القوقاز: من الحرب التي لا نهاية لها إلى الصراع بالوكالة


إدريس ولد القابلة
2022 / 12 / 1 - 05:50     

استؤنف الصراع القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان في "ناغورنو كاراباخ" (الجبلية) في سبتمبر 2022. ويصور هذا الصراع كصراع حياة أو موت بين مجموعتين عرقيتين في منطقة من القوقاز تتميز حدودها بوجود القوى الإمبريالية السابقة. تتابع روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة عن كثب هذه الحرب المستمرة منذ قرن بين المسيحيين الأرمن والأذربيجانيين المسلمين. خطر الاشتعال الخطير قائم.

إذا كانت حرب" كاراباخ" الثانية التي أطلقتها "أذربيجان" في 2020 قد وقعت في الأراضي المتنازع عليها ، فإن الحرب انتقلت في 13 و 14 سبتمبر 2022 إلى الأراضي السيادية لجمهورية "أرمينيا".

كان القادة "الأرمن" في "كاراباخ " في وهم، معتقدين بسذاجة الحرب الثانية ستنتهي كالأولى. لكن الحرب الثانية في 2020 التي قادتها "أذربيجان" بمساعدة تركيا قلبت الوضع وميزان القوى تمامًا.

بموجب اتفاقية وقف إطلاق النار الثلاثية التي توسطت فيها روسيا ، أُجبر "الأرمن" على التنازل عن 75 في المائة من الأراضي التي سيطروا عليها. منذ ذلك الحين حلت قوة فاصلة قوامها ألفي جندي روسي تقريبا وستنتهي مهمتهم في 2025. وبعد هذا التاريخ ، مازال مجهولا ، لأن "أذربيجان" تعتبر هذا الوجود الروسي بمثابة جيش احتلال.
فهناك متابعة الحرب بوسائل أخرى . فمنذ نوفمبر 2020 ، واصل جيش "باكو" - عاصمة "أذربيجان" - هجماته على الأرمن الذين مكتوا في "ناغورنو كاراباخ" التي تحولت إلى محمية روسية، ولكن أيضا ضد أرمينيا. لم تنته الحرب حيث تحاول "باكو" تكريس، ما حققته عسكريا، على السياسي. تطالب أذربيجان بإقامة "ممر" خارج الحدود الإقليمية في جنوب أرمينيا من شأنه أن يربط بين "أذربيجان" و"ناختشيفان" ، وهي نفسها مرتبطة بتركيا بشريط ضيق من الأرض يبلغ طوله 15 كيلومترًا.

ولا يزال يتعين على أرمينيا أن تقرر بين موقفين لا يلتقيان ولا يمكن التوفيق بينهما: من ناحية احترام وحدة أراضي أذربيجان ، ومن ناحية أخرى تقرير مصير "الأرمن".

من جانبها ، أوضحت "أذربيجان" أنه لن يكون هناك وضع أو أي حكم ذاتي للسكان "الأرمن" في جيب "كاراباخ". علما الاتحاد الأوروبي دعا "أرمينيا" "لخفض سقف مطالباتها" في ملف كاراباخ من أجل حماية دولتها التي تواجه تهديدًا وجوديًا. لأن القوات الأذربيجانية تمكنت من اتخاذ مواقع استراتيجية مفيدة تمنحها إمكانية احتلال جنوب أرمينيا في غضون ساعات قليلة ، والعاصمة الأرمينية ، في غضون أيام قليلة.

يبدو أن هناك عدة مستويات من الصراع. إذا كانت حرب كاراباخ الأولى قد ظهرت على شكل صراع إقليمي وإنهاء الاستعمار (ناغورنو كاراباخ تسعى إلى تحرير نفسها من نير أذربيجان والسوفييت) ، ولم يدخل الدين إلا في الخلفية فقط .

منذ 2020 ، أصبح الوضع أكثر تعقيدًا. بالإضافة إلى الصراع الأرمني - الأذربيجاني ، هناك صراعان بالوكالة ، بين الروس والأتراك وبين الإسرائيليين والإيرانيين.

ارتبطت إسرائيل وأذربيجان منذ أوائل القرن الحادي والعشرين بشراكة استراتيجية. ويُنظر إلى "أذربيجان" على أنها ساحة خلفية لإسرائيل في مواجهة إيران. تل أبيب ، التي لا تعترف بالإبادة الجماعية عام 1915 (1)، تستورد ثلث استهلاكها النفطي من باكو وتبيعها طائرات بدون طيار "هاروب - Harop "على وجه الخصوص ، وهو ما أحدث الفارق في الحرب في 2020. إن إسرائيل، في الواقع، هي أكبر مورد للأسلحة إلى "أذربيجان".
____________________
(1) - تشير الإبادة الجماعية للأرمن إلى الإبادة الجسدية للمسيحيين "الأرمن" في الإمبراطورية العثمانية بين ربيع 1915 وخريف عام 1916. عاش حوالي مليون ونصف أرمني في الإمبراطورية ، و 664 ألف على الأقل وربما ما يفوق مليون شخص لقوا حتفهم خلال هذه الإبادة الجماعية. يسمي الأرمن هذه الأحداث "ميدز ييغيرم" (الجريمة الكبرى) أو "أغيت" (الكارثة). و كان الهدف هو تعزيز هيمنة المسلمين الأتراك في شرق الأناضول من خلال القضاء على الأعداد الكبيرة من الأرمن الذين يعيشون هناك. كما تم اختطاف عشرات الآلاف من الأطفال الأرمن من عائلاتهم لإدخالهم في الإسلام.
_______________________

وفقًا لمعهد "ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" ، كانت حوالي 60 في المائة من واردات الدفاع الأذربيجانية خلال الفترة ما بين 2015-2019 من إسرائيل ، بينما ارتفع هذا الحجم في 2020 إلى ما يقرب من 70 في المائة. وفي مايو 2022 ، كشفت تقارير عن شراء أذربيجان بطاريات الدفاع الصاروخي (القبة الحديدية).

وتبنت تل أبيب خطة طوارئ تهدف إلى الترحيب باليهود الفارين من روسيا الذين يمرون عبر دول حدودية مثل فنلندا وأذربيجان أيضًا. كما فتحت إسرائيل مخيمات للاجئين في فنلندا وأذربيجان لليهود الروس في بداية أكتوبر 2022.وتتضمن هذه الخطة إنشاء مراكز إيواء انتقالية.

وفي أكتوبر الأخير ، جاء دور وزير الدفاع الإسرائيلي بـ " باكو" للتداول مع القادة الأذربيجانيين حول سبل تعزيز التعاون الاستراتيجي.

وخشية من الحصار، كانت إيران قد دعمت أرمينيا سياسياً خلال الحرب الأولى من 1991-1994 ، لكنها تراجعت في 2020. لا تخفي طهران مخاوفها ، لكنها تظل مشلولة. وأكبر ما تخشاه إيران أن تثير المواقع الأذربيجانية تثير بانتظام احتمال أن تعرض باكو مجالها الجوي للطائرات الإسرائيلية لدخول الأراضي الإيرانية أو إرسال وحدات خاصة إسرائيلية إلى إيران. عززت الحرب الأخيرة أذربيجان ، حيث لم يتخل قسم من الطبقة السياسية عن نزعة وحدوية معينة تجاه إيران ، حيث يوجد عدد كبير من السكان من أصل أذربيجاني.

ظلت إيران ترسل، من حين لآخر، تحذيرات إلى أذربيجان ، مكررة أن حدودها مع أرمينيا هي "خط أحمر". فمخاوف طهران جيوسياسية واقتصادية على حد سواء. وتنظر إلى مشروع ممر "زانجيزور" خارج الحدود، والذي يربط باكو بأنقرة ، وآسيا بأوروبا ، يشكل تهديدا خطيرا على إيران. سيخاطر هذا الممر أيضًا باستبدال خطوط أنابيب الغاز الإيرانية إلى "ناختشفان" بخطوط أنابيب غاز تعمل من أذربيجان وآسيا الوسطى ، مما يحرم إيران من دورها الحاسم في التجارة ونقل الطاقة في المنطقة.

في أعقاب العدوان العسكري الأذربيجاني على أرمينيا في 13 سبتمبر ، أجرت إيران تدريبات عسكرية قام بها الحرس الثوري بالقرب من حدودها مع البلدين لتأكيد موقفها بضرورة الحفاظ على حدودها المشتركة ومسالك التنقل مع أرمينيا. فإذا فقدت طهران حدودها مع أرمينيا ، فإن تجارة إيران مع أوروبا و"أوراسيا" – Eurasia - ستكون تحت رحمة طرق التجارة التركية والأذربيجانية. وهذا بدوره من شأنه أن يعزز النفوذ الاقتصادي والسياسي لأنقرة وباكو على حساب طهران ويعيد تنشيط "النزعة الوحدوية القومية التركية".
______________________
(2) - تغطي "أوراسيا" 13 دولة في المنطقة: ألبانيا وأرمينيا وأذربيجان والبوسنة والهرسك وجورجيا وكازاخستان وكوسوفو ومقدونيا الشمالية ومولدوفا والجبل الأسود وأوزبكستان وصربيا وتركيا.
_____________________

أما تصرفات موسكو فهي غير واضحة تماما. لكنها ليست مستعدة لمساعدة الأرمن باسم الدفاع عن مسيحيي الشرق. وتعود معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة بين روسيا وأرمينيا إلى 1997. وتلعب موسكو دور الحكم في النزاع ، فتتولى روسيا دورها كوسيط بدلاً من دعم حليفتها أرمينيا ، التي طلبت تدخل حلفائها من منظمة معاهدة الأمن الجماعي (3) (CSTO) التي أرسلت أخيرًا وفداً من المراقبين إلى أرمينيا.
______________________
(3) - منظمة معاهدة الأمن الجماعي - يشار إليها أيضًا باسم ميثاق طشقند - هي تحالف عسكري حكومي دولي في "أوراسيا" يضم دول ما بعد الاتحاد السوفيتي. تعود أصول المعاهدة إلى القوات السوفيتية المسلحة، والتي حلت محلها تدريجيًا القوات المسلحة المتحدة لكومنولث الدول المستقلة. وقعتها ست دول ، وهي روسيا، وأرمينيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، في مايو 1992. ثم وقعتها ثلاث دول أخرى، وهي أذربيجان، وبيلاروسيا، وجورجيا، في العام التالي ، ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 1994. وافقت ست دول من أصل تسع، جميعها باستثناء أذربيجان، وجورجيا، وأوزبكستان، بعد خمس سنوات على تجديد المعاهدة لمدة خمس سنوات أخرى، ووافقت الدول الست في 2002 على إنشاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي كتحالف عسكري.
________________________

لا ترغب روسيا في تنفير أذربيجان التي تشترك معها حدودا برية وتدعم مشاريعا في طرق اتصالات جديدة. كما أنها تمتلك 30 في المائة من شركة "Socar" الأذربيجانية العامة عبر شركتها "Lukoil". وقعت أذربيجان وروسيا اتفاقية في 18 فبراير 2022 تهدف إلى التحايل على العقوبات الغربية ضد روسيا ، والتي بموجبها تقدم باكو لها طريقًا بديلاً لتصدير غازها إلى أوروبا. وإلا كيف نفسر أنه من يناير إلى مارس 2022 ارتفعت صادرات النفط الأذربيجانية بنسبة 50 في المائة لتصل إلى 610 ألف برميل / يوم ، بينما انخفض إنتاجها بشكل غريب بمقدار 45 ألف برميل في اليوم؟

إذا كان من الصعب فهم ما هو "الخط الأحمر" للكرملين ، فلا شك في أن روسيا قد ساهمت في زيادة انعدام الأمن من خلال عدم التحرك. ويبدو أن أحد دوافع عدم التحرك في هذا الجزء من "الخارج القريب" يكمن في "مخطط لافروف " الذي يتضمن إنشاء الممر الشهير في جنوب أرمينيا، فضاء استراتيجي بامتياز تعتبره موسكو خارج الحدود الإقليمية ( وبالتالي خارج السيادة الأرمنية).

نظرًا لأن روسيا عالقة حاليًا على حدودها الغربية بسبب العقوبات الدولية ، فإن المخرج الحيوي المتاح لها هو تركيا عبر أذربيجان. ويمكن لروسيا الوصول إلى تركيا والبحر الأبيض المتوسط عبر أذربيجان عبر هذا الممر - الذي تريده موسكو تحت سيطرتها. لذلك يجب أن يكون مفهوماً أن النقطة 9 من اتفاقية وقف إطلاق النار الثلاثية المؤرخة 9 نوفمبر 2020 قد فُرضت مع وضع ذلك في الاعتبار.

منذ 2018 ، تعاني أرمينيا من تدهور في علاقتها مع روسيا . إن محاولتها للاقتراب من الاتحاد الأوروبي وتنفيذ أجندة ديمقراطية تتعارض مع المصالح الجيوستراتيجية الروسية. على الرغم من ضعفه ، إلا أن روسيا تحتفظ بنفوذ في أرمينيا ، التي ليس لديها حاليًا بديل من حيث الأمن ، بينما تتزايد المشاعر المعادية لروسيا بين السكان الذين يشعرون أن موسكو تخلت عنهم في وقت هم في أشد الحاجة لدعمهم.

وجاءت الزيارة التاريخية التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكي "نانسي بيلوسي" في 17 سبتمبر الأخير في وقت تسعى فيه واشنطن للاستفادة من الوضع بدفع "يريفان" و"باكو" للتوصل إلى اتفاق سلام من شأنه أن يمنح الغرب إمكانية الوصول حتى بحر قزوين عبر تركيا.

وبينما تواصل الولايات المتحدة جهودها لاحتواء وإضعاف روسيا ، تعمل إدارة "بايدن" على تقليص الوجود السياسي والاقتصادي والعسكري الروسي في جنوب القوقاز. وهذا يعني أن الولايات المتحدة سوف تستخدم مشاركتها المتزايدة في عملية التفاوض بين أرمينيا وأذربيجان لتهيئة الظروف لانسحاب قوات حفظ السلام الروسية من "ناغورنو كاراباخ" مع استخدام عمليات التطبيع مع أذربيجان وتركيا كأساس لدفع انسحاب القاعدة العسكرية الروسية من أرمينيا. وسيؤدي تقلص الوجود الروسي في جنوب القوقاز إلى خلق فراغ من المرجح أن تملأه تركيا كقوة إقليمية وحليف استراتيجي للولايات المتحدة.

من خلال ما سبق يتضح أن أرمينيا ضحية الجغرافيا السياسية للإمبراطوريات. وهي تبدو كمجرد ورقة مساومة في سياق يحاول فيه الروس والأتراك إبعاد الغربيين. وهذا قد يدفعها إلى البحث عن تحالفات جديدة مع الدول التي تشترك في نفس المصالح الجيواستراتيجية، مثلا الهند ، وإيران ، وبدرجة أقل الصين.

كل هذا يحجب أن القضية هي -أولا وقبل كل شيء - قضية محلية أصلا، إنها قضية شعب يطالب بحقه في تقرير المصير منذ ارتباطه – دون إذنه أو رغبته- وبشكل تعسفي بكيان آخر في 1921.