أعِيدٌ للمرأة وقد ضَيَّقَت السماءُ على النساء؟


ليندا كبرييل
2023 / 3 / 8 - 12:47     

لم أعِ أن للمرأة عيداً في أيامي المدرسيَّة، ولا حتى في أيامي الجامعيَّة حيث يُفتَرَض أن تكون الذهنية قد تفتّحتْ، وبدأ العقل يلتفِتُ إلى المعارك الثقافية والاجتماعية التي تخوضها النساء الغربيات، من أجل المزيد من الحقوق.
وكان من المفارقات الساخرة (التي لم أتنبَّه إلى سخافتها إلا في وقت متأخِّر) أن نَتَنادَى نحن طلاب الجامعة لِإحياء ذكرى قصْف هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة الذرية، أو الاجتماع في مَقْصَف الكُلِّيّة لِل (هَوْبَرة = كلمة فصيحة) في ذكرى إعلان تحرير العبيد!
أرجو ألا يذهب الظنُّ بالقارئ الكريم، أن هذه النشاطات الطلابية مُكَرَّسة للتضامن الإنساني والدعوة إلى منْعِ الأسلحة الذرية، أو للاحتجاج على التمييز العنصري الذي يتعرَّض له الأميركيون السود.. أبداً .. كل القصة محاضرات هزليَّة، تبدأ بالبَسْمَلة، ثم دقائق معدودة للإشارة إلى المناسبة، وبعدها يبدأ مَوّال صبِّ اللعنات على سنسفيل أجداد أميركا الامبريالية، حاضنة الصهيونية وربيبتها المدلَّلة اسرائيل، يتخلَّلُ المحاضرة تَحايا نارِيَّة للحزب القائد، وترْديد أقوال الرئيس، أو إلقاء أبيات شعرية عن ديننا الإنساني العالمي!

تلوح ذكرى غائمة في ذهني، فترة المرحلة الثانوية، عندما زار مدرستنا وفدٌ من السيدات الصينيات لتنشيط الاحتفال بعيد المرأة، ونحن لم نسمع بهذه المناسبة أصلاً، فخُيِّلَ إلينا أن المقصود : عيد الأم .. وأخذْنَ يُجْرين مُقابلات مع الطالبات بلغة عربية مُتَعَثِّرة، ولكن مفهومة.
تجمَّعت الطالبات حول ذوات العيون الناعسة، وإحداهنَّ تسأل زميلتنا " وداد " ( وهي تقصد بالتأكيد عيد المرأة) : ماذا يُمثِّل لك 8 آذار؟
ردَّتْ وداد بلهجةٍ حماسيَّة كمنْ يُسمِّع درسه: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.
ضاقتْ عينا الصينيّة في ابتسامة ثناء، ثم سألتْها: وما أهدافكِ في الحياة ؟ فكرَّرتْ وداد الشعار: أمة عربية ...... فلكزْتُها في كتفها أصحّح لها: الأهداف وليس الشعار. ضحكتْ وداد خجلاً وضربتْ قَدَمَها بالأرض قائلة: لا يا ربي~ أهدافنا وحدة حرية اشتراكية ، أمة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج !
وضاعَتْ عينا السيدة الصينية في ضحكةٍ ماكرة.

كان لا بدّ أن يكون هناك حَدَثٌ عظيم يَطْغَى على مناسبة يوم المرأة العالمي، فيزحزِح مكانتها عن الأذهان، لِيَخْفُت وقْعُها حتى تكاد تزول من روزنامة الأحداث، ولتصبح الكتابة عن المرأة كمَنْ يكتب فوق صفحة ماء.
شاء القدر أن نحتفل في بلدنا وفي نفس اليوم، بذكرى سياسية تفوّقتْ على كلِّ مشهد وطني آخر ؛ إنها ( ثورة الثامن من آذار ) ؛ ليست ثورة النساء ضد الظلم والامْتِهان، فما أبْعد المرأة العربية عن الانتفاض احتجاجاً على اسْتِضْعافِها وهَضْم حقوقِها.
( ثورة الثامن من آذار ) : الاسم الرسمي للحركة التي قادها حزب البعث العربي السوري عام 1963، والتي تتواصل الاحتفالات والتذكير بها طوال السنة.
ذكرى سنَسْتَحْضِرها في كل مناسبة وعيد، حتى لو كان عيد الأم أو عيد الشجرة ؛ فماذا يعني حضور مناسبة عيد الأم أو الشجرة قِياساً إلى ذكرى ثورة مصيرية مجيدة، كانت نقطةَ تحوُّلٍ كبيرة في نضال شعبنا؟
احتفال رومانتيكي عالماشي بالأمهات ربّات الخُدور المُخَدَّرات، وبالشجر الذي نَشِفَ من قلة المطر، وكتَّر خير الله!

أعود إلى سياق الحديث عن 8 آذار؛ يوم المرأة الذي حَلَّ مع ذكرى ثورة الحزب ثم انْحَلَّ و تَحَلَّلَ . غاب عن ذاكرتنا بعد أن اسْتَعْدَلوا المرأة وسلَّموا قِيادَها لمَوْلاها، الأبعد نظراً والأوسع أفقاً والأرجح عقلاً وديناً، بِحُكْمِ وظيفة القِوامة هِبة الله لِلرَّجل.

من الآن .. لا تسألوني عن إنجازات 8 آذار التي استدعَتْ وصفها ب ( الثورة ) ! كل ما أعرفه مما يردِّدونه علينا ونردِّده معهم أنها ثورة، وقد أعادتْ الأمور إلى نصابها الصحيح.
أية أمور ؟ وأي نصاب أعْوَج كان ؟ وأية وحدة مع مصر أو أي انفصال وأي خائن وأي مناضل وأي عميل وأي جاسوس.... لا تسألْ .. كل ما علينا أن نبلع عقلنا، ونطيل لساننا لاستخدامه في الهتاف أثناء المسيرات الشعبية.
هذا ما يعنيه لنا 8 آذار، فقط لا غير.
اشكروا ربكم أنه لا يعني لنا عيد المرأة، وإلا لبدأنا بالأسطوانة المشروخة عن حقوق المرأة، التي نكرِّرها من سنين بلا جدوى ؛ لا مساس بالثوابت، وما نالته المرأة العربية من تكريم لم تَحْظَ به أختها الغربية، والمرأة نصف المجتمع، وهي الأم والأخت وشريكة الرجل في مسؤوليات الحياة واللي ما عجبو يروح يبلِّط البحر.

نعود للثورة.
يا للسعادة.. كان عهداً ذهبياً ؛ عطلة من الوظائف المدرسية والوظائف الحكومية ! وبلا همّ الدراسة، ما دمتَ تنجح وتدخل الكلية المرغوبة بالواسطة، وبلا الارتباك في كومة المعاملات الرسمية المتراكِمة من سنوات، ما دام معاشك الشهري يصلك بالتمام.

كنا نتهيّأ للاحتفالات الصاخبة بذكرى ثورة البعث قبل حلول المناسبة بأسابيع، وبعدها بأسابيع .. مع إشارات خجولة إلى يوم المرأة العالمي . وتتواصل الأفراح، بالثورة لا بالمرأة، تلفزيونياً وإذاعياً وموسيقياً دون انقطاع حتى نيسان – أبريل ؛ ففيه سنأكل الكاتوه مرتين : في الهابي بيرث داي، عيدَيْ ميلادَيْ الحزب والوطن. الأول في السابع من نيسان، والثاني في السابع عشر منه.

وتستمرُّ البهجة بثورة الثامن من آذار مع قدوم أيار ؛ حيث يحضُرُنا عيد العمال وذكرى شهداء 6 آيار . ورغم أنهما مناسبتان جادَّتان جداً، لكننا نحن الطلاب والموظفين، نستغلّهما للعطلة وأكْل الكاتوه، و خَلِّ المسيرات للعمال، الذي يخرجون متكاتفين متشابكين ضاحكين حتى يصلوا إلى الساحة الكبرى، حيث تبدأ الدبكة ومسرحية الهتاف للثورة والحزب.

طبعاً.. ليس من اللائق في ذكرى نكسة حزيران المريرة أن نواصِل أكْل الكاتوه، فالحزن قائم، وقد مات لنا منْ مات ~ من شباب أبرياء في خمسة أيام فقط ! إلا أن المواظبة على الإشادة بأفْضال الثورة، تقطع كل طريق على المشاعر الباكِية الشاكِية، وعلى كل شَجْوٍ وشَجَن.

في تموز- يوليو، تتوقَّف الاحتفالات ؛ مَنْ الفاضي الله يخلّيك ؟ الكل مُصَيِّفٌ .. من أكبر رأس إلى أصغر عقل، وتأجير الشاليهات من الشاطئ الأزرق الفرنسي إلى الشاطئ الأزرق اللاذقاني. أما الفقراء ؟ إيه .. وما بها المساحات الخضراء بين شوارع المدينة ؟ فَلْيَرْتموا فيها أو في حِضْنِ جبل قاسيون.

ثم .. راح الصيف وفرحاتو وإجا الجيش وقتلاتو. ولا بد من التَحَزُّم مع عيد قواتنا الباسلة في الأول من آب، وبعلمي نكون في الحديث عن أمجاد الجيش، تَرَى الحزب يسْحَبُ اللحافَ إلى جهته للإشادة بمناقب وإنجازات 8 آذار!

في أيلول نَسْتَعيد العقول ؛ فالتجْهيز للاحتفال بمناسبتين في تشرينَيْن متتاليين يحتاج إلى هزِّ الأكتاف، وسنأكل فيهما الكاتوه حتى التخمة : ذكرى النصْر في حرب تشرين التحريرية، والنصر في حركة تشرين التصحيحية.
الأولى ( عقبال بلادكم ) ذكرى الحرب التحريرية في 6 ت1، حرب العزَّة والكرامة واستعادة الثقة: فيها سَحَقْنا أسطورة المَنْفَخة الإسرائيلية، الكيان المغتصِب الذي صنعه " بلفور " الشرير سيء السمعة والصيت، وحَطَّمْنا أنف الغرب المتعجرِف، وكَسَّرْنا رأس الإمبريالية الجشعة.
وعلى الطريق قريباً جداً ستأتي ذكرى الحركة التصحيحية في 16 ت2 ( عقبال بلادكم وأولادكم وأحفادكم أن يشهدوا مثلها ).
أي يوم خالد في الزمن !
مَنْ له بِحِزْبٍ كَحِزبنا، حارس بوّابة التاريخ والذاكرة القومية، قائد ثورات مجيدة شكّلتْ مُنعطفاً جذرياً في التاريخ السوري ؟!

في ديسمبر- كانون : الكنْكنة، لا بد من الراحة وإرخاء العضلات استعداداً للرقص والفقش، و فَرْدِ الموائد العامِرة عَمَر الله أيامكم، احتفالاً بالأعياد السعيدة ورأس السنة الجديدة، التي تمتدُّ حتى آخر كانون الثاني ؛ يوم لك ويوم ل(ربك). سياسة واقعية!

أما البرنامج في شباط – فبراير، فيكفي أن تتذكَّروا الشهر الذي سيَليهِ وهو آذار لتعرفوا الجواب.

نحن بنات ونساء البلد جنديَّات الوطن، لا نسأل عن عيدٍ للمرأة وهذه الفذلكات الأجنبية.. عيد الأم وبزيادة علينا .. وعلامَ الطمع ؟ جعلوا لنا الجَنَّة بحالها تحت أقدامنا، فماذا نريد أكثر من هذا ؟ العدو على الأبواب، وجّهوا أنظاركم إليه وكَفَى.

الحياة من بدء الخليقة وإلى الآن سلسلة ثورات ؛ فكل جديد ظهر في الوجود كان تمرّداً على القديم، وتَحَدِّياً لواقع يدور في حلقة من الخواء. فوَجَّهَ الإنسان طبيعته القتالية إلى تحدّي الذات، ومُناوَأة سكون التقاليد، والتلهُّف أبداً إلى نصْبِ مشاعل المعرفة في مِعْراج طويل وشاق.

فما حاجة النساء العربيات الغارِقات في ثقافة التهميش إلى الثورات، أو الاحتفال بيوم المرأة العالمي؟
إن تفضيلهنَ الاقتعاد في منظومةٍ مقدَّسة اختزلتْ حضورَهُنَّ الأرضي والسماوي، يعني عدم الرغبة في تحدّي الزوايا المعتمة التي دُفِعْنَ إليها، ورَضِيْنَ بكامل قناعتِهنَّ التمسُّك بها.

سيكون عيداً للمرأة العربية يوم تَرْكُلُ الكرة بقدمها إلى المرمى، لا أن تكون الكرةَ التي تتقاذفها أقدام اللعّيبة الرجال.
يوم تطالب بالمفقود من الإنصاف السماوي، ستكون كما الفجر إذا اقتحمَ الظلام.
ويوم تتمرَّد على توقير الطلاسم وهَتْكِ حجاب الظلم، عندها فقط .. تكون قد بدأت بالطرْق على الجلمود بيد من حديد، واستغنتْ عن الذهب والحرير اللذَيْن طالما أقنعوها أنهما لا يليقان إلا بالحرائر، وقد سعتْ إلى التغيير بإرادتها هي لا بإرادة غيرها.
أما القانِعة بشعار ( عيد الأم وكفى )، فعندها الجنة بحالها تحت قدميها.. ولِمَ الطمع ؟ فقد ضَرَّ وما نفع.