الرابع عشر من تموز .. قراءات خاطئة


جعفر المظفر
2023 / 7 / 21 - 18:52     

لو إنني كتبت هذه الموضوعة قبل عدة عقود من الزمن أو على نحوه لكان ممكناً قطعاً صياغة عنوان الموضوعة بالشكل التالي : الرابع عشر من تموز ثورة كانت أم إنقلاب.
واقع الأمر أن الإختلاف كان يجري بين :
1-الوقوف حصراً أمام الإسلوب التي نفذت به كون القوة الأساسية التي نفذته هي الجيش والتي دفعت بأصحاب التعريف المهني أو الحرفي إلى إعتبارها ليس أكثر من انقلاب عسكري تأسيساً على طريقة واسلوب التنفيذ.
2-كان ثورة بكل المقاييس نتيجة لما أحدثته من متغيرات جذرية أصابت العمق السياسي و الثقافي والإقتصادي.
وحتى أن أصحاب الثورة يعتقدون أن الجيش لم يكن ليتحرك لولا أن عملية الصدام التي كانت قائمة وآخذة بالتصاعد بين ما سموه بالقوى الشعبية والجماهيرية الرافضة للنظام الملكي من جهة والنظام الملكي على الجهة الأخرى قد وصلت إلى الحد الذي حتمت التغيير وأوجبته.
وتكفل العودة إلى الساعة الأولى التي تلت قراءة البيان الأول لتبين لنا صورة التأييد الجماهيري الساحق الذي حظي به الحدث, ولمن عاش في تلك الأيام يتذكر أن البيوت خلت, لاسبوعبن على الأقل, من ساكنيها وأن الناس سكنت الشوارع فرحةً بذلك اليوم.
وفي كل الأحوال لا يمكن الوقف أمام ذلك التأييد الجماهيري دون الإعتقاد بأنه لم يكن هكذا حركة فوضوية أو غوغائية أو منفلتة وإنما هو نتاج لمشاهد قد سبقته. وسوف يكفل ذلك لأصحاب نظرية الثورة التأكيد على أنها كانت ثورة حقيقية بزعمهم أن ما قام به الجيش هو في الحقيقة تنفيذ لإرادة الحركة الجماهيرية الرافضة للنظام الملكي تأسيساً على خصومة سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة وحتى جذرية.
لا بل أن الجيش لم يكن قد سكت عن النظام.
فالتحرك التموزي كانت قد سبقته عدة انقلابات عسكرية أهمها إنقلاب او حركة رشيد علي الكيلاني , ثورة العقداء الأربعة (المربع الذهبي) والحرب ضد قوات الإحتلال البريطاني للعراق.
والمؤسسة العسكرية في العراق, كما في مثيلاته من دول العالم الثالث, كانت أكبر المؤسسات وأن الأحداث السياسية الوطنية والإقليمية كانت جعلت منه قوة تغيير أساسية, وكانت بينه وبين النظام خصومة واضحة لشعور الكثيرين من ضباطه بأنه كمؤسسة وطنية قد أهين : طريقة القضاء على ثوار مايس, إضافة إلى الإهانة التي لحقت به بعد هزيمة الجيوش العربية في فلسطين, وهي هزيمة لم تكن الأنظمة العربية, ومنها النظام الملكي العراقي بعيدة عن المشاركة فيها نتيجة لتبعيتها للإنكليز خاصة, فالجيش هنا لم يكن وسيلة تنفيذ لإرادة جماهيرية كانت قد تصاعدت مطالبة بالتغيير وإنما كان في الأصل شريكاً في الرفض, أما التيار القومي الأكثر تأثيراً فقد تراكم رفضه للنظام وتصاعد بعد دور النظام الملكي الواضح في مساندة العدوان الثلاثي ضد مصر, حيث التباين بين القوى قد صار واضحاً وضاغطاً..
إذن كان الحوار يجري بهذا الإتجاه في ساحة كان السؤال المركزي فيها : هل كان الحدث ثورة أم مجرد إنقلاب, ولقد كان ذلك قبل عقود.
بعدها ثمة متغيرات جذرية ومهمة ومؤثرة قد دخلت على الساحة العراقية لتغير من طبيعة السؤال نفسه :
(1)-هيمنة العسكر والإختلافات والمعارك التي حصلت بين التيار الوطني بقيادة عبدالكريم قاسم يسانده الشيوعيون من جهة والتيار القومي وعلى رأسه عبدالسلام عارف على الجهة الأخرى. ذلك قد جعل الساحة العراقية ساحة معارك دموية وحول الحياة السياسية إلى ساحة حرب بدلاُ من أن تكون ساحة بناء.
( وليست هذه محاولة لتنزيه التبار القومي عما حصل في الساحة العراقية لكنها بكل تأكيد دعوة للوقوف أمام عملية التوحش التي قادها الشيوعيون ضد التيار القومي وإرتكابهم لعمليات السحل المعروفة التي انتشرت في عموم الساحة العراقية على الرغم من أن التيار القومي في رأيي هو الذي بدأ عملية الصراع : الوحدة الفورية)

(2) سقوط حكم الزعيم قاسم على يد البعثيين والمجازر الدموية التي أرتكبت بحق التيار الوطني والشيوعي
(3) سقوط نظام الرئيس المسالم عبدالرحمن عارف على يد البعثيين في السابع عشر من تموز رغم إعتقادي أن المرحلة السبعينية كانت أفضل مراحل العراق نسبياً.
(4) هيمنة صدام حسين الذي دخل العراق في ظله إلى مرحلته المهلكة : ثلاثة حروب دامية وحصار مهلك بالإضافة إلى القمع الذي تعرض له الشعب العراقي برمته على يد نظام صدام حسين وعائلته وقبيلته. ولن أتجاهل الدور الذي لعبته الخمينية في إيران والموالون لها الذين تكفلوا باشعال الجبهة العراقية الداخلية
(5) الإحتلال الأمريكي للعراق وتأسيس نظام المحاصصة الطائفية الذي لا يمكن تصور الفساد الذي صار عليه والتخلف الذي وصل إليه إلا في الخيال وقد صحبته حروب داخلية لعب الإرهاب فيها الدور المتميز.
لقد خسر العراق كثيراً وعلى كل الأصعدة. هذه الخسائر, النكبات. التردي قد غيرت جوهريا من تركيبة السؤال, فالناس لم تعد تختلف حول ما إذا كان ذلك الحدث هو ثورة أم إنقلاب وإنما صار هناك تيار عريض يعتقد, نتيجة لقراءة مقارناتية أن الرابع عشر من تموز هو سبب المصائب كلها ثم يجزمون من خلال قراءة تعتمد على نظرية الـ (لو) وقد أسميتها بالقراءة (اللوئية) أن النظام الملكي لو كان ترك له أن يستمر لتطور بأشكال ومستويات كان ممكناً أن تقفز بالعراق إلى مصاف الدول المتقدمة, من العالم الثالث إلى العالم الثاني, ولتجنب العراق كل هذه المآسي التي لحقت به.
وأجزم أن عدد العراقيين الذي كان يتحرك في مساحة (تموز هل كانت ثورة أم إنقلاب قد تناقص كثيراً لصالح تيار عريض جداً بات يعتقد أن حدث الرابع عشر من تموز هو الذي فتح على العراق بوابات الجحيم).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع