الاقتراب من الحقيقة


اسماعيل شاكر الرفاعي
2023 / 10 / 29 - 09:45     

والحقيقة التي اقترب منها فرضتها حرب المزاح التاريخي الثقيل لتحرير الارض بين حماس واسرائيل : اقول حرب مزاح ، لانها اولاً : حروب ثارات متبادلة تتكرر منذ ربع قرن ، وفي حرب الثارات يتم التركيز على ما تحدثه من خراب شامل ، وما تسفكه من دماء ، ولانها ثانياً : بلا اهداف ، فلا حماس قادرة على تنفيذ شعارها الخرافي بتحرير كامل التراب الفلسطيني ، ولا دولة الصهيونية العالمية قادرة على الاستيلاء على ارض فلسطين من " الماء الى الماء " كما تقول مدونتها الدينية والسباسية ...

امريكا في حرب الثأر هذه ، لم تنحز الى اسرائيل بل تطابقت معها فمنحنا ذلك رؤية التناقض الكبير في تطبيق مبدأ : حقوق الانسان ، بين سياستها الداخلية وسياستها الخارجية . داخلياً يشعر المرء الذي عاش في امريكا لسنين طويلة ، بأن مبدأ العدالة ماثل بقوة في آليات اشتغال مؤسسات دولة امريكا بسبب من استرشادها بمفهوم حقوق الانسان ( ومفهوم المواطنة ) .
اما سياسة امربكا الخارجية فهي مرآة كبيرة لرؤية : الكيفية التي يتم فيها استغلال المباديء الانسانية الكبرى مثل : مبدأ حقوق الانسان العظيم لصالح مصالح امريكا وامنها القومي ...


وبدل ان نسعى الى تبيان الاسباب التي تجعل امريكا تقع في هذا التناقض القاتل ، تعود بنا اطروحات الاسلاميين والقوميين الى تصورات اسلافهم عن الطبائع البشرية الثابتة ( الخبيثة والنجسة والضالة لدى اليهود والمسيحيين وعموم الغرب ) و (طباع العرب وعموم المشرقيين السمحة الروحانية الرحيمة ) . ووفق هذا التصور الاسلاقومچي الكئيب : سيستمر العداء العنصري بين الشرق والغرب بناء على طبيعتيهما المختلفة الثابتة ، فهو عداء ازلي مكتوب في اللوح المحفوظ . في حين ان الرأي الواقعي يرى بان هذا العداء له اسباب ارضية جرت في التاربخ البشري : من استغلال رأسمالي مستمر منذ ثلاثة قرون للعالم ومنه العرب والمسلمين ، وقيام الرأسمالية بتأييد الحركة الصهيونية في سعيها الى الاستعمار الاستيطاني في فلسطين ...


نشير الى ذلك لكي نلفت الانتباه الى ان عامل الثبات في التاريخ المتمثل بالمصالح الرأسمالية : اقوى بما لا يقاس من عالم الثبات المتمثل بالطباع البشرية في عرف مناهج الاسلاميين والقوميين ، ذلك ان الاحداث الكبرى التي حدثت في بحر القرون الثلاثة المنصرمة : هي التي شكلت الانسان الحديث فكرياً ونفسياً واخلاقياً ، ولم تشكلها طباع بشرية ثابتة ، فما يحدث على الارض ، وفي التاريخ هو الذي يغير رؤانا ويمنحنا رؤية جديدة تتضمن دائماً : ما يجب ان تكون عليه حياتنا ، وهذا هو المضمون الاساسي للتعليم الحديث والمحفز على التغيبر ، وليس شرح ما كانت عليه حياتنا ومحاكاتها التي تسترشد بها مناهج التعليم الديني ...


ساتطرق الى ذكر اهم الاحداث التي مرت على البشرية في بحر القرون الثلاثة المنصرمة ، واعادت تشكيل تصوراتنا وعواطفنا ، اولاها : الثورات السياسية التي رفعت من كرامة الانسان الاوربي ، وثانيها : الثورة الصناعية التي رفعت من قوته وقدرته ، ومن مستوى معيشته الى مديات لم يحلم بعيشها : لا فلاسفة اليونان ، ولا انبياء بني اسرائيل ، ولا حتى هارون الرشيد على عظمة املاكه وامتدادها عبر قارات . هذان العاملان جعلا من الانسان الاوربي : سيّد الكون ، ولم يكن كذلك قبل بضعة قرون . فلقد كان المقاتل المشرقي يقابله وبناجزه في الحروب الصليببية ويهزمه ، صنعته سيداً علينا احداث ، وما زال هو السيد الآمر الذي بيده عصب اقتصادنا وبيده : ان يشبعنا ويجيعنا ، يميتنا ويحيينا ...


الوعي التاربخي مطلوب ، الاحساس بما يتخلق داخل هذا التاريخ من ظواهر مطلوب ، الشعور العميق باننا اولاد مرحة في التاربخ هي المرحلة الرأسمالية مطلوب وضىروري كي نعي كيف نبصر الاشياء كما هي ، واين نضع اقدامنا . تحليل علاقتنا بالرأسمالية هي الخطوة الاولى : لاننا سنفهم بعد التحليل بان التفاوت هو القانون الاساسي الذي يقوم عليها الانتاج الرأسمالي : بدون انتاج التفاوت السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لن يستمر الانتاج الرأسمالي ، ولن تستمر الرأسمالية نفسها بالوجود . وعليه فان النظام الرأسمالي الذي ينتج التفاوت هو الذي يجبر امريكا على الانشطار في سياستها الى : امريكا حقوق الانسان ، والى امريكا غير عاملة بمبدأ حقوق الانسان ، وتفضل عليه حصولها على مواد خام واسواق ومناطق نفوذ ، ومن يرتبط بها برباط ( التقوى ) هذا يصبح الصديق رقم واحد ، وتعامله معاملة تفضيلية ( الافضلية احد قوانين امربكا في علاقتها الدولية ، وكان تطبيقها على الصين
هو احد عوامل ارتفاع شأن الصين اقتصادياً برعاية خاصة من " هنري كيسنجر " مهندس السياسة الخارجية الامريكية وقتها ) ...


حين رأيتُ مشهد الاطفال الهاربين زحوفاً من القصف والانقاض ودوي الانفجارات ، ايقنتُ بان امريكا ومن ورائها اوربا اعجز من ان تطبق هذا المبدأ الانساني العظيم ، لا لان شعوبها بلا رحمة : كما يقول منطق البداوة المنبعث على لسان القومچيين والاسلاميين بل لان اانظام الاقصادي الرأسمالي : نظام البحث عن المزيد من الارباح ، ونظام انتاج التفاوت هو الذي بلا رحمة . فمن يبحث عن الرحمة والمحبة والاخوة والانسانية فلن يجدها مدفونة في قلوب الناس بل معلنة على شكل قوانين وشرائع وآليات عمل في جميع دول العالم ...