أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - الحلم بليليث















المزيد.....

الحلم بليليث


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 7135 - 2022 / 1 / 13 - 20:36
المحور: الادب والفن
    


وحيدا في وجه الرياح، أسس قضيته على اللاشيء. على العدم الذي لا يحتمل المساومة، اللاشيء المطلق. فالأمور كلها تبدو متساوية، متعادلة ومتماثلة، ولا مجال للإختيار العقلي المبني على الحسابات والموازنات المعقدة، كل الكائنات من البشر والحيوان والنبات والجماد والأماكن والأوطان والتواريخ والحوادث والأفكار، تتركز في نقطة وحيدة معتمة في نهاية الجملة. غير انه في لحظات معينة - الآن مستلقيا على السرير محدقا في السقف، ذلك أنه فتح عينيه منذ دقيقتين قبل نهاية الصفحة السابقة - يحس بتلك الرغبة الانسانية البدائية في معرفة هدوء البيوت الدافئة، والحصول على مكان ثابت فوق سطح الأرض يدس فيه رأسه، مكان دافئ يحتضن جسده المقرور، وعنوان يستقبل فيه رسائل الناس الذين غابوا، أو غاب هو عنهم ونسي وجوههم المتعبة ونسي آلامهم وأحلامهم، وأختلطت عليه اسماءهم في ذهنه. تمنى ذلك في يوم من الأيام، لكنه لم يكتب أبدا أية رسالة. صوت مطرب شرقي ميت ينوح من بعيد، يلتف حوله مرة، ومرتين، يكاد يخنقه، ثم يعاود النواح، ويرجعه إلى الشارع حيث الزحمة والصخب والقذارة والتعب والموت خلف الأبواب. ويقفل النافذه ليتنفس. رغوة البيرة وطعمها المميز يحمله بعيدا، لا شك في أنه طعم البيرة، هذا الطعم الخاص الذي لا يشابهه أي طعم آخرهو الذي جعله يتذكر البحرالذي لم يره منذ أعوام وأعوام. سأعود حتما إلى البحر، يقول ذلك ملوحا بيده، سأعود إلى أساطيره وأمواجه وزبده وشواطئه الرملية، سأجري على الشاطئ وأجمع الأحجار اللامعة وأدفن جسدي في الرمال الساخنة، سأعود إليه قريبا وأغطس في مياهه المالحة، هكذا أخبرته العرافة ذات يوم، قبل بداية الرحلة.. ستجتازالمياه ياولدي، مرة ومرتين وثلاث. ويشعل لفافة أخرى، ليخفي إحساسه بالخجل، فهو لم ير البحر في حياته، سوى في المجلات المصورة وبعض الأفلام الشعبية، كما أنه لم يبتعد عن شارعه أكثر من بضعة كيلومترات، ولكنه سيكتب لكم من عرض البحر، ستعرفون أخباره، وسيحدثكم عن أحزانه وعن رحلاته الطويلة وهو يصارع عناصر الطبيعة من الرياح والعواصف والأمواج العالية، وستعرفون معاناته بعيدا عنكم وحيدا في قاربه الضائع وسط المحيطات تتربص به الأقراش الجائعة. ويواصل رحلته اليومية، يراقب سقف الحجرة الصغيرة ويتنقل ببصره من زاوية لأخرى يتتبع النتوءات والشقوق والبقع وخيوط العنكبوت وآثار الذباب على الجدران الشبه بيضاء. ومن حين لآخر يردد في نفسه "مفتاح" قضيته الأولى والأخيرة، "نحن نوجد في هذا العالم .. وهذا لا علاج له". وتتناهى إلى سمعه أصوات بعيدة، صوت خطوات تزداد اقترابا، خطى ثقيلة متباطئة ممزوجة بصوت لهاث حيواني منتظم، يقترب ويقترب، كتلة من الظلمة الداكنة تتحرك في اتجاهه، يميز جسده الضخم في أشعة الضوء الخفيفة المتسربة من نوافذ البيوت الواطئة، يواجهه، يتوقف أمامه، تفصله مرآة رقيقة عن أنفاسه الساخنة ولهاثه الرتيب، وتشده إليه عيناه المشعتان ببريق متوهج. من أنت؟ يسأله ببراءة ممزوجة بقليل من الخوف، ربما لا إسم لك، أو ربما ..لا أستطيع أن أسميك، ومع ذلك أعرفك وتوقعت مرورك من هذا المكان، لا بد أنك تمر من هنا كل يوم. وحاول أن يضحك ليخفي قلقه المتزايد، وبدلا من ذلك وضع يده في جيب معطفه وأخرج سيجارة ثانية، وعلى ضوء عود الكبريت المرتجف ترائى له الوجه المعذب تعربد فيه أصوات الغابات الكثيفة ورائحة المستنقعات وغياب البحر، وأسنانه تتلألأ في الظلمة. وحش خرافي ام مخلوق وهمي من الهواء والدخان والضوء الكابي، يصدر عدة أصوات متوحشة غامضة، أم مجرد صورة ترسمها كلمات ضيعت معانيها وأخطأت الطريق؟ ويزيحه بيده الغليظة جانبا، ويواصل سيره مترنحا. يحدق في ظهره المنحني وهو يبتعد متثاقلا، أي هم يحمل في قلبه هذا الحيوان التائه ليلا، أي هم ينخر جسده وروحه، وأي ألم يسمم وجوده، وأية أحلام يراها في نومه؟ تنغرز الأسئلة في لحمه كالإبر الساخنة، ويشعر بالرغبة مرة أخرى في غسل أمعائه بالعرق الرديء. فللعرق خاصية عجيبة، يمتص الأسئلة، ويذوب إشارات الاستفهام، ينشر اللهب في العروق، ويحيل كل شيء إلى رماد. وها هو يتحرك بثقل مثل تمثال من الملح، يرفع قدمه الأولى عن الأرض قليلا، ثم يضعها.. ثم يرفع قدمه الثانية ويعاود وضعها هي الأخرى على الأرض بنفس الرتابة، ثم يعاود رفع القدم الأولى .. وهكذا منذ الأزل وبرتابة قاتلة إلى ما لا نهاية، مستمعا إلى صوت وقع خطواته على الطريق، صوت الحصى والبرك القذرة والعلب الفارغة وأصوات أخرى تتناهي إليه في بعض الأحيان قادمة من تلك المغارات المحفورة تحت جلده والمسكونة بالرعب والأشباح. ولكن ها هو صوت آخر، صوت يعرفه ويسميه في أحلامه بالصدى، صدى صوت ليليث، يخترق هذا الكابوس ويلاشيه في لحظة. يأتيه الصوت خفيفا شفافا مثل أشعة القمر، مثل أغنية قديمة لا يتذكر كلماتها، يقول له الصوت الخافت شيئا ما، كأنه يناديه من بعيد. ويدرك النبرة الكاذبة في صوته، ونداء ليليث يبتعد حيث تدرك أنها لن تراه قبل أن تتكون وعيا وذاتا. ولكنها مع الوقت ستنسى، بل ستنسى كل شيء بعد لحظات من وضع سماعة الهاتف في مكانها، وستعود إلى عالمها الطفولي المليء بالشمس والشفافية والحياة .. يمكنه هو أيضا أن ينسى هذا النسيان، ان ينسى هذا الصوت، ولكن هل يريد أن ينسى؟ ويمكنه أيضا انتزاعه من داخل أعصاب دماغه وإخراجه من حلمه وقذفعه بعيدا خارج الصفحة، كما فعل مع إبليس ذاته منذ لحظات قبل ظهور ليليث. لنتوقف إذا لحظة واحدة، لنراجع الأمور ولا داعي للعجلة، فرشفات قليلة من العرق، ربما ستركز حواسه كلها على هذا الطعم اللاذع، طعم الفقر والأرض المحروقة، هذا هو الحل الوحيد الذي تفتق عليه ذهنه بعد التفكير الطويل، والليلة أيضا تبدو طويلة، سوداء ومعتمة، والوحدة باردة، والشوارع الخالية تبعث على القلق، وهذا الخوف المتركز في عيون القطط، والتي ما أن تحس بتواجد بشري حتى تختفي تحت السيارات وخلف علب القمامة، وتنتظر. وهذه الجدران .. هذه الجدران العالية التي لا تنتهي على مد البصر.. والبشر المختبئون وراء الجدران .. يجترون الهم الملتصق بجلودهم، ويحلمون، وربما يحلمون أيضا بليليث وبإعادة خلق البشرية، بدون جدران هذه المرة.



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عذاب القبر
- سيجارة السابعة والنصف صباحا
- الآخر ومنفى الأنا
- الكابالا والفلسفة الحديثة
- التصوف والعدم
- اللغة كسلاح ملوث
- الثورة .. والثورة
- عار الكلمات العارية
- أزمة العقل وضرورة الثورة
- المادة والثورة
- الحيوانات تحب لعق البترول
- الأمل أفيون الفقراء
- فكرة .. مجرد فكرة
- عن السلطة والمال والسلاح
- الإنسان مشروع الألوهية
- الرقم الروحي أو QR code
- الفن والحشيش وضرورة الهلوسة
- الإبداع الفني والمخدرات
- تيك تاك
- شكيبير .. الشاعر المسطول


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - الحلم بليليث