انا والكوليرا والنائب الضابط بلعوط


بهروز الجاف
2020 / 3 / 25 - 17:28     

ونحن نمر بأزمة تفشي وباء كوفيد-2، بحضرة فيروسه الضيف الثقيل علينا كورونا الملقب بسارس-كوف-2، استحضرتنا ذكريات أيام الصبا، ذكريات جنديتنا وضياع بعضا من عمرنا فيها حربا ضروسا أمتدت علينا ثمان سنوات أكلت من أخضرنا ومن يابسنا الكثير، انها الحرب العراقية الأيرانية.
ففي منتصف الثمانينيات، كنت جنديا في صنف الطبابة العسكرية، أعمل في مختبر ميداني في وحدة الميدان الطبية الثانية التابعة للفرقة الآلية الأولى في قاطع الفكة على مقربة من حقول نفط البزركان شرق ميسان، وكان من ضمن سياقات العمل التحري عن بعض الأمراض المتوطنة والوبائية ومنها مرض الكوليرا.
في ذلك الوقت، ولغرض التحري عن الكوليرا، في فصل الصيف، كانت تأتينا علب (فيالات زجاجية) صغيرة تحتوي على ماء البحر المعقم (ماء مالح) من مستشفى الرشيد العسكري في بغداد، كنا نجمع فيها عينات الغائط من كل من يعاني من الإسهال، او كانت تجمع من خلال الفرق الوقائية التي كانت ترسل الى الوحدات المقاتلة في الجبهة ضمن قاطع عمليات الفرقة الآلية الأولى (قوات ابي عبيدة) لغرض رش المبيدات الحشرية و مكافحة القوارض وتفتيش الملاجئ.
وفي احد أيام الصيف القائض راجع وحدتنا نائب ضابط درجة ثامنة، تختة، اسمه (بلعوط)، حيث كان يعاني من إسهال، لم تكن في غائطه طفيليات، ولون غائطه طبيعيًا، ولكنه شبه سائل.
كان بلعوط مرحًا في كلامه ويتسم بروح النكتة، ضحكنا كثيرا كما هو حالنا عندما يراجعنا الجنود من الخطوط الأمامية الذين كان معظمهم يحتاج الى الراحة والابتعاد قليلا عن صوت القنابل وشم البارود.
ولأن التحليل العام لغائط بلعوط لم يُظهر إصابة طفيلية، والفصل كان صيفا، أي استبعاد الإسهال الوظيفي، الفسيولوجي، ولأن الغائط كان يحتوي على عدد قليل من خلايا القيح التي ربما كانت ضمن مداها الطبيعي، الا ان الحالة في عَرضها العام كانت إسهالا من دون ألم، قلت للنائب الضابط الذي أخذ راحته في الضحك، بأنك ربما تكون مصابا بالتهاب بكتيري وان علاجك بسيط هو التتراسايكلين وسوف يكون معه الفلاجيل المضاد للطفيليات الأولية ايضا، وسوف تتعافى بإذن الله وتعود، ولكني سوف ابعث شيئا من غائطك الى بغداد في هذه العلبة الصغيرة، فذُهل من قولي! قلت له نتحرّى عن الكوليرا، فضحك مرة اخرى وبدأ باطلاق كلماته الجميلة، ولكني كنت أرى في ملامحه ما لم يكن يرها احد.
رجع بلعوط الى الطبيب المعالج، استلم دواءه من الصيدلية، ثم قفل عائدا الى وحدته المقاتلة مرة أخرى، ليس بالوجه البشوش الذي أتانا به اول مرة، ولكن بالوجه الذي كان يعود به المقاتلون عادة الى السواتر الأمامية (الحجابات).
بعد شهر واحد، أتانا أمر عسكري بالتأهب وتوخي الحيطة من انتشار وباء الكوليرا، وعند الاستفسار من آمرية الوحدة تبين لنا بأن صاحبنا بلعوط كان حاملا لبكتريا الكوليرا.
رأينا استنفارا غير مسبوق في طبابة الفرقة، وآليات تذهب وآليات تعود، وجهاز الاستخبارات العسكرية يزور الوحدات، وتجمع التقارير، وتفتح تجهيزات الأدوية، وتشديد لامثيل له على حالات الإسهال، والإجراءات الوقائية تجري على قدم وساق، حتى ان تجهيزنا بعلب مسحوق الديتول كان كبيرا جدا ربما لم تمتلكها اليوم محافظات عراقية بأكملها!
أتتنا الأوامر تقضي بعدم ذكر كلمة (كوليرا) لأنها تمس بالأمن العسكري، وتؤثر سلبا في معنويات الجنود أثناء الحرب، وكان علينا أن نستعيض عنها بالتهاب المعدة والأمعاء الحاد حتى عند مستوى التشخيص الكلينيكي من قبل الطبيب. وقد عرفنا فيما بعد بأن الأوامر عينها مطبقة في وزارة الصحة أيضا.
وفي الحقيقة لم يكن هنالك وباء، بل كان شخصًا واحدًا فقط حاملًا للميكروب ولم تظهر عليه أعراض الكوليرا!