استقطاب جديد : هل هو عهد الديكتاتوريات؟


بوياسمين خولى
2022 / 8 / 5 - 10:22     

إن التحديات الرئيسية للعالم المعاصر- مع حفنة من الديكتاتوريات- التي تستمر في البروز أكثر على الساحة الدولية. وذلك، مع الصين التي تجد نفسها في مواجهة مفارقة النظام الشمولي الذي لا يتعايش بشكل جيد مع الابتكار والإبداع. و"بوتين" و"أردوغان" اللذين يحنان إلى "ماض" روسيا الكبيرة وتركيا العثمانية.

تشعر الولايات المتحدة كأنها خُدعت، وبأنها قامت بإطعام و رعاية جاحدين لها. فبكين – في الرؤية الأمريكية - لم تلعب اللعبة. وهكذا تجد أمريكا نفسها بعد ثلاثين عامًا في مواجهة خصم بذلت قصارى جهدها لضمان صعوده، اقتناعا منها بأنه يجسد وحدة الصين وأنه عامل تجديدها، لكن الحزب الشيوعي الصيني ليس لديه أي نية للتخلي عن احتكاره للسلطة. أما بالنسبة لفكرة لعب الصين دور أحد شركاء واشنطن اللطفاء في بناء نظام دولي جديد ، فلم تكن حاضرة يوما في مخيلة القيادة الصينية، التي ظلت كامحة أن تصبح الصين قوة عظمى ، إن لم تكن "القوة العظمى الوحيدة" في العالم.

لقد كان – على ما يبدو- سوء فهم كامل. أمريكا تراقب، بلا حول ولا قوة وبقلق، صعود قوة الصين - وتبدو الآن كأنها لا تقهر- و لا أحد حقًا متى ستتوقف هذه الدوامة الجهنمية إذ تسعى الصين إلى أن تصبح "رقم واحد عالميًا" في جميع المجالات. ومن المعروف من أين "دافع الصعود النيزكي الصيني". إنه حزب شيوعي قوي يسيطر على كل شيء ، وشركات في خدمة النظام ، وصحافة مكممة ، وسكان يخضعون للمراقبة وحتى التجسس: مكونات نظام شمولي كانت أمريكا على وجه التحديد تأمل في هدمها مع الانفتاح الاقتصادي لهذا البلد على الخارج. لكن ما يحصل اليوم لم يكن في الحسبان.

لقد حدث عكس ما كان مرجوا تماما. أصبحت الصين في أقل من أربعين عامًا القوة الاقتصادية الثانية في العالم بينما يبدو نظامها الاستبدادي للوهلة الأولى أقوى من أي وقت مضى.

والسؤال الكبير هو: إلى أين تتجه الصين وما هو الخطر بالنسبة للعالم؟

في سنة 1973 ، صدر كتاب "ألان بيرفيت" - Alain Peyrefitte – "عندما تستيقظ الصين ... سيرتعد العالم " (1)، وكان وقتئذ مجهودا استهلاليا بشكل ملحوظ. لكن الصين بدت آنذاك بعيدة ، وبعيدة جدا عن هذا التنبؤ. كانت كتلة بشرية بائسة على الخريطة ، شكلت أكثر الآفاق غرابة – من الوجهة الجيوسياسية زمنئذ. في ذلك الوقت كانت الصين الماوية – نسبة لماو تسي تونغ- قد ألهمت العديد من الشباب والطلاب أو المثقفين الغربيين، وجذبتهم.
------------------------------------------------------
(1) - le livre d’Alain Peyrefitte : « Quand la Chine s’éveillera… le monde tremblera »
تمت إعادة نشره في مجلدين ، على التوالي بعنوان Regards sur la chemin chinoise - " نظرة إلى الطريقة الصينية - و La Médaille et son reverse – "وجهان لعملة واحدة". قام "آلان بيرفيت" ، الكاتب والسياسي الفرنسي ، بزيارة إلى الصين في سنة 1971 على رأس وفد برلماني ، عندما كان رئيسًا للجنة الشؤون الثقافية والاجتماعية في الجمعية الوطنية. وبعد رجوعه، أصدر تقريرًا استقصائيًا عن حالة الصين في خضم الثورة الثقافية.
---------------------------------------------------------
يتذكر الجميع التتمة. على أمل حشد "بكين" لحملتها ضد الهيمنة السوفيتية ، قررت أمريكا "ريتشارد نيكسون" الاعتراف بالصين الشيوعية. ومنذ أواخر أربعينيات قرن العشرين ، وضعت الحرب الباردة الاتحاد السوفييتي وشركائه في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. لقد قررت الولايات المتحدة، منارة الديمقراطية والليبرالية، إقامة قضية مشتركة مع أعظم دولة شيوعية في العالم!

ثم دقت أجراس خيبة الأمل مدوية. وظلت ترن منذ أوائل ثمانينيات قرن العشرين، لكن القليلين جدا من شعروا بقدوم الزلزال. استمتعت الولايات المتحدة بانتصارها في الحرب الباردة، وكان وهما. لقد كان الاتحاد السوفياتي هو الذي انفجر في بداية التسعينيات ، تحت وطأة الإخفاقات النظام الذاتية أكثر من الضغط من طرف واشنطن.

عبر جيلان، تغيرت الصين بالكامل. وبدأ يظهر قدوم الصين الجديدة ولو ببطء لكن بثبات. فعادة ما تستغرق قوة عظمى ما لا يقل عن قرنين من الزمان للظهور حسب التجارب التاريخية السالفة. لقد صنع أبناء ماو وأحفاده معجزة بعد "قتل الأب" بلغة "سيغموند فرويد". واليوم ، تتموقع الصين في قلب كل الإشكاليات الكبرى التي يتخبط فيها العالم – جائحة كورونا والمناخ والثورة التكنولوجية والنمو العالمي وسباق التسلح.

يجب الانتباه للشجرة التي تخفي الغابة في رؤية البعض، إذ أن "الشجرة" تتمثل في " الظهور السلمي للصين" ، أما "الغابة" فتتمثل في المنافسة مع العالم الغربي في مختلف المجالات (الاقتصاد ، التقنيات المتطورة ، مجالات التأثير السياسي ، المعركة الأيديولوجية - الاستبداد ضد النموذج الديمقراطي الليبرالي)، وهذا لأن الصين - بكل بساطة - عاقدة العزم فرض نفسها في كل مكان.

بالواضح، يهدف النظام الصيني إلى تولي زمام الكوكب. فمن خلال لعبة تأثيرات الكم والحجم والعدد ، لن يمنع أي شيء الصين من أن تصبح غدا الأولى في الاقتصاد العالمي، لكن شريطة أن لا يتعرض اقتصادها للخطر بسبب النمو الاقتصادي الصيني الذي يتعثر بسرعة عالية ، والديموغرافيا التي استقرت في أدنى مستوى. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى الانخفاض في المنتجات مع زيادة في النفقات، وبالتالي ستنخفض النتيجة إذا زادت النفقات بشكل أسرع من المنتجات ( ما يسميه الخبراء في الاقتصاد والمالية - scissor effect )، وإن استمر مثل هذا الوضع، من المرجح جدًا أن يزعزع التوازن السياسي القائم في الصين.

على عكس ما يبدو في الظاهر، إن الصين منهمكة الآن في "حرب أيديولوجية" لا هوادة فيها ضد الغرب. فالصين الجديدة أعلنت ، في الداخل والخارج ، الحرب على "الأفكار الغربية" ( الديمقراطية الليبرالية ،حقوق الإنسان ، حماية الأقليات...) وتقود القيادة الصينية حملة قوية ضد التأثيرات الغربية والتي تعتبرها خطيرة على البلاد.

ومما قد يتناساه الكثيرون ولا يولونه الاهتمام اللازم : أنه خلال هذا الصعود "النيزكي" ، ظلت الصين ديكتاتورية ، رغم أنه في الثمانينيات ، هبت القليل جدا من نفحات التسامح. إن ظهور طبقة وسطى حضرية من مئات الملايين، وعادة ما تكون مصدرا للاضطراب السياسي ، لم يغير شيئا. ومع ارتفاع مستويات المعيشة في الصين، ظل الحزب الشيوعي الصيني يحتكر السلطة بيد من حديد.

فالرئيس "شي جين بينغ" ، الذي تولى المنصب في عام 2012 ، ظل يعمل على تقوية النظام: المركزية المفرطة ، وسحق المساحات النادرة للنقاش، المجتمع المدني تحت المراقبة، قمع الأقليات. ومن المفارقات القاسية أو المفارقة للتكنولوجيات الجديدة، أن هذا المنعطف القمعي والتراجع للمسمار يعتمد بالأساس على التكنولوجيا الرقمية، وهي أداة للسيطرة شبه الشمولية على المجتمع.

من الواضح، أن الصين دولة شمولية، ونظامها صامد، وليس هنا ما يشير إلى تهديده. وخطابات الرئيس والمسؤولين الكبار على الدوام مرصعة بالإشادة بالماركسية "الأبدية"، وقد قال الرئيس الصيني مرارا وتكرارا إن الحزب الشيوعي الصيني نجح في خلق شكل جديد من الحضارة الإنسانية.

في أغلب الأحيان، يقصد الرجال الأقوياء والمستبدون والديكتاتوريون ما يقولون ويفعلون ما يقولون. فبقناعة وثيقة بأنه يشارك في إنشاء "شكل جديد من الحضارة الإنسانية" ، يقود الرئيس "شي جين بينغ" الصين ويدير شؤونها ويهتم بشؤون العالم. وهذا أمرغير مطمئن بالضرورة.
والحالة هذه، فما الذي يمكن أن تفعله أوروبا، بين الصين والولايات المتحدة ؟ وهل يجب أن تنحاز إلى أحد الجانبين؟

إن واشنطن تسعى إلى تحالف غربي ضد الصين حاليا، لكن الاتحاد الأوروبي لايزال مترددا. إنها تريد أن تصف الصين - التي تعد الشريك التجاري الأول لها بأنها "منافس منهجي" - systemic rival. لكن يظل أن القارة العجوز لا تنوي التخلي عن مزاياها التجارية مع الصين.
في المعركة من أجل المعايير - التكنولوجية ، على سبيل المثال - في إدارة البيانات وحمايتها ، ستفوز الصين لامحالة إذا لم يشكل الأمريكيون والأوروبيون جبهة مشتركة. لم يتم تحديد أي شيء حتى الآن بين الأمريكيين والصينيين. وفي السباق نحو الابتكار ، الذي يعتمد عليه المشهد الصناعي والتوازنات الاستراتيجية للغد ، ليس من المحتم أن تتفوق الصين على أمريكا.

فالسيطرة على المجتمع ، والعداء الذي يظهره الحزب الشيوعي الصيني تجاه رواد الأعمال ، يبدو أنه لا يتوافق مع اقتصاد الابتكار الذي ينوي النظام تعزيزه. و يرى المحللون الاقتصاديون أن الصين قد تلج مرحلة من النمو المنخفض والتقشف الضروريين لتطهير ديونها ، في وقت يتعين عليها تحرير الموارد التي تستدعيها شيخوخة ساكنتها. و يبدو أن الصين تسعى اليوم إلى تصدير نموذجها السياسي والاقتصادي أقل من سعيها إلى ضمان الدفاع عن النمط الاستبدادي للحكومة بشكل عام وتعزيزه.

من الواضح أن الصين لا يهمها تصدير "أيديولوجية دولة، لكنها تسعى لجعل العالم أكثر انصياعًا "لأيديولوجيتها"، هذه هي خطتها حاليا في معركتا ضد "العالمية الغربية". وقد وجدت الصين حليفًا مميزًا في شخص فلاديمير بوتين. تتلاقى المصالح الوطنية للصين وروسيا عندما يتعلق الأمر بنزع الشرعية عن الديمقراطية الليبرالية، التي يعتبرها "بوتين" نمط حكم عفا عليه الزمن.

بالتأكيد ، وبغض النظر عن التقارب مع روسيا ، تسعى الصين إلى الحفاظ على علاقتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة قدر الإمكان. إن استثماراتها وحجم تجارتها مع أمريكا - دون المقارنة مع تلك التي تستطيع تطويرها في روسيا - مثل حجم احتياطاتها بالدولار ، كلها تدفعها إلى تجنب المواجهة مع شريكها على رأس الاقتصاد العالمي. ومهما يكن من أمر، فما يهم "شي جين بينغ" بالأساس ، هو بقاء النظام الصيني، وهذه أولوية قبل التنمية الاقتصادية للبلاد.

عموما ، سيظل القلق الشديد قائم للغاية بالنسبة للعالم الغربي مع استمرار الحرب في أوكرانيا ومع تداعياتها الجيوستراتيجية الهائلة، إذ لا يمكن التنبؤ بالنتائج.