أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - سعيد أحنصال - أخطاء السياسة العربية.















المزيد.....


أخطاء السياسة العربية.


سعيد أحنصال

الحوار المتمدن-العدد: 6097 - 2018 / 12 / 28 - 21:21
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


أخطاء السياسة العربية
ماذا نقصد اليوم بالسياسة العربية؟
واضح أنها ليست سياسة الأنظمة القائمة في الوطن العربي، ومن يحوم في فلكها، فهي أبعد ما تكون عن العروبة، لأنها تخدم مصالح أعدائها ومضطهِديها الأجانب في ارتباطها التبعي بهم. وواضح، أيضا، أن المقصود ليس قوى البرجوازية الصغيرة والمتوسطة التي تشتق من "القومية العربية" شعاراتها النظرية وتجترح في الممارسة العملية ما ينبو عنها. فتصب السياستان معا، -على ما بينهما من تفارق ملحوظ، وعلى المديين البعيد والقريب- في خدمة الغرب الإمبريالي وتعضيد مشكلات الفَوَات والتجزئة والاستعمار فيما هي تزعم ضربها، عائدة بشعبنا العربي، بعد كل ما قدّمه من تضحيات عظيمة الجبروت، لنقطة البدء التي فيها تتبدد دماءه بدل أن تراكم للانقلاب الكبير، وتطفو الأوهام إلى سطح تفكيره بعدما حسبناها قد غدت من سقط المتاع في المسيرة الشاقة الشاقة.
إذا، ما هي؟َ
إنها سياسة الحركة الشيوعية العربية عامة، وفي القلب منها الحركة الماركسية-اللينينية-الماوية خاصة، كما تعكسها الممارسات العملية والنظرية لمنتميها أفرادا وجماعات، نتناولهم بالنقد كحالة عامة دونما تخصيص، ليس هروبا من الوضوح ووضع النقاط على الحروف، بقدر ما أن النقد هذا يكاد ينسحب على الكل، باستثناءات ضئيلة، فضلا عن اشتماله الأقطار العربية كافة. وأما "الأخطاء" التي تشكل صلب موضوعنا فمنوطة بمصادر عدة وينابيع متنوعة، تبتدئ من سوء تقدير طبيعة المرحلة، مرورا بطابع البداهة –كي لا أقول البلاهة- التي تُضفَى على الظواهر والأشياء تجنبا لأي كلمة مراجعة وتقييم، وليس انتهاءً بالإقليمية السياسية والقُطرية الإنعزالية التي تفشت بشكل رهيب، رهيب جدا.
بوسع القارئ الحصيف، والمناضل واسع الثقافة والآفاق، التنبؤ إلى خطورة "الخطأ" في المحاور الثلاثة سالفة الذكر، لا سيما فيما يترتب عنه من معضلات في بناء ممارسة سياسية صحيحة، للنظرية فيها موقع قيادي، منه تستشرف مستقبل الثورة العربية وتهيأ لولادته على صعيد قومي. والخطأ يستدعي نقضيه: الصواب. دون بلوغه مسيرة بحث تطول، هي ما نسعى في دروبه الوعرة بطرح عناوين مستفزة، لعل أدمغة وأفئدة تنتصب للرد عليها أو المبادرة لنشرها وتبنيها، فترتفع في الحالين معا نِسبَةُ الوعي الفكري والسياسي لجماهير شعبنا، وقدرتها على تمييز الغث من السمين، وفرز الصحيح من المعتل، وخوض صراع الخطين ضد الخطوط التحريفية.. دفاعا عن خط الثورة العربية-الديمقراطية الجديدة على صعيد قومي، والثورة الشيوعية على صعيد عالمي.
لنبدأ عملية التصويب ضد تمظهرات السياسة العربية الخاطئة، مقتصرين على أبرزها:
جميل أن يتحمس المناضلون، والشباب ركن أساسي ضمنهم، للقراءة وصحبة الكتاب، بعدما ظهرت حاجةً ملحة إثر انتفاضة الربيع العربي المستمرة (دجنبر 2010-...) من أجل فهم تعقيدات الواقع وحلّها، فتنعقد لها حلقات نقاش في الشارع والجامعات "الفلسفة فالزنقة"، "نوض تقرا"، "المقهى الفلسفي"، "المقاهي الأدبية"، "أجي نتناقشو". إلا أن هذه العملية برغم ما تبثه من أمل، تظل بعيدة عن تحقيق الغاية منها، ما لم تكن منظمة، أي خاضعة لبرنامج ثوري يحدد ما يتوجب البدء به والتعجيل بقراءته وفق محاور للدراسة والنقاش تنتهي للخروج بخلاصات وتوصيات، يجري الأخذ بها. بدل الاكتفاء بالاطلاع العشوائي وفق المزاج اللحظي المتقلب؛ تارة أطالع رواية بوليسية بحثا عن التشويق والأكشن، وأخرى أقرأ شعرا غراميا لأني أمر بتجربة عاطفية ما، وثالثة أتطفل على مجلة نسوية مندفعا لاقتحام عالم المرأة الداخلي! بشكل مبعثر، لا يخضع لأي منهج أو هدف، عدا تحقيق طموح شخصي لصاحبه في امتلاك سعة معارف تسعفه في إبداء رأيه من مختلف المسائل (و"الرأي سيء التفكير، بل إنه لا يفكر البتة". يقول أحد فلاسفة الحداثة)، وشغل مساحات كبيرة من الحديث اليومي في المقاهي بثرثرة مثقفاتية وعلموية لا نقول إنها تدعي امتلاك الحقيقة –فذاك فأل حسن، يمكن تزكيته أو دحضه- بل تنفي وجود الحقيقة أصلا باسم نسبية مفترى عليها. إن القراءة، في زمن الهزيمة والاشتباك ضد الهزيمة، ليست هواية أو متعة، كالسفر والرياضة وجمع الطوابع البريدية نرصع بها نهج السيرة الـ CV. إنها التزام حزبي ومسؤولية أخلاقية بروليتارية ومهمة نضالية بامتياز، لا يقتفي آثارها إلا من يجمع إلى جانب تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، حرارة الإيمان بعدالة القضية وضرورة انتصارها وإمكانيته والرغبة فيه. وبالانتماء لأحد الفريقين يرتسم الحد الطبقي الفاصل بين ماركسي مثقف ومثقف في الماركسية، ثوري محترف وابن عمه المنحرف، الجدل والدجل. يتولد عن ضعف القراءة ضعف في القدرة على رصد الانحراف ومواجهته، وتكريس للسلطة الهرمية بمعناها الاستبدادي داخل الهياكل التنظيمية الحزبية والنقابية والجمعية، يخضع المناضل الأقل عدة نظرية، وبالتالي رتبة تنظيمية، للأكثر امتلاكا لها ويهاب نقده، فتمسخ النظرية على أيديهما لتستحيل تكريسا لانعدام المساواة بين البشر، ينتهي المناضل إكليروسا والحزب معبدا والسياسة كهنوتا.
جهل النظرية سوف يدمرنا، لأنه يساوي جهل القضية، هروب منها للدفاع عن كل قضايا الكون كأسلوب للمناورة والالتفاف على التناقض الرئيسي والطرف الرئيسي للتناقض، ففي كل مئذنة –على ما يبدو- حاوٍ ومغتصبُ؛ يدعو لأندلسٍ إن حوصرت حلبُ! وإليكم هذا المثال حتى يتضح المقال: هناك من يفهم من الدعوة للعناية بالتاريخ دراسة واستفادة، بأنه التاريخ الشخصي للأفراد والأسر، فيعرضه بطريقين: فهو إما أن يختار أحد المقاومين المغمورين فيعرض نبذة موجزة أو مفصلة عن حياته، يحرص فيها على جانب المعطيات الزمنية من تاريخ الولادة إلى تاريخ الاستشهاد، وبينهما طبعا سرد كرونولوجي لتنقلاته وعملياته البطولية وما مرّ به من أهوال ومجاهدات واعتقالات... وإما أن يصطفي أحد رموز الخيانة ليصب عليه جام غضبه وقلمه، فلا يترك قبيحة من عمالته إلا أحصاها، ولا شائنة في أقربائه إلا استعرضها، مصرا على وسم هذه الكتابة الفضائحية التي تنبش في الأعراض من الجد الأول إلى آخر العنقود في شجرة العائلة، بـ "الموقف الثوري من الانتهازية"، واعجب إن شئت العجب.
أول من سيرحب بهذا النقد للانتهازية هي الانتهازية نفسها، سيصفق الأعداء لهذا الهجوم وهم يضحكون من سخافة عقول أصحابه الذين يقطعون أوراق الشجرة ورقة ورقة، تاركين فروعها وجدعها تنعم بطول سلامة وتنبت أوراقا جديدة. إن دراسة جادة للتاريخ هي أبعد البعداء عن هذا التسطيح، إنها ليست تاريخ هذا المناضل أو ذاك الجبان، هذه البلدة النائية أو تلك المدينة العريقة، أو قُطر أو مجموعة أقطار. إن المقصود بها هو تاريخ الأمة بمجملها، متى وكيف نشأت؟ وعوامل نشأتها ومقوماتها؟ والأخطار التي تحدق بها اليوم من الداخل والخارج؟ فإذا أضفنا تفصيلا صغيرا لمسألة البحث الكبرى بعد النجاح في الإمساك بمفاصلها الأساسية، كان ذلك مستحبا ومرغوبا فيه، يأتي من باب التعضيد والتأكيد لا غير. لا حاجة لإغراق القارئ وإجهاد عقله بالمعطيات والأحداث والوقائع الصغيرة التي نعلم جيدا أنها أول ما سينساه ويجعله دابر أدنه بمجرد إنهاء المقال. فضلا عن هذا فإنها أسلوب تجريبي يتعارض مع الفهم المادي للتاريخ بما هو حركة أنماط الإنتاج، لا سيما إذا كانت محض تفاصيل صغرى تخص قبيلة أو عشيرة محددة ولا يمكن لجهلها أن يؤثر قيد أنملة في إدراك الوضع العام لأمتنا العربية. ونرى بدل ذلك، أن تتجه الجهود إلى إبراز الصفحات المشرقة من التاريخ القومي العربي، ومظاهر وحدتها التي انصهرت فيها جميع القوميات المعروفة، والدور الذي لعبته اللغة العربية والتطور التاريخي والثقافي في تكوين هذه الأمة.
يستدعي واقع القراءة منهج قراءة الواقع: عند كتابة مقال، إنجاز عرض أو صياغة بيان، يلاحظ ذاك القفز الفجائي من الأممي إلى القُطري أو العكس دون التطرق للقومي، أي الوضع العربي خارج القُطر المشكِّل إطارا تاريخيا للثورة العربية-الديمقراطية الجديدة. تارة باسم الاستنباط وأخرى بتعلة الاستقراء كأسلوبين علميين لوضع كل ظاهرة في سياق انتاجها التاريخي والمعرفي، الذي يستولدها. يتم تشويههما بما يصب في تقوية الاتجاهات الإقليمية والانعزالية الهاجسة بهويات قومية محلية قاتلة، والمتوجسة من ثورة أمّوية يسندها التاريخ ويشهد لها العلم. يمكن التأريخ لموضة التبرؤ من لوثة العروبة والتنصل من القضية القومية وفلسطين صلبها في صفوف اليسار الثوري، ببداية سيطرة خط إعادة البناء التصفوي على منظمة "إلى الأمام" بالمغرب سنة 1979، وانكفاء أحزاب قوموية على ذاتها وانسلاخها عن تنظيم الجماهير العربية أينما وجدت كالبعث السوري وملحقته في لبنان. لم يسلم من هذا الوباء إلا منظمة "الشعلة" في تونس وما تفرع عنها من حلقات ماركسية-لينينية-ماوية أو منظمات ثورية آخذة في التشكل ومنذ العقد الجاري. فإسقاط البعد القومي من الحسابات إذًا ليس نتاج تدقيق للخط الفكري والسياسي وتطهير له من الشوائب التي لحقته بفعل القومية العربية التي سادت في مرحلة ماضية، بل هو انبطاح واستسلام للإمبريالية ومهادنة للقوى الشوفينية الرجعية وليد الانحراف عن النهج البروليتاري الثوري وجنوح نحو الإصلاحية سياسيا والشرعوية تنظيميا والسلموية عسكريا.
يستتبع حالة التقوقع الإقليمي هاته، هجاء لاذع لجماهير شعبنا في الجزيرة العربية المسماة جهلا بالخليج لإقصاء العراق واليمن منها. لا يجري استحضارهم في المخيال الجمعي لمناضلينا إلا كبدو وهمج ورعاة إبل وشاربي بول البعير و... قريش!!!، يتم تحميلهم وزر أنظمتهم العميلة المنسوبة جهلا إلى كبريات القبائل العربية ذات الحضارة العريقة كنجد وقريش والحجاز. وإذا كان لدى بعض "القوميين الاجتماعيين" في سوريا ولبنان ما يبرر هذا الهجوم في أسّ معتقدهم الفاشي الذي جهر به أنطون سعادة ذات زمن عن "سورية الطبيعية" أو "الكبرى" التي يتهدد حضارتها وتاريخها خطران: الصهيونية والعروبة (هل لميشال شيحا جريمة أخرى غير هذه؟)، ووجدت صدى لدى أقلام الحزب السوري القومي الاجتماعي ماضيا وحاضرا: بدر شاكر السياب وحيدر حيدر وناهض حتر وأدونيس، فإنه لا مبرر للشيوعيين أن يتلقفوا كل السم في الدسم الذي ترمي به إليهم أبواق ليبرالية وحداثية وتنويرية تدعي نقد "التخلف" و"الإسلام السياسي" فيما هي تنقد ينبوع الثقافة العربية ومصدرها الأول بنظرة استشراقية منبهرة بالغرب، ويحتقروا قُطرا عربيا ويرفعوا من شأن آخر، بما يذكي مشاعر العداء بين أبناء الشعب الواحد الممزق بين القُطرين بما اقتضته مصلحة سايكس بيكو وما قبلها. ما معنى أن تسب خصمك بأنه بدوي إن لم تكن في وعيك الباطن ضد مساواة الريف بالمدينة وضد الفلاحين كقوة رئيسية للثورة القومية-الديمقراطية الجديدة التي تنشدها وتسجنها في آن؟ فإن كنت تضمر العداء لشعبنا الجزيري لأنهم بدو، ولأن البادية شكلت البيئة الحاضنة للفكر الوهابي، فوجب التنويه أن هذا الفكر نشأ في المدينة ومنها تسرب إلى البادية التي قاومته بضراوة، فالفكر الوهابي –كما الفكر الماركسي- ينتقل للبادية من خارجها. ثم إن هنالك سؤالا ملحا: لماذا يقتصر رفض الفكر الظلامي في رفض الفكر الوهابي ولا يتعداه ليطال كل فكر ظلامي، بما فيه الفكر الشيعي؟
من لم تسعفه ظروفه في الاطلاع على تاريخ الأمة العربية في الجاهلية وصدر الاسلام وما أعقبه من عصور أُمَوية وعباسية، مثلت خلالها أرض الحجاز بشعرائها وخطابها وفرسانها وكرمها الربوة التي يصعب على أترابها بزها، فما عليه إلا دراسة تاريخها المعاصر لعله يعلم أن أعنف الحركات الثورية هي التي عصفت بالبلدان الجزيرية (التي تشمل اليمن والعراق، للتذكير) في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بقيادة "الجبهة الشعبية لتحرير البحرين والخليج العربي"، و"الجبهة الشعبية لتحرير ظفار" التي أقامت مناطق حمراء محررة في عمان جنوب البحرين لأزيد من العقد، ووقفت تتحدى بصمود أسطوري أزيد من 51 ألف غازٍ ومستعمر (إيرانيون وبريطانيون وأردنيون ومرتزقة محليون) مدجج بأحدث الأسلحة. وبلغ تأثيرها على محيطها أن كانت حناجر ألوف الرفاق بالمغرب الأقصى تردد مع الفنان سعيد المغربي: "ولدي فلسطيني.. ولدي ظفاري..." قبل أن تتحول ظفاري إلى جيفاري في الإيديولوجيا المهزومة التي تشربتها الشخصية الفهلوية لبعض العرب كما يعرّفها صادق جلال العظم في "النقد الذاتي بعد الهزيمة" أو محمود أمين العالم في "الإنسان.. موقف". ولا ننسى طبعا أسماء وازنة بحجم الروائي عبدالرحمان منيف ووزير النفط الأول الناصري عبدالله الطريقي وتجربة الحزب الشيوعي في السعودية والشهيد ناصر السعيد الذي تغنى به الشاعر العربي مظفر النواب عروة الصعاليك المعاصر، بل إن شبه الجزيرة العربية لها مفخرة تدشين حركة النهضة العربية وإطلاق شرارة الحركة القومية العربية المعاصرة، الأولى على يد محمد بن عبدالوهاب والثانية بقيادة حسين شريف مكة. إن الجهل وحده كافٍ لولادة مذاهب أحيانا، يقول بليخانوف.
ينطوي ازدراء عرب الشام والمغرب العربي أبناء الجزيرة العربية على هذا النحو السمج والسخرية المقرفة منهم، على اعتقاد باطل يجعل هؤلاء يحسبون أنفسهم يعيشون في بنية اجتماعية غير تلك السائدة في "الخليج"، تسمح لهم بنعت هذه الأخيرة بالتخلف والنظر باستعلاء إلى أهليها. لكن واقع الأمر أنها بنية اجتماعية واحدة من أقصى البلاد إلى أدناها؛ مجتمع زراعي متخلف، ونمط إنتاج استعماري شبه استعماري شبه إقطاعي وإن سمح قانون تفاوت التطور لقطر أن يتمظهر أقل رداءة من الآخر على صعيد تقني وشكلي يتعلق بالتمدِين القسري للأرياف وإقامة مؤسسات وقوانين صورية كالبرلمان والدستور والإعلام... يتم التباهي بها لإثبات عراقة ديمقراطيتنا وأصالتها. لكن هل يمكن حجب الشمس بالغربال؟ حقيقة أن الفلاحين يشكلون نسبة كبيرة في وطننا العربي والمدن المفبركة مطوقة بالأرياف من كل حدب وصوب؟ وأن التفكير الزراعي أو الوعي الإقطاعي هو السائد في مجتمعنا ويضرب بأطنابه الثقيلة على كل محاولات العلمنة والدمقرطة والإصلاح التي تجري من داخل البنية نفسها ومن مواقع ليبرالية ربما؟
من الجيد هنا لرفاقنا الشيوعيين نسيان كل ما درسوه عن القوى الظلامية في تلك الدراسات والكراسات التي تَرُدُّ نشأتها إلى ما قبل تكون نمط الانتاج شبه الاستعماري شبه الاقطاعي مع بداية التغلغل الإمبريالي ببلادنا منتصف القرن التاسع عشر، فتربطه بفكر ابن تيمية أو الغزالي أو الخوارج باحثة في أقبية الماضي عن تفسير لسمة العصر، وكل عصر. كأنما التاريخ حركة خطية غائية أوله ينبأ عن آخره وخاتمه، عوض أن يكون الحاضر مفتاح فهم الماضي وتفسيره، كما لدى ماركس. أسوأ من ذلك أن يتم ربط القوى الظلامية بشكل متعسف بدعوة محمد بن عبدالوهاب (1750) الإصلاحية وحركة عبدالعزيز آل سعود (1901) وثورة حسين شريف مكة (1916) الوحدويتين، والانتقاص منها وطمس الدور التقدمي الذي لعبته في مسرح التاريخ ضد الإقطاع العثماني.
ينطلق اليساري في محاكمة قوى الفاشية الدينية من وعي مشوه قُدَّ من كتبٍ ليبرالية ترى الأشخاص ولا تعترف بالطبقات، تتساوى لديها الأزمنة كافة في حركة لولبية جامدة، لا فرق في منظورها بين فرق "الإسلام السياسي" ماضيا وحاضرا، فيما عبّرت عنه في العصر الأموي مثلا من مضامين سياسية وما تعبر عنه الآن، لأنها تغيب مفهوم الصراع الطبقي وتكتفي من التاريخ بأحداثه في سطحيتها وهدأتها التي لا تنبأ بشيء. بيد أن المطلوب دراسة المحتوى الاجتماعي الذي ولّد الدين نفسه، وما انشق عنه من فرق فكرية وسياسية نطقت باسمه. ودراسة من هذا النوع لا تقود إلى نفي الطابع التقدمي، بله الثوري، للإسلام في بداياته. بل تؤكده بصرف النظر عن المحاكمات الأخلاقية لرسالته التوحيدية انطلاقا من معايير انسانية زائفة عن كونه انتشر بحد السيف! إلا أنها لا تقف عند هذا الحد، وإنما تتجاوزه إلى نفي استمرار تقدمية الاسلام –والدين عامة- مع ظهور نمط الانتاج الرأسمالي وسيطرته عالميا، إذ انتقل هذا الدور على الصعيدين النظري والطبقي إلى الطبقة العاملة العالمية وعلم ثورتها: الماركسية-اللينينية-الماوية. إن ما كان ثوريا في حقبة ما، قد غذا رجعيا خالصا في زماننا.
قراءة متمايزة للدين، لا يمكن أن يؤسس لها إلا الشيوعيون الثوريون انطلاقا من مفهوم الثورة الشيوعية العالمية ومتطلباتها كما أرسته الماركسية منذ ماركس وحتى الآن. يبدأ بتطليق الآراء الوسطية التي تنفي التعارض بين الإيمان والإلحاد، بين المثالية والمادية، وتصفي المسألة الأساسية في الفلسفة التي هي منطلق كل اصطفاف. لينتهي بها الأمر إلى تحريف الماركسية وثلم نصل السلاح الفكري للطبقة العاملة باستدعائها "نصوصا" لرعيلها الأول حول "أولوية نقد الأرض" وترك "نقد السماء" معلقا ومرجئا إلى يوم الدين بمسوغ أن المسألة الدينية ليست في المقام الأول، بل يمكن أن تبعثر صفوف الجماهير المؤمنة. فيكون الحل أن نتخلى نحن عن عقيدتنا الثورية من باب المداهنة ونطمس هويتنا ونبدي احتراما ظاهريا لعقائد الناس الرجعية. هذا الفهم الاقتصادوي المبتذل للثورة الذي يمني النفس بثورة وحيدة الجانب لا تمس الجبهة الإيديولوجية قبلا، برغم وضع إنجلز لها في الصدارة، سابقة على الجبهتين السياسية والاقتصادية، هو ما نقدته الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى في الصين (1966-1976) بطرحها شعاري "القطيعتين الراديكاليتين" و"الكل الأربعة" لإعادة إرساء مفهوم الثورة الشيوعية على أسس صحيحة، وتنقيته من شوائب عقود من التأثيرات الإصلاحية والتحريفية والأخطاء الثانوية. ودعت إلى القطع بحزم كل رابطة مع الأفكار والآراء التقليدية، والقضاء على كل الأفكار الناجمة عن علاقات الإنتاج الطبقية، وفي طليعتها: الدين.
يكتسي نقد الدين ضرورته من صيرورته أكبر عائق رجعي ينتصب أمام تحرر النساء؛ نصف السماء وضد تحرير الإنسانية من الاستيلاب. تستخدمه الأنظمة العميلة والقوى الظلامية لتجريم المناضلين وتحريم الفن والأدب الثوريين وتأليب الناس على الثورة والثوريين وتعطيل أمدهما. فلا يمكن القيام بالثورة ونصف المجتمع مشلول، ولا يمكن القيام بالثورة دون ثقافة وفن بديلين تحتل فيهما النظرية الشيوعية موقعا رئيسيا ويمهدان لها في أذهان الناس، ولا يمكن، أخيرا، القيام بالثورة دون تحضير الجماهير وتهيئتها للثورة واستيلام السلطة والاحتفاظ بها، تهيئة وتحضير على الصعد كافة، لأن ما نطمح إليه أبعد ما يكون من مجرد انقلاب عسكري، أو تأميم للإقتصاد، أو ممارسة ديكتاتورية البروليتاريا: بل قلب للبنيات التحتية والفوقية انقلابا شاملا ومواصلة الثورة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا كثورة ثقافية. يتم خلالها القضاء على القيم والعادات والمقولات القديمة وكنس كل ما هو رجعي ومحو الأفكار المثالية والخاطئة والتحرر من سلطة الأسلاف وسطوتهم على العقول. واضعين نصب أعيننا توجيهات معلم البروليتاريا الأول بهذا الصدد، التي يغيبها الإصلاحيون: "نقد الدين أساس كل نقد" و"لا يمكن التحرر من أي شكل من أشكال العبودية، دون التحرر من كل أشكال العبودية".
إن أخطاء السياسة العربية كثيرة، لا تكفي بضع صفحات للتطرق لها، ومهما حاولنا إجلاءها سيظل عملنا موسوما بالتقصير. ولكن إذا لم نستطع أن نرد القضاء فلا أقل من أن نسأل اللطف فيه، لعل تظافر الجهود جماعيا، والنقد والنقد المضاد، يسهم في إخراج القوى الثورية في وطننا العربي من عنق الزجاجة، لتمزق شرنقة النوازع الإقليمية التي خلفها الاستعمار من وراءه، فشرعت في تقديسها وإيجاد المبررات النظرية لها. أليس "كل ما هو واقعي معقول؟" فالاستعمار الجديد واقعي، والكيانات السياسية القطرية واقعية، وسايكس-بيكو واقعي، و"اسرائيل" واقعية.. فأهلا بدعاة الواقعية الاستسلامية، الذين تبدو لهم مواجهة الهزيمة والوعي المهزوم أمورا غير واقعية، وبالتالي غير معقولة!

- سعيد أحنصال (المغرب).



#سعيد_أحنصال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإعتقال السياسي: منزلقات الفهم والممارسة
- معركة الوعي والجوع تدق جدران الشهادة
- معركة الأمعاء الخاوية.. مرحبا بالعاصفة !
- قضية المرأة في الوعي المخترق
- حزب الطليعة يطلق كلابه المسعورة للنباح
- إنهم يقتلوننا!!
- نحو تصحيح مسار الحركة
- هل الدفاع عن محور المقاومة رجعية ؟
- نقد الأوهام الإنتهازية بصدد التغيير


المزيد.....




- -انتهاك صارخ للعمل الإنساني-.. تشييع 7 مُسعفين لبنانيين قضوا ...
- لماذا كان تسوس الأسنان -نادرا- بين البشر قبل آلاف السنوات؟
- ملك بريطانيا يغيب عن قداس خميس العهد، ويدعو لمد -يد الصداقة- ...
- أجريت لمدة 85 عاما - دراسة لهارفارد تكشف أهم أسباب الحياة ال ...
- سائحة إنجليزية تعود إلى مصر تقديرا لسائق حنطور أثار إعجابها ...
- مصر.. 5 حرائق ضخمة في مارس فهل ثمة رابط بينها؟.. جدل في مو ...
- مليار وجبة تُهدر يوميا في أنحاء العالم فأي الدول تكافح هذه ا ...
- علاء مبارك يهاجم كوشنر:- فاكر مصر أرض أبوه-
- إصابات في اقتحام قوات الاحتلال بلدات بالضفة الغربية
- مصافي عدن.. تعطيل متعمد لصالح مافيا المشتقات النفطية


المزيد.....

- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب
- هـل انتهى حق الشعوب في تقرير مصيرها بمجرد خروج الاستعمار ؟ / محمد الحنفي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - سعيد أحنصال - أخطاء السياسة العربية.