الرفض في قصص فارس عودة


مؤيد عليوي
2017 / 12 / 19 - 20:52     

من أهم عناصر القصة القصيرة جداً - بصورة عامة - الفكرة العميقة، التي تمثل حجر الأساس، الذي تُبنى عليه القصة بلغة فنية، عالية التكثيف، في سعةٍ دلاليةٍ، لذا سنعمل في هذه الورقة النقدية، على الكشف عن الفكرة العميقة في قصص (فارس عودة): (ملاذٌ أخيرٌ، حصاد الفاحشة، ثمار جديدة، موقف خليعة، الزائر المنتظر) مروراً ببعض الجوانب الفنية فيها، حيث ارتكنتْ هذه القصص، وهي في موجة واحدة من أفكار الثيمة تكمل بعضها أو تآزر بعضها البعض، فأنها توصل رسالة واحدة أو فكرة واحدة – رفض الواقع - عبر خمس مقاطع أو خمسة قصص – بحسب نظرية التوصيل الأدبي – وهي انسب نظرية لدراسة القصص القصيرة جداً من حيث قصر النص، فجميع هذه الأفكار في قصص القاص فارس عودة تجسد فكرة الرفض للواقع السياسي، والاقتصادي الاجتماعي، إذ أنّ القصة الأولى (ملاذٌ أخيرٌ) كانت ذات فكرة سياسية ترفض الدكتاتورية، باستعمال مفردة (الحاكم)، والذي استعار النص فمه دلالة على القمامة، عبر نفي تشبيه في الموضع: (لم تكن كباقي الحشرات...)- الذي جاء في محله- من فن التكثيف اللغوي، والدلالة الكبيرة الواسعة المعنى،وننظر هذا في النص كاملاً :(( لم تكن كباقي الحشرات .. كل القمامات تقزز ذائقتها فتشت كثيراً لم تجد أترف من فم الحاكم )).
وفي قصة (حصاد الفاحشة ) ثمة رفض مبطن للواقع الاقتصادي الاجتماعي الفاسد في عملية جمع الثروة والفساد بيد الفاسد أخلاقياً، كأن النص القصصي يشير إلى الحكمة القديمة ( الترف يمنح سوء الخُلق )، الذي يأخذ منحى إصلاحي للمجتمع.
وقصة ( ثمار جديدة ) فأنها تعلن فكرة الرفض التام على أي تدخل خارجي في قضايا الوطن، باستعمال أجواء الحكم القديمة داخل الجو النفسي للقصة مشيرا إلى الانفرادية العربية بالحكم ملوك وأمراء، وربما كان المقصود بالبذور السوداء رمزية إلى (داعش ورايتهم السوداء) التي زرعها ملوك وأمراء عرب معروفون، لكي تحتل وتخرب مثل السرطان، في دول عربية مجاورة لها كما في سوريا والعراق بل تجاوزت ذلك إلى دول العالم . أما في قصة ( مواقف خليعة ) فالفكرة جليّة على أي تجمع لسياسي اغلب الدول العربية والإسلامية ، في اجتماع أو قمة لا تكون مع الشعب ومعاناته، فأنهم يكونون عراة على الشاشات الفضية أمام أعين الشعوب، والقصة توصل رسالة مفادها: أن الساسة باتوا عراة مفضوحين، مما يشير إلى فكرة الرفض التام للواقع السياسي ومخرجاته.
وبعد هذه الأفكار المتباينة عن مواضيع الواقع ، والتي تنطوي تحت راية فكرة الرفض لهذا الواقع تأتي قصة ( الزائر المنتظر ) التي تعمل في منطقة التصوف أو العرفان والاتصال بعوالم أخرى غير العالم الذي تراه عامة الناس، في قضية مشهورة عند الأمامية الأثني عشرية وهم ثلثي سكان العراق،فكرة انتظار الإمام المهدي – عج- ومقابلته أبان زيارة الأربعين عند الطريق إلى مرقد الأمام الحسين –ع -، وهذه المقابلة تكون مرة في عمر الإنسان لا تتكرر ولا تحدث إلا مع أصحاب القلوب النقية والسليمة، وما جاءت هذه القصة بهذا الشكل وهذه الدلالة إلا لتؤكد فكرة رفض الواقع في العراق عند أغلب العراقيين من أبناء هذا المذهب ، بعد15 عام لم تفضالى شيء ملموس من الخير لهم أو غيرهم من غالبية العراقيين، وبعد هذا الوقت تعود فكرة الرفض بقوة أكثر من ذي قبل بسبب فساد ساسة السلطة ، تعود إلى عامة الأمامية من الناس من أجل الخلاص من ظلم الذي وقع عليهم وعلى غيرهم مثلما عند المسيحيين عودة المسيح يسوع -ع-، وبالمناسبة هنا أن اغلب حديثهم ألان عن الحل لمشاكل لعراق اليوم والعالم هو ظهور الأمام الثاني عشر – عج -الذي يقيم دولة العدل وينصفهم وينصف كل مظلوم وضعيف في الأرض .فتكون هذه القصة مثل بقية القصص من الواقع بكل تجلياته السياسية والاقتصادية الاجتماعية ، والروحية الدينية، جسدت واقعا عراقيا ذا بعدٍ إنساني ، في لغة مكثفة ودلالة واسعة، باستعمال متقن لآليات القصص القصيرة جدا، فتكون هذه القصص من المدرسة الواقعية التي صورت أفكار أغلب المجتمع العراقي على اختلاف هوياتهم الفرعية في التعبير عن فكرة واحدة وهي الرفض رفضهم للواقع ، في رسالتها إلى المتلقي .


القصص قصيرة جداً المنقودة في أعلاه
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
(ملاذٌ أخيرٌ )
لَمْ تَكنْ كباقي الحشراتِ...
كلُّ القُماماتِ تُقزِّزُ ذائقتَها.
فتَّشَتْ كثيراً؛ لَمْ تَجِدْ أترَفَ مِنْ فَمِ الحاكمِ.
××××××××××××××××××××××
(حصادُ الفاحشة)
أدمَنَ النومَ في مخادعِ النِّساء.
كلّما نَظر إلى امرأةٍ تصوّرها في مخدع الرذيلة، وكلما نصحهُ محبّوه بالزواجِ رفضت أفكارُهُ السوداءُ.
لمّا بلَغتْ ثروتُهُ المليارَ الأولَ؛ دفعها مهراً لمومِسٍ.
×××××××××××××××××××
(ثمارٌ جديدةٌ)
تراجُعُ مستوى الزراعةِ في المملكةِ أقلقَ الملكَ؛
استقدمَ خبراءَ أجانبَ؛ فأعطَوهُ كيساً مِنْ بُذورٍ سوداءَ.
أمَروهُ أنْ يَزرَعَ في كلِّ بيتٍ بذرةٍ.
بعد عامٍ من زراعَتِها، أثمرتْ رُؤوساً مُسَرطَنةٍ.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::

(مَواقفٌ خَليعةٌ)
في الأمةِ فئةٌ بَدأتْ تُقلقُ زُعماءَها؛
كَثّفوا الاتصالاتِ فيما بَينَهم.
عَبْرَ الهاتفِ تبادلوا المَشُوراتِ؛ فقرّروا عَقْدَ قِمَّةٍ طارئةٍ.
تأزّمَ الموقفُ شيئاً فشيئاً؛ فأسرعوا واجتمعوا في المكانِ والزمانِ.
تبادلوا مُقترحاتٍ شتّى؛
حَمِيَ وطيسُ نقاشِهم؛
فأصبحَ المكانُ شديدَ الحرارة؛
نَفَذَ الهواءُ النَّقيّ؛
ضاقتْ أنفاسُهم؛ فأكملوا القمّة عراةً.
====================
الزائر المنتظر
قصة قصيرة جداً
بقلم: فارس عودة
تلك العجوز الهرمة... كلما هلّ هلال صفر... ترابط في تلك الجادة الترابية...
تنتظر زائراً لطالما يزورها في أحلامها...
الصمتُ يُغرِقُها في بحرٍ من الأحلامِ ، ويُصمِتُ الانتظارَ في هواجسِها ...
في كلِّ مرّةٍ تغلي إبريقا فيه بقايا مما تملك من شاي، ثم تضع قطعاً من الكعك في إناء زجاجي وتعود لصمتها؛ فيسرقها الخيال مرة أخرى.
هذه المرّة - وعلى حين غفلةٍ - أقبل جواد مَنْ تنتظره حتى وقف عندها...
عند ذلك أطرقت برأسها نحو الإبريق؛ فرفعته وملأت نصف قدح من الشاي، ثم رفعت رأسها ويدها المرتعشة تقدم له القدح... لكنّها لم تر على الجواد فارسه؛ فاِبتدر دمعها ليبلل خمارها.
حمحم الجواد باكياً؛ فاختلط الشاي بدمعه ودمه.
لم يزل كذلك حتى حنا رأسه؛ فاقتلع خرقة بيضاء، لُفَتْ على فخذِهِ الأيمنِ، يلطّخ الدّم ثلثيها.
عظَّ على الخرقة بنواجذه، ثم حرّك رأسه يميناً وشمالاً...
رمى الخرقة على أم رأسها، ثم ضرب الأرض بحافره، ومضى ...
همّت إلى أثره أخذت قبضة منه ...
قبّلتْهُ؛ شَمَّتْه... ومَضَتْ خلفَهً تُردّد: " مات التصبر بانتظارك أيها المحيي الشريعة".
لم تزل تسير خلفه، تختزلُ خطواتُها الزّمنَ.
ضرب في الأفق برق شديد، ووصلت إليه أشلاؤها ممتطية شظايا غادرة.