فنيّة اليوميات ولغتها في ولهِ الشاعر عمر السراي


مؤيد عليوي
2020 / 9 / 7 - 12:15     

شعرُ "ولهٌ لها" يضم أكبر حشد من صور اليوميات ولغتها في التداول اليومي الانساني، موظفا إياها الشاعر عمر السراي، توظيفا فنيّا في خلق صوره الفنيّة لـأغلب قصائده التي ضمتها دفتي ديوانه، لتعبر عن الذات الانسانية الوالهة للمحبوب، فقد كانت لغة اليوميات تتلألأ بين سطور القصائد وهي تحمل المعنى المراد في غير مباشرة أو تقريرية، بل تلدُ معاني العشق والوله والنوى..، وكأنكَ لم تقرأ شعرا من قبلُ، لتكون عاطفة الشاعر هذه مع صدقه في التعبير الفني عن ذاته الوالهة ولغته الشعرية وصور اليوميات العراقية وغير العراقية ليمثل الديوان وقته وقت الانترنت والفضائيات، في هندسة خيال خصب خاصة بكل قصيدة من الديوان بما يجعل له بصمة واحدة هي بصمة المهندس الشاعر السراي، وهذا ما يُصيرُ الديوان بأن ينماز عن غيره على طول التجربة الشعرية الحديثة، منذ كانت بواكير محاولات عباس محمود العقاد وجماعته النقدية الشعرية "جماعة الديوان" سنة 1920، تحاول تطوير الشعر العربي بما يعبر عن الذات الانسانية في يومها الملتاع أو المسرور، إذ كانت تختلف فنيّة توظيف صور اليوميات ولغتها تلك أو هذه، من ديوان الى ديوان، ومن قصدية الى ثانية..، فأنا لا أدعي هنا قراءتي لجميع الشعر العربي الحديث - قصيدة نثر أو قصيدة تفعيلة - منذ مئة سنة ماضية، بل أنني متأكد أن الجيل الجديد جيل هذا الوقت كتب وسيكتب شعرا شيبه شعر عمر السراي في ولهه هذا، شعرٌ ينبع من الذات دون تكلف أو سعيا وراء المعاني إذ نقرأ قصيدة "مُستهَلٌّ أوّلُ" وهي مطلع الديوان، فعنوانها يشير لا محالة بانزياح الى الحزن من خلال اللغة اليومية في كلمة "المستهل" المستعملة في القصيدة الشعبية عند عزاء الامام الحسين، فهذه المفردة كثيرة التداول في زمان الفضائيات التي تنقل مجالس العزاء الحسيني مباشرة..، أما القصيدة "مُستهَلٌّ أوّلُ" فهي:(نحن لا نكتب الشعر نحن نغنيه كي تستظل القصيدة بالوجع الحلو/ والأمنيات فمَن سوف يمنحنا رئة حين ننسى..؟/ ويدفن آخر برعم حزن في جفن الفرات..؟) لنرى حجم الحزن والوجع المستمر باستعمال الفعل المضارع المنصوب بـ(أنْ) المضمرة في( كي تستظل) الذي عبر عنه الشاعر بشعرية "الوجع الحلو" فكلمة الحلو من اليوميات العراقية كما هو الوجع منها، وكل واحدة منهما منفصلة عن أختها في الاستعمال اليومي، إلا أن الشعرية صيرتهما في تركيب واحد إذ (الشعر لغة داخل لغة ) كما يقول جان كوهين، فالشعر رؤية للعالم وفلسفة عميقة والشاعر بدرجة نبي، من خلال صدق تعبيره الفني عن ذاته الانسانية وما يختلجها، ومن ذاك الحزن قصيدة " مرثية 2016 " حزن الشاعر ومرثيته الغزلية عمّا كان من المعشوقة، منها :( ....ولأن الشاعر أقسى من أن يظلّ مكالمةً لم تردي عليهاأو رسالة لا تفتحيهاأو وردةً تذبل في جيب قلبكِ سأذكركِ بالندبة الصغيرة التي ظلت منكِ في قلبي.....) في مثل هذه اللغة والمواقف اليومية، تفيض عاطفة شكوى العاشق السراي ولهً لها، فما ذكرَ هذه المواقف من الذكريات إلا وهو متعلق بها، في مصداق لعنوان الديوان "ولهٌ لها"، فالشعر عنده رئة يتنفس ليعيش بها كما جاء عنده في "مستهل أول" :(فمَن سوف يمنحنا رئة حين ننسى..؟) وقد انزاح معنى النسيان الى معنى الموت، إذ دون الرئتين لا يعيش الانسان، وبهذا الاستفهام المجازي في السياق الشعري للنص، يكون الشعر هو الرئتين التي يتنفس بها الشاعر، وهل الشعر إلا نزعة نحو الوجود، وهل وجودنا في أية حالة من الحالات الانسانية التي نمرّ بها إلا تلك اليوميات ولغتها العبقة في التعبير عن ذواتنا..،
فلو فتحنا ديوان "ولهٌ لها" نحن القراء، دون قصد في البحث عن قصيدة محددة، سنجد تلك اليوميات ولغتها تعبر عن الذات الانسانية بهدوء جم، منها قصيدة "مطر 1":( أختبئ في قلب غيمةٍ حين تمطر فأين سأختبئ حين تداهمني ذكرياتُ حضنكِ الاخير..؟!)، وهكذا.....، بقي أن يشير النقد الادبي الى أن بياض الورقة أو فضاء الورقة الفارغ الذي يوحي بالتأمل للقارئ بعد عنوان كل قصيدة، ذاك البياض دون أية كلمة بين العنوان وأول سطر من القصيدة، جاء ليجسد نقاء ولهِ الشاعر، من حيث البياض دلالة النقاء، كما يشي بالوقوف عن الكتابة لبيان عمق الوله الذي يسبب الارباك أحيانا في التعبير بين المحبينَ، وهو مِن يوميات العاشقينَ، كما يميز الديوان شكله من القطع الصغير مع خط العنوان وصورة الشاعر، بما يتوافق مع المضمون الشعري وصور اليوميات الانسانية ولغتها فيه، ليكون الديوان كتاب جيب، بمعنى يحمله القارئ معه في يومه يقرأ فيه أنى شاء، بما يتصل باليومي من والواقع وحركته..، كما ثمّة صور ليوميات ولغتها كان الشاعر السراي قد استلّها ببعد أنساني من سفره أو مشاهدته للفضائيات ووسائل الاتصال، وهي من يوميات شعوب أخرى، مواجها الواقع العراقي بها، بأن ثمة أنسان في هذا الوجود الواسع يعيش بهذه الطريقة الجميلة، لماذا نحن لا نعيش مثله أو أفضل منه حتى في سلام وطمأنينة ونعيش حياة طبيعية؟!، متخذا من تلك المشاهدات ظلالاً لعاطفته وعاطفتها فتكثر هذه الصور في قصيدة "مشاهد حرة " (من ص: 50 الى ص:70)،وغيرها من النصوص التي تزخر بصور فنيّة مُستقات من شاطئ البحر وحركة الناس هناك مثلا، مما ليس للعراق فيه نصيب..، ثم نعود الى الواقع اليومي ولغته ففي قصيدة " عودة" منها مطلعها:(كلما تذكرتُ عطركِ يغمرني الأسى كشرطي مرور يداهم سائقا يقبل حبيبته في الزحام/ كلما تذكرتُكِ/ أعود طفلا يرسل بصره ليتابع ارتخاء نهدين أمامه لفتاة تنحني/ .... ) فالتشبيه واضح وجلي في مداهمة الاسى له بشرطي المرور وهو يقوم بعمله لكثرة الزحام في الشارع العراقي، مع رسم الشاعر لصورة متخلية وهو تقبيل السائق لحبيبته وسط الزحام، ومن اليوميات العراقية المرّة- الحروب والعسكرة- قصيدة "عكاز " حبيبتي غدا ستنتهي الحرب وسأتحدث لكِ عن الشواجير التي القمناها بدمائنا وعن المدافع التي لم تكن تسأل عن طوائفنا وسأكشف لكِ عن وجوه جميع السياسيين المُصلين...).
ثم نختم هاهنا كما بدأنا بعناوين القصائد من مثل عنوان قصيدة "أم سبع عيون" فهي من الموروث الشعبي العراقي في ميثولوجياه اليومية المستمرة، كما ثمة عناوين تتصل بالوظيفة الحكومية من مثل قصيدة "من مذكرات عاشق متقاعد " إذ كلمة متقاعد في يومنا هذا لها وقع المَطالبة بحقه في راتب مجزي له ولأسرته، وله وقع أخرى عن تظاهراتهم السلمية المطلبية المتكررة بتلك الحقوق، فيوظف الشاعر تلك للغة والمواقف اليومية بخيال خصب لينتج شعريته المائزة، فمن قصيدة "من مذكرات عاشق متقاعد ":( عندما هجرتنِي يومها، قررت أن انشر رسائلك لي وصورنا معاً على الملأ ولأن (الفيس بوك ) لم يكن موجودا يومها نشرتها على استار الكعبة فأسموها ( المعلقات )....!! /.... ) .