التصدّق بالحرية!
باسم المرعبي
2020 / 7 / 31 - 00:44
صورتان متناقضتان كلّ التناقض طالما و جدتهما يطفوان على سطح الذاكرة في مناسبات تستدعي هذه المقارنة. صورتان تدلان على البون الرهيب الذي يمكن أن يحدث في فهم أو تفسير ذات الشيء هذا إذا أغفلنا هنا تماماً سوء النية والقصد والتشويه المتعمد، بدوافع شتى، كما في الواقعة الأولى التي سنعرض لها بعد قليل.
صورتان.. الأولى منهما تضج بالظلام والبؤس وتشير إلى أي مدىً يمكن للإنسان أن يستأثر ويظلم ويسيء بل و يدمّر، فيما خطابُه يشيع العكس تماماً. والصورة الثانية.. تفصح عن فهم وسلوك هو ذروة التحضّر والرُقي وكلا هذين المفهمومين يتضمنان بالضرورة الرُفق والمشاعر الإنسانية بكلّ رهافتها.
الصورة الأولى.. من أفغانستان أيامَ طالبان وسيطرة المرتزقة العرب أمثال ابن لادن الذي كان له نفوذه وسطوته كما هو معروف في هذا البلد السيء الطالع. لقد شاهدت هذه الصورة ضمن تحقيق بثته إحدى القنوات التلفزيونية الأجنبية عن أفغانستان والممارسات الرهيبة لأفراد طالبان وعلى ما أتذكّر فقد كان الريبورتاج سرياً، أي دون علم السلطات وقتها، عبر مغامرة محفوفة بالمخاطر قام بها صحفي أجنبي. وضمن استطلاع التحقيق لمشهد البؤس والفقر في أفغانستان عُرضت صورة امرأة هي أم لطفل عمره بضع سنوات لم تجد ما تأكله هي و ابنها سوى البحث في المزابل والطرقات لجمع الخبز اليابس وفي ما بعد تقوم بدقّ هذا الخبز كي يصبح ناعماً و يسهل تناوله. (يذكّر هذا بمشهد من فيلم "قندهار" للمخرج الإيراني المعروف "محسن مخملباف" حين تراجع سيدة أفغانية طبيباً بسبب ألم في بطنها، وبعد فحصها يقدم لها الطبيب رغيف خبز قائلاً لها ليس لديك من مرض، يا أخت، لكن هذا الذي يعوزك).
كان هذا يحدث في أفغانستان في الوقت الذي كان ابن لادن يتاجر بالماس والمخدرات ويستقتل هو وعصاباته من أجل الحصول على مختلف أنواع الأسلحة بما فيها الكيمياوية و حتى الذرية اشباعاً لنزعة عدائية شريرة، بينما خطبه تتباكى على المسلمين وأحوالهم مُبرراً جرائمه المعروفة بانها انتصار للإسلام!!
فأين كان من هذا الواقع و هو على دراية تامة به بل هو أحد صنّاعه، واقع المرأة التي لا تجد إلا فتات الخبز المخلوط بأوحال الطرقات قوتاً لها.
أما الصورة الثانية فهي النقيض لما تقدم. شيءٌ آخر تماماً.. لمسة حانية من لمسات النفس البشرية في ثرائها وإشراقها، إذ تنقل لنا كتبُ التاريخ التي تتحدث عن فترة صدر الإسلام السطر البسيط التالي: (كان المسلمون الأوائل يشترون الطيور من صيّاديها ويطلقونها تصدُّقاً)... هل ثمة شِعر أكثر تجسّداً من هذا؟ حيث الشعور بالحرية يغدو نوعاً من عبادة والوعي بها يدفع إلى التفكير بتحرير المحروم منها حتى لو كان طيراً. وأنا أنقل هذه الصورة على الورق أشعر بخفق أجنحة الطيور وأسمعها بل ثمة نسمات خفيفة تأتيني بفعل حركتها وهي تنطلق من الأقفاص أو من بين الأصابع إلى فضائها.
صورتان يمكن أن يُعزى كلاهما إلى الإسلام كمصدر ثقافي.. السلوك البنلادني وسيرة المسلمين الأوائل كما في مثال الطيور، لكن لا أعتقد أن ثمّة صعوبة لمن يريد تبيّنَ الصورة الحقيقية من الزائفة، المدّعية.