أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان البجعة















المزيد.....



رواية للفتيان البجعة


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7445 - 2022 / 11 / 27 - 23:49
المحور: الادب والفن
    


رواية للفتيان






البجعة






طلال حسن






" 1 "
ـــــــــــــــــــ

خرج ساشي من الكوخ ، بعد شروق الشمس ، قاصداً البحيرة ، التي تقع وراء الغابة ، ملبياً نداء ، لا يدري من أين يأتيه ، أهو من مجاهل أعماقه ؟ أم من حلم لا يكاد يفارقه أم من مكان ما من البحيرة ؟
ولم يلتفت إلى أمه العجوز ، التي لحقت به ، ووقفت عند الباب ، وهتفت : ساشي ، عزيزي ، لا تتأخر ، لن أتناول طعام الغداء حتى تعود .
وأشارت لكلبه أن يتبعه ، فتبعه الكلب مسرعاً ، دون أن ينبح ، أو يصدر عنه أي صوت . وكما أن ساشي لا يلتفت إلى ظله ، حين يمشي في أي مكان من القرية أو الغابة ، فإنه لم يلتفت إلى كلبه ، الذي قلما يفارقه ، في الليل أو في النهار .
وراحت الأم العجوز تتابع ساشي بعينيها الكليلتين ، وهو يسير مبتعداً ، وكلبه يهرول وراءه ، ودخلت الكوخ ، دون أن تغلق الباب ، رغم أن الريح كانت محملة ببرودة الخريف ، آه من ساشي ، وهزت رأسها مبتسمة ، إنه كأبيه الراحل ، لا يكاد يستقر في مكان ، وكأن الأبعاد تناديه دائماً : ساشي .. تعال .. تعال .
وتوغل ساشي في أعماق الغابة ، سائراً كالمسحور ، وكأنه لا يرى ما حوله ، وكلبه يسير وراءه إلى جانب ظله . وتوقف في فسحة بين الأشجار ، حين سمع رفرفة أجنحة ثقيلة ، ورفع رأسه إلى الأعلى ، متمنياً أن يرى البجعة ، التي طالما رآها في أحلامه ، لكن بدل بجعة الحلم البيضاء ، رأى زوجاً من اللقالق ، يطيران متجاورين ، متجهين إلى البحيرة القريبة .
واستأنف ساشي سيره بخطى ثابتة ، متجهاً هو الآخر إلى البحيرة ، لعله يرى بجعة الحلم ، تسبح في المياه الصافية ، رغم أن الخريف ، بدأ يفقدها بعض دفئها ورونقها . وعند طرف الغابة ، القريب من البحيرة ، أفاق على الحطاب العجوز يناديه بصوته الشائخ : هي .. ساشي .
وتوقف ساشي ، والتفت إلى الحطاب العجوز ، وقال : طاب صباحك ، يا سيدي .
وردّ الحطاب العجوز قائلاً، وهو يتكىء على فأسه : أهلاً بنيّ ، توقف قليلاً .
وتوقف ساشي ، وقال : إنني ذاهب إلى البحيرة ، لكن أبقى معك بعض الوقت .
فابتسم الحطاب العجوز ، وهو يمسح العرق عن جبينه المتغضن ، وقال : أكون ممتناً لك .
واقترب ساشي منه ، يتبعه كلبه ، وقال : أنت متعب ، يا سيدي ، أعطني الفأس ، ودعني أساعدك .
وهزّ الحطاب العجوز رأسه ، وقال : لا يا بنيّ ، إنني لا أحتاج إلى هذا النوع من المساعدة .
وصمت لحظة ، متطلعاً إلى ساشي ، ثم قال : إنني كما تعرف ، أعيش وحيداً في كوخي ، بعد أن ماتت زوجتي ، وتزوجت ابنتي ، ورحلت بعيداً مع زوجها .
ابتسم ساشي ، وقال : هذه مشكلة حقاً ، لكن هناك حلاً لها .
ونظر الحطاب العجوز إليه متسائلاً ، فقال ساشي :تزوج ، يا سيدي ، ما زلت شاباً .
وابتسم الجد بدوره ، وقال : هذا محال ، فبعد زوجتي ، التي عاشت معي حوالي خمسين عاماً ، لن أتزوج من أي امرأة ، حتى لو لم أكن في هذا العمر .
وضحك ساشي ، وقال : أعرف هذا ، كما يعرفه جميع من في القرية ، أنت إنسان وفي .
وصمت لحظة ، ثم قال : أريد ، يا سيدي ، أن أساعدك بما أستطيعه .
وربت الحطاب العجوز على كتفه ، وقال : أشكرك ، يا ساشي ، لقد ساعدتني .
ونظر إليه ساشي متسائلاً ، فقال الحطاب العجوز : وقفت قربي ، وحييتني ، وتحدثت إليّ ، هذه أجمل مساعدة يقدمها لي شاب مثلك .
وصمت الحطاب العجوز ، منصتاً إلى رفرفة أجنحة ، في أعالي السماء ، ورفع مون رأسه ، وقد أشرقت عيناه بفرح غامر ، وقال بصوت حالم : آه .. بجع .
ونظر الحطاب العجوز إلى البجع ، الذي يحلق على شكل الرقم سبعة ، تقوده بجعة حكيمة مجربة ، وقال : آه ، ها هو البجع يهاجر بعيداً ، يبدو أن الشتاء سيأتي مبكراً هذا العام .
وتابع ساشي سرب البجع ، وهو يحلق عالياً ، في سماء بدأت الغيوم تغزوها ، وقال : آه ليتني أهاجر أنا الآخر ، حيث يهاجر سرب البجع هذا .
وضحك الحطاب العجوز ، وقال : هذا صعب للغاية ، يا بنيّ مون ، فالبجع يهاجر كلّ عام ، في مثل هذا الوقت ، إلى بحيرة البجع ، التي تقع وراء الجبال البعيدة ، حيث تشرق الشمس .
ونظر ساشي إلى الحطاب العجوز ، وقال : أيها الحطاب ، أنت عشت عمراً مديداً ، وكنت طبعاً شاباً في يوم من الأيام ، ألم تنادك يوماً بجعة من البجع ؟
وابتسم الحطاب العجوز ، وقد التمعت عيناه : كنت في شبابي أحلم ببجعة تأخذني إلى البعيد ، لكن بجعة من قريتني نادتني ، فلبيت نداءها ، وعشت إلى جانبها سعيداً العمر كله .
لاذ مون بالصمت لحظة ، ثم نظر إلى الحطاب العجوز ، وقال : أنا تناديني بجعة في الحلم ، ويأتيني صوتها الساحر من بعيد ، ويبدو أنها تناديني من بحيرة البجع ، التي تقع ، كما قلت ، وراء الجبال البعيدة ، حيث تشرق الشمس .
وشدّ الحطاب العجوز يده على مقبض فأسه ، مستعداً لمواصلة عمله ، وهو يقول : إياك ، يا ساشي ، أن تصغي إلى بجعة ، تناديك في الحلم ، فطالما ضاع فتيان كالورود في متاهات أحلامهم ، ولم يعودوا إلى بيوتهم وأحبائهم أبداً .














" 2 "
ــــــــــــــــــــ

عاد ساشي من الغابة ، دون أن يعرج على البحيرة ، كما كان قد قرر ، حين غادر الكوخ ، ولماذا يعرج عليها ، مادام البجع قد مضى محلقاً في أعالي السماء ، عبر الجبال البعيدة إلى بحيرة البجع ، التي تقع عند مشرق الشمس ؟
وبدل أن يدخل الكوخ ، حيث كانت أمه العجوز تنتظره ، بعد أن أعدت له طعام الغداء ، جلس على المصطبة الخشبية ، التي صنعها أبوه ، قبل رحيله بسنوات طويلة ، ووضعها تحت شجرة الجوز ، وعلى مبعدة منه ، أقعى كلبه ، الذي لم يفارقه لحظة واحدة ، وهو يتطلع إليه بعينيه الصغيرتين اللامعتين .
وعلى الفور ، خرجت أمه العجوز من الكوخ ، وقد اشتمت رائحته ، التي تقول إنها رائحة أزهار الغابة ، واقتربت منه ، وقالت : بنيّ ساشي .
لم يتحرك سلشي ، فمالت أمه العجوز عليه ، وقالت : تأخرت كثيراً في الغابة .
ونظر الكلب إلى ساشي ، كأنه يحثه على الإجابة ، لكن ساشي ظل صامتاً ، فقالت الأم العجوز : بنيّ ، لقد برد طعام الغداء .
واعتدلت الأم العجوز حائرة ، فالتفت ساشي إليها ، وحدق فيها بعينيه اللامعتين ، اللتين ذكرتاها بعيني أبيه ، عندما قرر ذات يوم أن يتركها ، ويذهب إلى وادي الذئاب ، وقال : أمي .
وربما شعرت الأم العجوز بخطورة ما سيقوله لها ، فتراجعت قليلاً ، وقالت : بنيّ ، تعال إلى الداخل ، وتغدّ ، لابد أنك متعب وجوعان الآن .
وأدرك سلشي ، أن أمه العجوز التي حنكتها الأيام ، تريد أن تتهرب من تساؤله ، وكأنها تعرف ماذا سيقول ، رغم أنه لم يفصح لها يوماً عن دخيلته ، فتساءل قائلاً : هل تعرفين بحيرة البجع ؟
لاذت الأم العجوز بالصمت لحظة ، ثم قالت : بنيّ ، إنني جائعة ، ولابد أن آكل ، لقد تأخرت كثيراً عن موعد تناول طعام الغداء .
وقاطعها ساشي قائلاً : أمي .
واستدارت الأم العجوز ، ومضت نحو الكوخ ، وهي تقول : أنت شاب ، ويمكنك أن تتحمل الجوع ، أما أنا فامرأة عجوز ..
نهض ساشي ، ولحق بأمه العجوز عند الباب ، والكلب يهرول في أثره ، وقال : أنت تعرفينها ، يا أمي ، تعرفين بحيرة البجع .
اندفعت الأم العجوز إلى الداخل ، دون أن تلتفت إليه ، وقالت : هذه حكايات مجانين .
وتبعها ساشي إلى الداخل ، وتوقف الكلب ، ودار حول نفسه حائراً ، لكنه لم يتجاوز عتبة الباب ، وقال ساشي : حدثني عنها الحطاب العجوز .
فقالت الأم العجوز منفعلة : الحطاب العجوز ، إنه خرف مجنون ..
قاطعها ساشي محتجاً : أمي .
لكنها واصلت كلامها قائلة : لقد جنّ هذا العجوز ، منذ أن فقد زوجته ، إن المرء يصيبه الجنون ، يا بنيّ ، حين يعيش وحيداً ..
وصمتت لحظة ، ثم أضافت بصوت دامع : وأنا لا أريد أن أعيش وحيدة ، يا بنيّ .
توقف ساشي ، ثم تراجع صامتاً ، وقد بدا عليه التأثر ، وجلس على الفراش ، وقال : الوقت تجاوز منتصف النهار بكثير ، فلنأكل بعض الطعام .
لم تند عن الأم العجوز أية حركة ، فنظر إليها مشفقاً ، وهز رأسه ، وقال بنبرة هادئة مصالحة : آه يا أمي ، أشمّ رائحة سمك .
فمدت الأم العجوز يديها إلى صحاف الطعام ، وقالت : بصوت تبلله الدموع ، إنه السمك ، الذي اصطدته يوم أمس من البحيرة .
ووضعت الأم العجوز صحاف السمك أمامه ، ووقفت دون حراك ، ونظر ساشي إليها ، ، وقال : هيا يا أمي ، لنأكل معاً .
وتنهدت الأم العجوز ، وردت قائلة : كل أنت ، سآكل أنا فيما بعد .
فاعتدل مون ، وقال : اجلسي ، يا أمي ، وكلي ، لن آكل إذا لم تأكلي معي .
وظلت الأم العجوز واقفة ، ثم جلست قبالته ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة . وبعد أن انتهيا من تناول الطعام ، نهض ساشي ، وقال : إنني متعب ، سأنام قليلاً .
وتمدد ساشي في فراشه ، وأدار وجهه إلى الحائط ، وأغمض عينيه ، لكنه لم ينم .
ونهضت الأم العجوز ، ونظفت الصحاف ، وأعادتها إلى أماكنها ، وبدل أن تتمدد في فراشها هي الأخرى ، فتحت الباب بهدوء ، ومضت إلى الخارج ، وجلست على المصطبة ، تحت شجرة الجوز .
وجلس الكلب على مقربة منها ، وعيناه الضيقتان المتلامعتان تطفحان بالحيرة والتساؤل ، وانتبهت الأم إلى الكلب يرفع رأسه ، ويلتفت ، فنظرت حيث كان ينظر ، فرأت رانمارو بعينيه السوداوين اللامعتان تسير وجرتها فوق كتفها ، لابد أنها ذاهبة إلى البئر ، آه في يوم بعيد ، كانت هي أيضاً بجعة شابة ، وكانت تحمل جرتها ، وتذهب لتملأها من البئر ، حتى لو لم يكونوا بحاجة ملحة إلى الماء ، فقد كانت عينا صائد الذئاب تترصدانها .. آه يا صائد الذئاب .



















" 3 "
ـــــــــــــــــــــ

نادت ابنتها من المطبخ : رانمارو .
أنصتت الأم ، لم تسمع رداً ، ظنت أن رانمارو لم تسمعها ، لكن رانمارو سمعتها ، وظلت تتقلب قلقة ، منزعجة ، على فراشها .
اقتربت الأم من باب المطبخ ، ورأت زوجها في الفناء ، يتأمل مبتسماً شجيرات الورد ، فتطلعت إلى غرفة ابنتها ، ونادت بصوت أعلى : رانمارو .
اعتدلت رانمارو ، إنها تعرف ما وراء هذا النداء ، لكن هيهات ، وزمت شفتيها بغضب ، الأحمق ساشي ، بدل أن يأتي ، ويقابل أمها وأباها ، يركض على شاطىء البحيرة ، وراء البجع .
ولكي تقطع الطريق على أمها ، وتتجنب الحديث الذي لا تريد أن تسمعه ، نهضت من فراشها ، وخرجت من الغرفة ، وتناولت الجرة ، دون أن تلتفت إلى أبيها ، وصاحت من الفناء : أمي ، سأذهب إلى البئر ، وأملأ الجرة ماء .
لم تفلت رانمارو ، فقد أسرعت أمها إليها ، وأمسكتها عند الباب ، وقالت : دعي الجرة الآن ، لدينا ماء يكفينا حتى الغد .
وحاولت رانمارو أن تعترض ، فأخذت أمها الجرة منها ، وأعادتها إلى مكانها ، وقادتها برفق إلى المطبخ ، وهي تقول : أبوك لم يفطر بعد ، تعالي ساعديني في إعداد طعام الفطور .
وانقادت رانمارو لأمها ، ودخلت معها المطبخ ، ونظرت إليها أمها مبتسمة ، وقالت : عندما كنت في عمرك ، يا رانمارو ، رزقتُ بطفلي الأول .
وردت رانمارو ، دون أن تنظر إلى أمها : هذا صار من الماضي ، الزمن يتغير ، يا ماما .
والتفتت إليها أمها ، وقالت : الزواج الجيد فرصة ، يا حبيبتي ، قد لا تتكرر في العمر مرتين .
ولاذت رانمارو بالصمت ، فتابعت الأم قائلة : لو كان ساشي جاداً ، لربما كان زوجاً لا بأس به .
قالت رانمارو : ماما ، إنني أحبه .
ردت الأم قائلة : هذا لأنك حمقاء .
ولاذت رانمارو بالصمت ، فقالت الأم : لا تقولي هذا أمام أبيك ، وإلا قتلك .
وتناهى وقع أقدام من الفناء ، فتطلعت الأم عبر النافذة ، ثم قالت : أقبل أبوك ، سيتناول فطوره .
والتفتت إلى ابنتها ، وقالت : بنيتي .
والتفتت رانمارو إليها ، فقالت الأم : اذهبي ، وخذي الجرة ، واملئيها من البئر .
وردت رانمارو قائلة : لكنك قلتِ ..
وقاطعتها أمها ، وهي تمسح يديها : اذهبي إلى البئر ، واملئي الجرة .
وخرجت رانمارو من المطبخ ، لتأخذ الجرة ، وتملأها من البئر ، ورآها أبوها في الفناء ، فقال متسائلاً : رانمارو ، هل الفطور جاهز ؟
وردت رانمارو قائلة ، دون أن تتوقف : نعم ، ماما تنتظرك في المطبخ .
ودخل الأب المطبخ مبتسماً ، بينما حملت رانمارو الجرة ، وخرجت بها من البيت ، متجهة عبر أزقة القرية إلى البئر لتملأها ماء .
وتوقفت رانمارو ، والجرة في يدها ، لابد أن لدى أبيها أخباراً سارة لأمها ، وعليها أن تعرفها ، لكن أمها صرفتها عامدة ، وقالت لها ، أن تذهب إلى البئر ، وتملأ الجرة ، هذه ليست معضلة ، ما فائدة القوى السحرية ، التي ورثتها من جدتها إذن ؟
ونظرت شو إلى الجرة ، وهمست لها قائلة : أيتها الجرة ، امتلئي .
وعلى الفور ، طفحت الجرة بالماء ، فوضعتها شو على كتفها ، وقفلت عائدة إلى البيت .
وعلى عجل ، دفعت رانمارو الباب ، ودخلت إلى البيت ، حاملة الجرة المليئة بالماء . ورأتها أمها من نافذة المطبخ ، فتوقف عن الكلام مع زوجها ، وهتفت بها : قلتُ لك ، املئي الجرة من البئر .
فأرتها رانمارو الجرة الطافحة بالماء ، وقالت : وهذا ما فعلته ، انظري .
وسكبت بعض الماء من الجرة ، لتريه لأمها ، فصاحت الأم : كفى ، لا تسكبي الماء .
وخرج الأبوان من المطبخ ، واقترب الأب من رانمارو ، مبتسماً ، وقال : مبروك ، يا ابنتي .
وابتسمت الأم ، وقالت : سيأتيان غداً ، الشاب الغني وأمه ، ويخطبانك .
أسرعت رانمارو إلى غرفتها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فضحك الأب ، ونظر إلى الأم ، وقال : هذا خجل العذارى الصغيرات .
لكن الأم نظرت إليه ، دون أن تبتسم ، أو تتفوه بكلمة واحدة . ثم التفتت إلى ابنتها رانمارو ، التي دخلت غرفتها ، وصفقت الباب بقوة .
وألقت رانمارو نفسها على فراشها ، وضربت مخدتها بشدة بجمع يدها ، آه من هذا الأحمق ساشي ، وجمدت لحظة ، لا فائدة من هذا الكلام ، سيأتي هذا الشاب الغني غداً ، ومعه أمه اللعينة ، و .. لابد أن تفعل شيئاً ، وإلا طار عاشق البجع من بين يديها .


















" 4 "
ــــــــــــــــــــ

لم يغادر ساشي فراشه .
والأم العجوز ، لم تغادر المصطبة ، التي تحت شجرة الجوز .
والكلب يجثو على مقربة منها ، متطلعاً إليها بعينيه الضيقتين اللامعتين ، كأنه يريد أن يعرف ، دون جدوى ، ما الذي يجري .
ورانمارو نفسها ، بقيت في فراشها ، متحفزة منزعجة ، وقد أغلقت أذنيها ، عما يتحدث به والداها ، وهما يجلسان ، في الفناء ، بين شجيرات الورد .
ومن بعيد ، لاح الحطاب العجوز ، حاملاً فأسه ووحدته ، يسير متثاقلاً ، متجهاً بتثاقل نحو الغابة ، ليحتطب حطباً ليس بحاجة إليه .
ونهضت الأم العجوز من على المصطبة ، ورياح الخريف المثقلة بالرطوبة والبرد ، تداعب أغصان شجرة الجوز ، ومعها نهض الكلب ، ومضت إلى الكوخ ، وسار الكلب وراءها ، لكنها حين اجتازت عتبة الباب إلى الداخل ، توقف الكلب بعينيه الضيقتين اللامعتين ، وراح يدور قلقاً ، إنه يعرف حدوده ، ولا يريد أن يتجاوزها ، وحدوده باب الكوخ ، لكنه يريد أن يعرف ، ما الذي يجري ، لعله يهدأ قليلاً .
ودخلت الأم العجوز غرفة ساشي ، ونظرت إليه ، إنه مستيقظ ، هذا ما تعرفه جيداً ، رغم أنه منطرح في فراشه ، ووجهه إلى الحائط .
اقتربت منه ، وتوقفت لحظة ، ثم مالت عليه ، ونادته بصوت هامس : ساشي .
لم يردّ ساشي ، ولم تند عنه حركة واحدة ، فهمست الأم العجوز ثانية : ساشي .. ساشي .
وثانية لم يردّ ساشي ، ولم يتحرك ، فتابعت الأم العجوز قائلة : سألتني عن بحيرة البجع ..
وندت عن ساشي حركة لا إرادية ، لكنه لم يلتفت بوجهه إليها ، فقالت : إنني أعرفها ..
لم يردّ ساشي ، ولم يلتفت ، فقالت الأم العجوز : حدثتني عنها جدتي ، وقالت إنها تقع عند مشرق الشمس ، وراء الجبال البعيدة .
واستدار ساشي ، متطلعاً إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت الأم العجوز : كان زوجها شاعراً ، نادته بجعة ربما في الحلم ، فتبعها عبر الجبال البعيدة ، قاصداً بحيرة البجع ، لكنه لم يعد ، ويقال أنه وصلت منه قصيدة شعرية عنوانها .. بحيرة البجع .
واعتدلت الأم العجوز ، وهي تقول : أنتم الرجال ، تصابون في مرحلة ما من أعماركم بلوثة ، قد تكون أحياناً خطرة للغاية ، إذا لم تعالجها امرأة في اللحظة الأخيرة .
لاذ ساشي بالصمت ، ونهضت الأم العجوز ، وغادرت الكوخ ، وعادت إلى مكانها الظليل ، على المصطبة تحت شجرة الجوز ، وعاد الكلب ، وجلس على مبعدة منها ، وعيناه الضيقتان مازالتا تلتمعان بالأسئلة .
انحدر قرص الشمس الملتهب ، رغم برودة أول الخريف ، وكاد يغرق وراء الأفق ، حين تناهى إلى الأم العجوز ، وقع أقدام ساشي ، خارجاً من الكوخ ، وأنصتت متوجسة صامتة ، وهو يسير مقترباً منها ، ثم أحست به يجلس إلى جانبها على المصطبة تحت شجرة الجوز .
ومن غير أن تلتفت إليه ، قالت : أبوك نفسه ، أصيب بلوثة ، قبل زواجه مني .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لم يفكر في الذهاب إلى بحيرة البجع ، فقد كانت لوثته من نوع آخر ، كان مولعاً بقتل الذئاب ، وأراد أن يذهب إلى وادي الذئاب ، ولو ذهب إلى ذلك الوادي لما عاد أبداً .
وصمتت الأم العجوز ، فالتفت ساشي إليها ، وقال : ليس فيّ ، على ما يبدو ، شيء من أبي ، بل شيء من جدي .. الشاعر .
لاذت الأم العجوز بالصمت ، ثم نهضت ، ومضت نحو الكوخ ، وهي تقول : لقد غابت الشمس ، لابد أن أشعل القنديل ، وأعد طعام العشاء .
لم يلحقها الكلب ، وإن تابعها بعينيه الضيقتين اللامعتين ، حتى دخلت الكوخ ، ثم التفت إلى ساشي ، محدقاً فيه ، دون أن يندّ عنه أي صوت .
غربت الشمس ، وتغامزت في السماء أولى النجوم ، لكن ساشي ظلّ جالساّ في مكانه على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وعيناه مشدودتان إلى الجبال البعيدة .
وتحركت رانمارو في فراشها ، وتطلعت عبر النافذة إلى السماء ، النجوم تتلامع ، ويزداد تلامعها مع اشتداد الظلام ، لكن الوقت مازال مبكراً ، فالقمر لم يطلع بعد من وراء الجبال ، ويسطع فوق القرية .
وأطلت الأم العجوز من باب الكوخ ، وهتفت بابنها : ساشي ، تعال ، الطعام جاهز .
ومن بعيد ، لاح الحطاب عائداً من الغابة ، حاملاً على ظهره المتعب حزمة من الحطب ، وسار ببطء متثاقلاً ، متجهاً إلى كوخه البارد ، الواقع في الطرف الآخر من القرية .
ونهض ساشي ، ومضى نحو الكوخ ، والكلب يسير في أثره ، حتى الباب ، ودخل الكوخ ، وجلس قبالة أمه العجوز ، وراحا يتناولان طعامهما صامتين .
وأطلت الأم من النافذة ، متطلعة إلى غرفة رانمارا ، التي يلفها الظلام ، وقالت : يبدو أن رانمارو قد أطفأت القنديل ، ونامت .
ونظر زوجها إليها ، وهو متمدد في فراشه ، وقال : لم أرَ رانمارو فرحة بخطيبها .
وتمددت الأم إلى جانبه في الفراش ، وقالت : لا عليك ، ستفرح حين تراه ، وترى مقدار غناه .
















" 5 "
ـــــــــــــــــــــ

سمعت الأم العجوز ، وهي متمددة في فراشها ، وقد جفاها النوم ، نقراً خفيفاً على باب الكوخ ، فاعتدلت منصتة ، لعل ساشي ينهض ، ويرى من الطارق .
وسمعت الأم العجوز النقر الخفيف ثانية ، وثانية لم يتحرك ساشي ، فنهضت متسللة من فراشها ، وفتحت الباب بهدوء ، ووقفت مندهشة ، ثم هتفت بصوت هامس : رانمارو !
مالت رانمارو عليها ، وهمست محيية بصوت خافت : طاب مساؤك ، يا سيدتي .
وردت الأم العجوز بنفس الصوت الهامس : طاب مساؤك ، يا بنيتي رانمارو .
ولمعت في ذهنها فكرة ، فمدت يدها ، وأغلقت باب الكوخ بهدوء ، وأمسكت بيد رانمارو ، وقالت : من حسن الحظ ، أنك جئت الآن ، يا رانمارو .
دهشت رانمارو ، لكنها استسلمت للأم العجوز ، التي قادتها في ضوء القمر ، وأجلستها إلى جانبها ، على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وقالت : رانمارو ، أعرف أنّ ساشي يهمك .
نظرت رانمارو إليها ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابعت الأم العجوز قائلة : وأعرف أنك تهمين ساشي .
ومرة أخرى ، لم تتفوه رانمارو بكلمة ، فقالت الأم العجوز : ساشي سيطير منك .
وهنا قالت رانمارو : بل أنا سأطير منه .
وقالت الأم العجوز ، وكأنها لم تسمعها : أنت صغيرة ، وربما لم تعرفي بعد ما يصاب به بعض الرجال من لوثة ، في مرحلة ما من مراحل عمرهم ..
وحدقت رانمارو فيها مندهشة ، فتابعت الأم العجوز قائلة : ساشس جُنّ ببجعة ، يا رانمارو .
هتفت رانمارو : امرأة !
فقالت الأم العجوز : لا ، بجعة بيضاء ، تأتيه في الحلم ، وتقول له تعال .. تعال .. تعال .
وهتفت رانمارو ثانية : هذه امرأة .
وتابعت الأم العجوز ، كأنها لم تسمع ما قالته رانمارو : يقول إنها تناديه من بحيرة البجع .
واتسعت عينا رانمارو ، وتمتمت مذهولة : ماذا ! بحيرة البجع !
فقالت الأم العجوز : هذه بحيرة غريبة ، تقع وراء الجبال البعيدة ، عند مشرق الشمس ، هذا إن كانت هناك فعلاً مثل هذه البحيرة .
وقالت رانمارو : وأنا سيأتيني شاب غنيّ ، ومعه أمه ، وسيخطباني غداً ، ويطير بي إلى قريته ، إن أمي مجنونة به .
فقالت الأم العجوز : أمك مجنونة ، دعك منها ، ساشي لك ، اشفيه من لوثته ، وخذيه .
اعتدلت رانمارو ، وكأنها تتهيأ لخوض معركة ، فقالت الأم العجوز : سأدخل الكوخ ، أطرقي الباب بعد قليل ، وسأدعه يخرج إليك .
ومضت الأم ، وقالت : لا تخبريه بما قلته لك .
فقالت رانمارو : لا ، كيف أخبره ؟ إنني رانمارو .
ابتسمت الأم العجوز ، ومضت إلى الكوخ ، وهي تقول : تهيئي ، أطرقي الباب ، وسترينه أمامك .
دخلت الأم إلى الكوخ ، وتمددت في فراشها ، وبعد قليل طرق الباب ، فاعتدلت الأم ، وقالت : ساشي ، انهض يا بنيّ ، الباب يطرق .
طرق الباب ثانية ، ففتح ساشي عينيه ، وهو يغالب النعاس ، فقالت الأم العجوز : الباب يُطرق ، يا ساشي ، انهض وانظر من الطارق .
نهض ساشي ، واتجه نحو الباب ، فتمددت الأم العجوز في فراشها ، وهي تقول : أغلق الباب ، يا ساشي ، إذا كان الطارق أحد أصدقائك .
وفتح ساشي الباب ، وسمعته أمه يتهامس بصوت خافت حنون ، ثم يخرج ، ويغلق الباب ، فابتسمت ، وقالت في سرها : رانمارو فتاة داهية ، وستشفيه من لوثته ، إن جدتها كانت ساحرة كبيرة .
ونهضت الأم العجوز ، وتسللت بخطوات مكتومة إلى الباب ، ووقفت تتنصت .
جلست رانمارو على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وقالت لساشي : تعال يا ساشي ، تعال ، اجلس هنا إلى جانبي .
وجلس ساشي إلى جانها ، وهو يهز رأسه ، فنظرت رانمارو إلى القمر ، وقالت : أنظر ، يا ساشي .
ونظر ساشي حيث أشارت رانمارو ، ثم قال : يبدو أنك جئتِ تودعينني ، يا رانمارو .
ردت رانمارو قائلة : هذا ما تحلم به أمي .
ونظر ساشي إليها ، فتابعت رانمارو قائلة : سيأتي الشاب الغنيّ غداً ، ومعه أمه ، وسيتقدم لخطبتي ، وسيطير بي بعيداً ، يا ساشي .
احتجّ مون قائلاً : لكن ..
وصمت ساشي ، فتساءلت رانمارو : لكن .. لكن ماذا ، يا ساشي ؟
قال ساشي : لا تتزوجيه .
قالت رانمارو : إنه شاب ، وغني ..
لاذ ساشي بالصمت ، فنظرت رانمارو إليه ، وقالت : لن أتزوجه إذا أردتَ .
قال ساشي : أنتِ لي .
فقالت رانمارو : لا تسافر إذن .
قال ساشي بصوت مقهور : لابد أن أسافر .
نهضت رانمارو ، ومضت مبتعدة ، حتى تلاشت في الظلام ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة . وأقبلت أمه من الكوخ ، وقد تنصتت إلى كلّ شيء ، وجلست على المصطبة تحت شجرة الجوز ، وقالت بنبرة جازمة :ساشي ، اسمعني جيداً ، غداً مع الفجر ، سأذهب عند أختي ، وأبقى معها عدة أيام .







" 6 "
ــــــــــــــــــــ

دخلت عليها أمها الغرفة ، والشمس لم تشرق بعد ، واقتربت منها ، وهتفت بها بصوت يشي بفرحها : رانمارو ، استيقظي .
لم ترد رانمارو على أمها ، رغم أنها كانت مستيقظة تماماً ، فهزتها أمها برفق ، وقالت : انهضي ، يا عزيزتي ، سيصل خطيبك اليوم ، ومعه أمه .
وهمهمت رانمارو بكلمات مختلطة ، لا يفهم منها أي شيء ، فمضت الأم خارجة إلى الفناء ، وهي تقول : الفطور سيجهز بعد قليل ، الحقي بي .
وتوقفت الأم لحظة عند الباب ، فقد خيل إليها ، أنها سمعت رانمارو تقول : لن يصلا .

ولسبب ما ، وعلى غير العادة ، ظلّ رانمارو منطرحاً في فراشه ، رغم أن الشمس كانت تطل عليه من شباك الكوخ ، وقد خلا تفكيره ـ ويا للغرابة ـ من بحيرة البجع . وحتى كلبه ، الذي يستيقظ عادة ، قبل أي ديك من ديكة القرية ، كان مستسلماً لإغفاءة عميقة ، عند عتبة باب الكوخ .

واعتدلت رانمارو في فراشها ، وخاطبت جدتها ، التي لم ترها في حياتها مرة واحدة : جدتي ، إنني حفيدتك رانمارو ، لن يصلا ، يا جدتي ، لن يصلا .
ولم تسمع رانمارو جدتها تردّ عليها ، ونهضت من فراشها مطمئنة ، فجدتها ساحرة عريقة ، وهي تعرف بالضبط أنها سمعتها من عليائها ، وأنها توافقها على ما صممت عليه ، بل وستساعدها على تنفيذه ، مهما كلف هذا الأمر .

وفي غضون ذلك ، كان الخطيب الشاب كينشن ، يستبدل ملابسه على عجل ، وحانت منه نظرة إلى قميصه ، الذي كان يبكل أزراره ، وهتف بأمه ، التي كانت ترتدي ملابس الخروج في الغرفة المجاورة : ماما ، أين قميصي الأزرق ؟
وأطلت أمه من باب الغرفة ، وألقت عليه نظرة سريعة ، وقالت مندهشة : أوه ، هذا هو قميصك الأزرق ، يا كينشن ، أنت ترتديه .
ونظر كينشن إلى قميصه ، ولم يتوقف عند لونه ، الذي لم يكن أزرق ، فإن عليه أن يسرع ، فعربته بالباب ، يجرها حصانه الأدهم ، وسيأخذه على جناح السرعة إلى خطيبته الشابة .. رانمارو .
انطلقا بالعربة ، كينشن وأمه ، على طريق زراعيّ ، تحيطه حقول خضراء زاهية ، مترامية حتى الأفق ، ولم يلتفت الشاب إلى حصانه ، الذي لم يعد ـ كما كان ـ أدهم ، وقالت أمه ، دون أن تلتفت إليه : لا تسرع ، يا كينشن ، فالطريق إلى بيت خطيبتك رانمارو ليس طويلاً .
وخفف كينشن سرعة العربة ، لا لأن أمه قالت له ، أن لا يسرع ، بل لأنه رأى بحيرة على جانب الطريق ، لم يرها في هذا المكان من قبل ، وعاد إلى سرعته ، حتى عندما رأى أن من يقود العربة ليس حصانه ، الذي لم يعد أدهم ، بل كائن آخر ، لم ير ما يشابهه في محيط عالمه ، فقل لأمه ، دون أن يلتفت إليها : ماما ، أنظري رجاء ، وأخبريني ، من الذي يقود عربتنا ؟
ونظرت أمه ، وقالت : هذا جمل .
وتساءل كينشن : إذا كان هذا جملاً ، فأين هو حصاني الأدهم ، يا ماما ؟
وهزت الأم رأسها ، وقالت : واصل قيادتك للعربة ، ، ياكينشن ، المهم أن نصل ، سواء بعربة يجرها حصان أدهم أم جمل أم .. فيل .
ولم تكد الأم تنطق بكلماتها ، حتى كان فيل ضخم ، يجر العربة ، في طريق صحراوي قفر .

وأعدت الأم الفطور ، وجلست إلى جانب زوجها ، وقبالتهما جلسترانمارو ، وراحوا يتناولون صامتين طعام الإفطار .
ونظرت الأم إلى رانمارو فرحة ، وتراءت لها فرحتها في مثل يومها هذا ، ورمقت زوجها بنظرة سريعة ، وغمزت له ، فمال عليها زوجها مبتسماً ، وهمس لها : أنت أيضاً كنت خجلة هكذا ، عندما زرتكم لأول مرة ، ألا تذكرين ؟
وكتمت الأم ابتسامتها ، ولكزت زوجها قائلة : كلْ الآن ، كلْ ، كلْ .
وهزت رأسها ، هل كانت حقاً خجلة هكذا يوم ذاك، أم أن هذا ما أرادت أن تريه يومها لخطيبها ، فهي تعتقد ، أن الرجال عامة يريدون أن يروا الخطيبة خجلة ، وهذا ما حرصت وقتها أن تريه له .
ونظرت الأم ثانية إلى رانمارو ، وقالت : كلي ، يا ابنتي ، كلي ، فهذا يومك .
وردت رانمارو ، دون أن ترفع وجهها إلى أمها : إنني آكل ، يا أمي .

خرج مساشي من الكوخ ، بعد أن تناول القليل من الطعام ، فأمه عند أختها ، وهي من كانت تحثه دائماّ على تناول المزيد من الطعام .
وجلس على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وعلى مقربة منه ، أقعى كالعادة كلبه ، وعيناه الضيقتان اللامعتان تتابعانه في حركاته وسكناته .
ورفع ساشي رأسه ، وتطلع إلى أعالي السماء ، فقد خيل إليه أنه سمع صوت بجعة ، تحلق في الأعالي ، منطلقة إلى البعيد ، لكنه وعلى امتداد الأفاق ، لم يرَ أثراً لبجعة واحدة .

ارتجت العربة ، وتلفت كينشن حوله ، لقد اختفت الصحراء ، ومعها اختفى الفيل ، وها هي العربة يجرها الجمل على طريق تحفه الأشجار ، فالتفت إلى أمه ، وقال : ماما ، يبدو أننا لن نصل مطلقاً .
فقالت أمه : لا تتعجل ، يا بنيّ ، سنصل حتماً ، فلكل طريق ، مهما طال ، نهاية .
وواصل كينشن طريقه ، واندفعت العربة ، يقودها حصان أدهم ، تدرج على طريق زراعي ،تحيط به حقول خضراء زاهية ، مترامية حتى الأفق ، وعند غروب الشمس ، وحلول الظلام ، توقفت العربة ، فنزلت الأم منها ، وقالت : لقد وصلنا أخيراً ، يا بنيّ ، انزل .
ونزل كينشن من العربة ، ونظر إلى البيت ، وقال : ماما ، هذا بيتنا .

دخلت عليها أمها الغرفة ، وعلى ضوء القنديل ، رأتها تجلس في فراشها ، وعيناها تلتمعان ، فحدقت فيها بنظرة متهمة ، وقالت : لم يصلا .
فردت شو قائلة : هذا شأنهما ، يا أمي .

بزغ القمر ، من وراء الجبال ، وأطل ساطعاً على القرية ، فنهض ساشي من على المصطبة ، التي تحت شجرة الجوز ، ومضى نحو الكوخ بخطوات كسولة ، والكلب يسير كالعادة في أثره ، ودفع مون الباب ، ودخل الكوخ ، لكن الكلب توقف عند الباب ، رغم أنه طالما تمنى لو يدخل الكوخ ، ويرقد قرب ساشي .
وتمدد ساشي في فراشه ، وأغمض عينيه ، وأغفى على صوت بجعة يأتيه من بعيد ، ويهتف به بصوت آسر أن .. تعال .. تعال .. تعال .







" 7 "
ـــــــــــــــــــــ

أطفأت رانمارو القنديل ، وجلست في فراشها ، تتطلع عبر النافذة ، إلى السماء المعتمة ، التي بدأت النجوم تتلامع في فضائها الشاسع ، وتنهدت نافدة الصبر ، ترى متى يطل القمر من وراء الجبال البعيدة ؟

لم يغمض جفن للأم العجوز ، وتراءى لها ابنها ساشي يرقد في فراشه ، لينطلق مع الفجر إلى بحيرة البجع ، وراء الجبال البعيدة ، عند مشرق الشمس ، عندئذ اعتدلت في فراشها ، وصاحت في داخلها : رانمارو ، تحركي ، تحركي بسرعة ، ربما تحركك البارحة ، كان مبكراً ، غداً سيفوت الأوان ، الآن هو الوقت المناسب ، يا رانمارو ، تحركي .. تحركي يا رانمارو .
رقد الزوج في فراشه ، ورقد ت زوجته إلى جانبه ، وقد لاذ كلاهما بالصمت ، بعد ما كابده طول اليوم من ابنتها رانمارو ، وعدم وصول كيتشن وأمه ، لم تنم الأم ، بينا ارتفع غطيط الأب بعد فترة قصيرة .
وتراءت لها ابنتها رانمارو ، وتملكها ضيق غريب ، ترى ماذا تفعل رانمارو الآن ؟ هذا ما أرادت أن تعرفه أمها ، فنهضت بهدوء ، وبهدوء تسللت عبر الفناء إلى غرفتها ، ودفعت الباب بهدوء ، و .. وقفت مصعوقة ، لم تكن رانمارو في فراشها ، ترى أين مضت في هذه الساعة من الليل ؟

استسلم ساشي للنوم في فراشه ، وخارج الكوخ ، عند عتبة الباب ، استغرق الكلب في النوم ، لكن الأم العجوز ، ورغم أن أختها استغرقت في نوم عميق ، ظلت مستيقظة ، تتطلع إلى القمر عبر النافذة ، وهو يسطع فوق البيوت النائمة ، وقالت في نفسها : رانمارو هذا يومك ، وإلا طار ساشي من بين أيدينا ، وجننا أنا وأنت من الوحدة .
نبح الكلب في الخارج ، على مقربة من باب الكوخ ، وانتبه ساشي إليه ، لكنه لم يحفل بنباحه ، فهذا الكلب سيسكت بعد حين ، فطالما نبح كائنا ما رآه في منامه ، لكنه هذه المرة لم يكف عن النباح .
واعتدل ساشي ، حين سمع الباب يُطرق ، ترى من يكون الطارق في هذا الوقت من الليل ؟ طرق الباب ثانية ، والكلب لم يتوقف عن النباح ، فنهض ساشي ، وفتح الباب ، واتسعت عيناه ذهولاً ، إذ رأى بجعة تقف أمامه ، وقد ارتخى جناحاها ، وبدت وكأنها ستتهاوى منهارة على الأرض .
وأفاق ساشي على البجعة تحييه بصوت متعب جريح : آه .. طاب مساؤك .
وبدل أن يرد ساشي على البجعة ، نظر إلى الكلب ، ونهره قائلاً : كفى ، ابتعد من هنا .
وكفّ الكلب عن النباح ، وتراجع منكسراً ، وتوقف على مقربة من المصطبة . ونحت البجعة ساشي برفق ، ودخلت الكوخ ، وهي تقول : أرجوك ، أغلق الباب ، إنني أشعر بالبرد .
وتوقف ساشي لحظة ، ينظر إلى البجعة ، ثم أغلق الباب ، ووقف مذهولاً يحدق فيها ، فنظرت إليه بعينين متعبتين ، وقالت : تأخرت عن السرب ، الذي طار قبل أيام إلى بحيرة البجع ، التي تقع خلف الجبال البعيدة ، قرب مشرق الشمس .
وجلست على الفراش متأوهة ، وتابعت قائلة : أخرني المرض ، وخفت أن يشتد البرد ، فحاولت اللحاق بهم ليلاً ونهاراً ، آه ..
أسرع ساشي إليها ، وأسندها برفق ، وهو يقول : تمددي هنا ، وارتاحي قليلاً .
تمددت البجعة ، وهي تتنهد متوجعة ، وقالت : سأبقى عندك إلى الغد ، إذا سمحت ، ثم أواصل تحليقي عبر الجبال البعيدة إلى بحيرة البجع .
وصمتت البجعة متأوهة ، ثم قالت : آه أشعر بالبرد ، أغلق النافذة .
والتفت ساشي إلى النافذة بصورة لا إرادية ، وهو يقول : النافذة مغلقة .
وتناول لحافه ، وراح يغطيها به ، وهو يقول : ستدفئين الآن ، فهذا لحاف سميك .
وأمسكت البجعة بيديه ، وقالت : حدثني ، يا ساشي ، حدثني ، لعلي أدفأ .
وصمت ساشي مذهولاً ، إنها تعرف اسمه ، لكنه قال ، وهو يتطلع إلى عينيها المتعبتين : أنا أيضاً أريد أن أطير إلى بحيرة البجع .
وربتت البجعة على يده ، وقالت بصوت متعب : أنت لست من البجع .
وقال ساشي : نعم ، لكن هناك بجعة تناديني في الحلم ، وتقول لي ..
وصمت ساشي محدقاً فيها ، ثم قال : صوتك ليس غريباً عني ، لا أدري أين سمعته .
وتنهدت البجعة ، وقالت : من يدري ، ربما سمعته في الحلم .
وصمت ساشي لحظة ، ثم قال : نعم ، ربما .
ونظرت رانمارو أليه ، وقالت : لو كنت بجعة حلمك ، هل تتزوجني ؟
لاذ ساشي بالصمت ، فقالت البجعة : أنت ستطير عبر الجبال البعيدة ، لتلتقي بها هناك ، في بحيرة البجع ، أنظر ، قد أكون أنا بجعتك .
صمت مون لحظة ، ثم قال : لا ، لا أستطيع ، لدي واحدة هنا .
تساءلت البجعة : تحبها ؟
هزّ ساشي رأسه ، فطوقته البجعة بجناحيها ، وهي ترتعش ، وتقول : ما أشدّ البرد ، ضمني يا ساشي ، ضمني ، لعلي أدفأ .
استسلم ساشي لجناحيها ، لكنه سرعان ما رفع رأسه ، وصاح : رانمارو !
وضمته رانمارو بجناحيها ثانية ، وقالت : نم ، يا عزيزي ، إنني بجعتك .
قبل منتصف الليل ، تمددت الأم العجوز في فراشها ،وأغمضت عينيها ، وتنهدت بارتياح ، وهي تقول في نفسها مبتسمة : هذا ما عرفته منذ البداية ، فساشي لن تشفيه من لوثته سوى .. رانمارو .
29 / 6 / 2012



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية للفتيان جبل الوعول
- جزيرة كالوبيوك
- رواية للفتيان هوفاك
- رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان
- رواية للفتيان الجاغوار سيلو
- رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن
- رواية للفتيان البحث عن تيكي تيكيس الناس الصغار
- رواية للفتيان سراب
- رواية للفتيان جزيرة الحور
- رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
- رواية للفتيان عزف على قيثارة ...
- رواية للفتيان عين التنين
- رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
- مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
- مسرحية من فصل واحد الثلوج
- مسرحية من فصل واحد السعفة
- مسرحية من فصل واحد ...
- مسرحية من فصل واحد البروفة
- مسرحية مونودراما الرعب والمطر
- مسرحية من فصل واحد الصحراء


المزيد.....




- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان البجعة