الصلاة خير من النوم ؟


احمد مصارع
2006 / 6 / 8 - 11:41     

يا ليتني أموت في بلاد ولا أسمع فيها صوت أذان ؟..
صوت ابن عباس يكشم عباءة الليل البهيم , وابن عباس هو الشيخ عمر , الذي كان طفلا حين أرسلته أمه الى الشيخ عباس والده , وكان قد امتطى صهوة المئذنة , لتسأله قبل أذان الظهر , ماذا ستعد للغذاء ؟
كان قد أطلق الصيحة الأولى : الله أكبر ..
حين جاءه السؤال من ابنه المؤذن العريق الذي سيسمع صوته عبر مكبرات الصوت من على سطح القمر لاحقا , في عصر غزو الفضاء ,فما كان من أبيه إلا أن يكمل صوت الأذان بالقول :
بامياء يا رسول الله .. ومن ثم الصلاة والسلام عليك ...
هذا الذي لن تغفره خالتي لهما أبدا ..
الزمن يهرول راكضا , وهو وان لم يكن مطاردا من أحد , إلا أنه يجري لاهثا بدون توقف , بحيث لا يهدأ من يجري معه إلا بانقطاع أنفاسه ؟!.
العقود التي مضت تفصلني عن خالتي , لم تزل تدمغني بطبعتها الطفولية , كنقش نافر على حجر , يصعب علي محوه , فحين لا اسمع صوت أذان في بلاد أجنبية كما يقال , سأنسى خالتي بشكل مؤقت , ولكن حين أحل في بلاد الآذان المعولمة من طراز جديد حيث أن كل مؤذن يقف منتشيا أمام عشرات مكبرات الصوت المنتشرة فوق أسطح العمارات , بحيث يكون من حق رجال الفضاء , أن يقولوا بأن ما يرى خارج غلاف الكرة الأرضية هو سور السور العظيم , وما يسمع عن الأرض هو صوت المؤذن الشيخ ابن عباس ؟!.. فستبقى اللازمة الطفولية منعكسة على صفحة تصوري المحبوك من زمن المعالج العقلي السري الأول .
الحمد لله على نعمة العقل , ومن غيره نخمده على نعمة النسيان ؟!.
هذا ماكان يردده جدي , بين حين وآخر , يردده بحرص ووضوح , وكأني به يريد تخليد نفسه من خلال الطبع والحفر النافر للوحة وجوده , لكي لا يكون فاهيا , يمكن محوه بسهولة , كما تفعل مساحات مدارس الطفولة , لخطوط الأقلام الرصاص .
كانت خالتي الأصغر فيما مضى , من جميع الأحياء الأموات حاليا , تنتظر لحظات الإعلان عن بدء صلاة الفجر , قبل انطلاق صوت المؤذن بوقت طويل , ولذلك فهي تعتبره على الدوام متأخرا في إطلاق صوته , حتى لأكاد أتذكر نبرات صوتها وهي تتكلم بانزعاج صريح :
- ياللا .. يا وال , ياللا ابن عباس , أذن , اجعر , خلصنا ؟ الناس تريد أن تنام ..؟!.
كانت معركة خالتي معه , تبلغ الذروة معه , حين تسمعه , يؤذن :
- الصلاة خير من النوم ؟
تشرع حملتها النقدية الغاضبة وهي تقول :
- يا وال ابن عباس , أنت تؤذن وكأني بك نائما , سرح صوتك , أذن جيدا ..
الصلاة عبادة والنوم عبادة ...
وحين تبدي رأيها , كان مخي الصغير يلتقط ويسجل بقوة منطقها :
- يا وال ابن عباس , إذا كان( اليبرق أحسن من المجد ره والد ولمه أحسن من الفاصوليا) , هل سنطلع للمئذنة ونصرخ أواخر الليل , بهذه الحقيقة ؟ فهمنا .. قلها مرة واحدة .. كأني بك مرغما من سلطان النوم , بالصراخ مرات عديدة ..وأنت تفضل النوم على الصلاة ..
كان المؤذن ابن الشيخ عباس , الموظف الديني في مسجد جدي , وحيث أن الشيخ عباس كبير في السن مثل جدي , فقد رأى أن من الضروري أن يريح نفسه من عناء الآذان , لذلك حفظ ابن الصغير اسطوانة الآذان المشروخة بصوته الطفو لي الاستفزازي للغاية , ولم يكن جدي يرى في ذلك ما يستحق الاستهجان أو الرفض , فالشيخ عباس مسن مثله , ومن حقه أن يرتاح , وحين ينطلق من حنجرة صغير ,فقد كان ذلك أدعى لارتياح جدي ..
أن يبدأ النهار الجديد من صوت طفولة بريئة , تؤكد استمرار الحياة على نفس المنوال خلل الأجيال القادمة ؟. بنفس الطريقة , وذات الإيقاع , بل ذات الحياة ...
إنني لن أنسى تمنيات خالتي الهازئة وهي تقول :
- يا ليتني أموت في بلاد لا يسمع فيها صوت آذانك ...
لكن مشكلة المؤذن الصغير , من مقاومة خالتي الأصغر في قبوله , وهو الصغير , الذي كما تتخيله يحفظ ويهرف بما لا يعرف , في ايقانية مستهجنة , كما يحتج الشخص الكبير على طريقة تلقين ببغاء لكلمات تسئ للذوق العام , وهو الطائر الذكي والبرئ ؟
- يا وال يا عجي , ابن عباس , أراك طفشت الناس من الصلاة ,كرهت الناس من دينها , روح نام أحسن لك , جاءك النوم , روح لأمك ؟.
كل فجر مع كل آذان , من عصر الغرامافون ( الحاكي) , فالاسطوانات , فالفيديو الشريط , فالراديو , وحتى بداية التلفزيون الأبيض والأسود , وحتى الموت , تظل المناظرة فيما بينهما مفتوحة على الموت والحياة فالأبدية ..
لقد اند رست قبور الأحبة المتنازعين , بل واكتظت من الزحام , ولم يبق إلا السلام , السلام على الأبدية , والسلام ..؟.
- ليتني أموت في بلاد لا أسمع فيها آذان أبناء وأحفاد عباس ...
سأقرأ الفاتحة على روحك الطاهرة ..