الإيمان بماذا؟ - محاورات أُمبرتو إيكو وكارلو مارتيني: والاحتياطي الكبير من الأمل
باسم المرعبي
2019 / 9 / 23 - 03:38
أحالني الحوار المتضمّن في كتاب "الإيمان بماذا؟" والذي نُشر، بدايةً، كرسائل متبادلة، بدايات العام 1995، واستمرّ حتى مطلع 1996، على صفحات مجلة "ليبرال" الإيطالية، باقتراح منها، بين الإيطاليَين الكاتب أمبرتو إيكو والكاردينال كارلو ماريا مارتيني، بمسحتهما، العلمانية، للأول واللاهوتية للثاني، أحالني إلى أكثر من تجربة مماثلة وشخصية، كانت سبّاقةً أو زامنت أفكارها، موضوع الكتاب، في الدعوة إلى الانفتاح، مثل الأب يواكيم مبارك وجهوده المبكرة في تعزيز الحوار بين المسيحية والإسلام، ويجدر هنا، التذكير بكتابه "إبراهيم في القرآن"، الصادر عام 1951 وكان أطروحته للدكتوراه، متناولاً الأديان التوحيدية الإبراهيمية الثلاثة وبشكل خاص، الإسلام والمسيحية. ولا يمكن أيضاً إغفال كتابه الآخر،"الإسلام ـ 1962، الذي كرّسه لمناقشة الأفكار "الغربية" المسبقة عن الإسلام والانحيازات المضادة له. كذلك السيد محمد حسين فضل الله، ودعوته، لاسيما أواسط التسعينيات، الشبيهة بدعوات الأب مبارك للحوار والانفتاح، وكان يريد لدعوته للحوار الإسلامي ـ المسيحي، عدم الاقتصار لبنانياً، بل أراد لها أن تكون عالمية، وكان يتوخى لخطاباته الفكرية والسياسية أن تصل إلى "البابا"، بوصفه يمثل المركز الأول للكاثوليك في العالم، كما يذكر. كما ثمة الإيطالي مايكل أنجلو ياكوبوتشي، صاحب الكتاب الموسوعي "أعداء الحوار ـ أسباب اللاتسامح ومظاهره". هذا بتجاوز جهود ومبادرات أقدم عهداً كرسالتي لوك وفولتير، المعروفتين، "في التسامح". لقد كان الانفتاح على الآخر المختلف، جوهر ما انطوت عليه مخاطبات إيكو ومارتيني، سواء كان هذا الانفتاح يُنشَد في الديانات ولها أو ما بين فروعها، أي مذاهبها، وهو هنا انفتاح ذو طابع ديني، وغير بعيد عن ذلك، ثمة الانفتاح المتمثّل بالعلماني على اللاهوتي أو العكس، ومثاله هذا الكتاب. لكن على الرغم من خصوصية صبغة الحوار، هنا، أو في الأقل خلفيته إلا أنه في العمق وكما أُريدَ له، كان أقرب إلى مقترح أو مشروع عالمي لحوار واسع يتخطى، دون نبذ الهويات أو الخصوصيات الثقافية، الديني ومشتقاته، كما العرقي والمناطقي وكل أشكال الفروقات. في هذا الحوار يتوصل إيكو إلى دحض الانطباع السائد عن طبيعة المناقشة بين العلماني والديني، ونزعة الديني إلى مواجهة سؤال العلماني بسؤال مقابل، حيث نجح المتحاوران في التغلب على هذه العقبة ومواصلة الحوار في مناخ مثالي من الاحترام والتفهّم المتبادل حد أن إيكو قال: (قمت ولثلاث مرات بتدمير الأسطورة القائلة بأن اليسوعيين يجيبون عن السؤال بسؤال آخر). يتهيكل الحوار على أربعة أسئلة اتخذت شكل وطبيعة المباحث، اقتضت، بدورها، أربع إجابات موسّعة، وكان المبادر بالأسئلة الكاتب أمبرتو إيكو، خلا سؤال واحد، هو الأخير، ختم به الكاردينال مارتيني النقاش، الذي أشار إلى شكوى قطاع من القرّاء من صعوبة الحوار، ليجيبه إيكو، بأن ذلك يرجع إلى تعوّد البعض التفكير ببساطة شديدة. وهو ما توقفت عنده، أيضاً، المترجمة "د. عواطف السعدي" في مقدمتها، لتقتبس رأياً ـ حازماً ـ للكاتب يتصل بالموضوع، من روايته "العدد صفر"، يقول فيه: إن واجب المؤلف ليس كتابة ما يعتقده القارئ لأن المشكلة ليست فيما يحتاجه بل فيما يجب أن يتغير فيه.
يُستهل النقاش بسؤال ـ مبحث حول "فرضية" نهاية العالم، والتي راجت، كما هو معروف، عند أعتاب الألفية الثالثة، وإن لم يكن مثل هذا الهاجس بالجديد على البشرية التي عاشت وتعيش على الدوام هلع فكرة نهاية العالم، خاصة إذا كان هناك ما يحرك ويوقظ هذه المخاوف، فصورة (الحشود التي تنوح بانتظار فجر لن يشرق أبداً) والمرتبطة بالنهاية، قد هيمنت على الفكر لمدة عشرين قرناً، بتعبير إيكو. من هنا كانت فرق ما يُعرف بالمليارية المرتبطة بفكرة النهاية عند كل ألفية. حتى إسلامياً، ثمّة الحديث وإن لم تثبت صحته "ان الدنيا تؤلف ولا تؤلفان". غير انّ القرآن ينطوي على ما هو أكثر وضوحاً وحسماً وثباتاً بخصوص الكلام عن الساعة وقيامها وأشراطها، ولا عجب إن التقى في ذلك مع الديانات الأُخرى حتى في بعض التفاصيل. غير أن هذا الهاجس، في أزمنتنا التي نعيش، صار يُغذّى من منابع لا دينية كما يلوّح إيكو، بتجاوز مرجعه الأساس وهو الاصحاح 20 من "رؤيا يوحنا"، الذي يراه مارتيني، أي السفر بمجمله، خزان صور مرعبة. لكن حتى أولئك الذين لم يقرأوا هذا السفر، صار بإمكانهم قراءة العلامات المبشرة بالنهاية، قراءة محض بيئية، اقتصادية، في ضوء "منجزات" العصر وكوارثه. كما (في المخلفات النووية، والأمطار الحامضية، وغابات الأمازون الزائلة، وثقب طبقة الأوزون، والجوع في القارات كافة، والأوبئة الجديدة، وهجرة الجموع الفقيرة الممزقة التي تطرق أبواب المترفين، والتغيرات المناخية)، وسوى ذلك. وهو ما يجد توافقاً مع قناعات وفهم الكاردينال مارتيني، الذي يرى أن التهديدات البيئية حقيقة ماثلة وهي مقلقة بسبب من طبيعتها العلمية، على العكس من أوهام الماضي التي كانت سائدة. وبالتفاتة شعرية منه تبعث بنفحة أمل، عند تعليله دوافع الأدب المروّع، كما تندّ عنه نصوص نهايات العالم، إذ يعتقد أنّ وراء ذلك تكمن جموع من المقهورين بفعل وطأة أشكال متعددة من المعاناة وهم لا يجدون حيلة للخلاص إلا بانتظار زمن تدكّ فيه القوى الكونية، الأرضَ لتسحق أعداءهم. ليخلص إلى القول (إن أيّ كتابة عن نهاية العالم تحمل معنى طوباوياً كبيراً واحتياطياً كبيراً من الأمل، لكنه يمشي جنباً إلى جنب مع استسلام مرير للحاضر). إذاً بإلحاح من هاجس رأس الألفية الجديدة أو كما يسميها الكتاب "الهوس" وما كان يعنيه، وقتها، تمت دعوة هاتين الشخصيتين إلى هذا الحوار، بوصفه تبادل أفكار بين رجال أحرار، كما أراد له إيكو أن يكون وعبّر عنه في استهلال رسالته الأولى إلى مارتيني الذي يُنظر إليه كأستاذ للحياة الفكرية والأخلاقية، ليس لأتباعه فقط بل حتى لأولئك الذين لا يخضعون إلا لسلطة العقل وحدها، حسب تعبير إيكو، ليتبيّن القارئ المنزلة التي يتمتع بها المحاور الند الذي اختارته المجلة لهذه المهمة. أولى التفاتات إيكو، "المتحررة" هو تخليه عن استعمال أي لقب لمحاوره، لتبدأ رسالته بـ "العزيز كارلو ماريا مارتيني"، مستدركاً، أن ليس في ذلك أيّ نوع من قلة الاحترام، مبدياً انبهاره بطريقة الفرنسيين عند إجرائهم مقابلة مع شخصية ما، حيث لا ألقاب، وتكون المخاطبة بالاسم مجرداً. على أن التوقف عند تفصيل كهذا بدا أنّ له ما يبرره ضمن فسيفساء، شاملة، إن صح القول من الفكر والفلسفة والأخلاق والمنطق والنزوع الشعري، في الآن ذاته، إن عزّت البراهين المجسّدة أو مع وجودها. حتى وإن بدت الموضوعات المثارة، من إيكو، بشكل خاص، ذات طبيعة على صلة مباشرة بالكنيسة أو موجهة لها، وهو ما فرضته متطلبات وتصميم هذا اللقاء، في الأصل، كما في الحديث عن الإجهاض أو المرأة والكهنوت، لكن هذه لم تكن سوى عناوين وعتبات غايتها أن تفضي إلى رحابة الحياة ذاتها، فالحديث عن الأول، مثلاً، يتحول إلى الحق في الحياة بالمطلق دون المساس بحقوق المرأة المعنية بالموضوع بشكل أساس، كونها (المكلفة بأرق وأنبل ما في العالم) ويذكّر هنا مارتيني، وبشكل حميمي، القارئ أو محاوره أن المسألة تتعلق بالوجوه، وهو يعني وجه الطفل المتشكل حديثاً، لكأنه يتساءل عن مدى إمكانية شطب مثل هذا الوجه الصغير، الجميل. ليستعير من الكاتب "إيتالو مانسيني" ما يدعم رأيه بمجاز الوجه، والمقتبس هنا بتكثيف وتصرّف: إنّ عالمنا لكي يكون ملائماً للعيش وللحب، ما كان ليُخلق من أحداث من التاريخ أو من ظواهر طبيعية بل من تلك الوجوه، الوجوه الجديرة بالنظر إليها والجديرة بالاحترام والرعاية. وغير بعيد عن ذلك يتساءل إيكو عن الأسباب التي تدفع الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الشرقية عموماً، القائمة منذ ألفي سنة، كما ينبّه إلى هذه الأخيرة، مارتيني، إلى حرمان المرأة من دخول سلك الكهنوت. يعتقد إيكو، وهويعرض حججه، استناداً إلى معرفته المعمقة، أن ليس من سبب لذلك، وهو هنا ينطلق من خلفيته اللاهوتية، فقد تلقى تعليماً كاثوليكياً حتى سنّ الثانية والعشرين، وهو لا يتوانى عن القول أنه ما زال بعد سنوات طويلة يشعر بالرعب ويرتجف من تدنيس المقدسات. كما يلامس إيكو نقطة في غاية الحساسية، لما يترتب عليها من مآل قد يقود إلى الصراع، تلك هي المتعلقة بفرض نمط محدد من الحياة على العلماني، من وجهة نظر دينية، مطالباً باحترام خصوصيته وخياراته التي يُراد لها أن تكون حرة، ويرى بالمقابل أنه لا يحقّ للعلماني توجيه النقد لنمط حياة المؤمن، إلا في حال مخالفته قوانين الدولة وعدم الخضوع لها، غير أن هذه ليست بالشيء المطلق أو ما لا يمكن تغييرها، كما يستدرك مارتيني في رده، على هذه الجزئية. المبحث الأخير تمثّل في سؤال مارتيني الذي يتلخص باستفهامه عن الأساس الذي يبني عليه العلماني اليقين والضرورة في عمله الأخلاقي؟ والذي يمكن إيجاز إجابة إيكو في إطارها الذي يجعل من الآخر، ولا شيء سواه، المعيار الذي تقوم على أساسه أفعال العلماني، وصولاً إلى التضامن والإيثار للغير، حدّ الافتداء، لأنّ الآخر يغدو هو الغاية في ظل غياب القوى الميتافيزيقية، بالنسبة للتفكير العلماني، وهذا المعنى هو ما كان "يدفع بعدد من غير المؤمنين للموت تحت نير التعذيب من دون خيانة أصدقائهم، ويدفع آخرين إلى تعريض أنفسهم للإصابة بالطاعون في سبيل شفاء المصابين به..". يُعلّل مارتيني سؤاله، بأنه من أجل التشجيع على تعاون أوثق في القضايا الأخلاقية بين المؤمنين وغير المؤمنين. من هنا يمكن أن توجَز روح هذا الكتاب، بأنّ طرفي الحوار كانا يبحثان عن نقاط الالتقاء لا الافتراق، خوضاً في الكليات، عبوراُ للتفاصيل واستبعاد ما يمكن أن يشكل تعارضاً، ليصف إيكو ذلك، أي التغاضي عن ما يفرّق بـ "النظر إلى أعلى"، دون التفريط بمبادئ الاختلاف والحق فيه.
تبقى ملاحظة لابد منها، تخص الأخطاء اللغوية والطباعية والأسلوبية في بعض مقاطع الكتاب، كان من الضروري تلافيها، انسجاماً مع أهمية الموضوع وجهود المترجمة بما في ذلك مقدمتها للكتاب.
أمبرتو إيكو وكارلو ماريا مارتيني: الإيمان بماذا؟
ترجمة: د. عواطف السعدي
دار أبكالو، ميونيخ 2019
142 صفحة.