك النقاء في المساء لذا نجد المقطع الاول يبدأ : (معي سوف أخذ لون الغروبْ/ فحزني أحمرْ) وما اللون الاحمر إلا لون الدموع التي بها أرتقت الذات الشاعرة الى مصافي الانبياء فلم يكن البكاء عاديا بل كان دما، وينتهي المقطع الأول بـ(ويشتاق كفَّ الصخور الغريقْ/ وما أن يؤوبْ/ يعود ليثأرْ!) أما الشطر الثاني من المقطع الأول:(وأفشي لدى النهرِ سرَّ الجنوبْ/ لئلا يُعكّرْ) يكشف عدم البكاء عند النهر بل يكون الكلام تنفيسا عن الكبت التي تعانيه الذات الشاعرة بدلا عن البكاء، ولكن لماذا لا تبكي تلك الذات عند النهر؟ الجواب لكي لايتعكر ماء النهر بلون الدم بدلا من الدموع. وهذا فعل الحكي للذات(وأفشي لدى النهرِ...) يتصل بالمقطع الثاني برمته حيث يبدأبـ(أسلي الحكايا بما قيل عنّي/وما قدْ حكيتْ/وتثملني أدمُعي/ فأغني/بأصداءبيتْ/..)وينتهي بـ(واقلب للروح ظهرالمجنِّ/ومنها ابتديتْ/ وفيها سأنثرْ).ُوبعده يأتي المقطع الثالث والأخير من القصيدة حيث الشطر:(وفيها سأنثرْ/..) يمثل همزة وصل بين المقطع الثاني والمقطع الثالث.
ثم نعود الى المقطع الاول وتوافر قافية (الباء والراء والقاف) ولها مخرج صوتي واحد وهو الفم وتجويفه وهي تناسب المدلول الشعري للمقطع الاول حيث الذات الشاعرة تذهب عند النهر لكي تفضفض ما في داخلها كما تقدم فأول قافية هي قافية الباء وهو صوت شفاهي المخرج ثم بعده الراء وهو من حركة اللسان المتكررة ثم القاف من اقصى اللسان وتجويف الفم فلو نظرنا الى تسلسل القافية في هذا المقطع نجد الرغبة في الكلام لغرض البوح الى النهر،هي الفكرة الاولى في المقطع ولكن ماهو بعض الكلام من المقطع الأول يذكر الشاعر حسن مجيد انها ذكريات متصلة بالمستقبل (كلانا تعود أن يستفيقْ/ على باب دار) ثم ينتهي المقطع الاول بدراما الثأر من الذات الشاعرة بعد أن تنقذ الآخر ويضع الشاعرعلامة تعجب من الاخر (ويشتاق كفَّ الصخور الغريقْ/ وما أن يؤوبْ/ يعود ليثأرْ! ) حيث الفاعل هو (الغريقْ) وقد صارت العلامة سكونا بدل الضمة لأن الشاعر أراد بها قطع الكلام عند الاخر بمعنى لا تتكلم والكلام للذات الشاعرة فيه فقط، فهو من جهة وحده يتكلم عند النهر ومن جهة ثانية في داخله لا يريد الآخر ان يتكلم معه بل يريد للذات الشاعرة ان تتكلم تعبر عن حزنها العميق، لذا اختار القافية الساكنة للقصيدة برمتها مع تنوع القافية في المقطع الاول نجد ملازمة صوت المد( الالف والواو والياء) وهي تدل على التطريب الحزين بما يناسب مدلول المقطع الاول وثرثرة الذات الشاعرة عند النهر، ثم نكتشف أن القافية في المقطع الثاني تتغير كليا عما سبق فتكون من الاصوات (النون والتاء) ومخرجهما من تجويف الفم أيضا مع ياء المتكلم بما يناسب مدلول المقطع الثاني وسردية الحكي فيه، حيث تتكلم الذات الشاعرة عن نفسها وهمومها دون ذكر للآخر.وفي المقطع الثالث يعود الراء قافية في كلمة البداية منه وفي كلمة نهاية المقطع (سأنثر، سيهجرْ) وبينمها قافية (العين والهمزة) ومخرجهما الحلق ابعد من الفم باتجاه البلعوم ، فالعين مخرجه وسط الحلق والهمزة مخرجها اقصى الحلق ولهذا دلالة الحزن العميق حيث ينبع من عمق النفْس وهنا يتضح معنى البكاء دما بما يتصل بالمقطع الاول (حزني احمرْ) حيث يوضحّه في المقطع الثالث(فلله وحيٌ/ يسمى البكاءْ/أطال الركوع/..)،وهذا يتصل ويتسق مع مدلول المقطع الثالث برمته. .....................................................................................................
*قصيدة "كِسَرُ"، الشاعر حسن مجيد، مجلة " السنبلة " في الكوفة، عدد 66 السنة الثانية عشرة، سنة 2017، ص 40 .
*ديوان "أصفق مثل طائر مهاجر"، حسن مجيد، طبعة إتحاد أدباء وكتاب النجف الاشرف،سنة 2021، ص 33 بعنوان "بيوت على القارعة " .