أوّل أيّــار عالياً على الأسلاك
سعدي يوسف
2004 / 5 / 1 - 08:12
في أيام القهر والإحتلال ، وانقضاضِ اللصوص والسماســرة المحترفين ، كالكواســر ، على شعبٍ مرتهَــنٍ ؛ أقولُ ، في هذه الأيام الصعبة ، تشتدُّ حاجةُ الـمـرءِ إلى الذكرى ، بقدْرِ حاجته إلى آمال المستقبل ؛ بل ربما وجد في الذكرى ما يعينه في معاينة ما يجري ، معاينةً أكثرَ جدوى ، وأعني هنا أن بمقدورنا إلحاقَ ظروفنا الرهيبة الحالية ، بظروفٍ مماثلةٍ مررنا بها ، أو مرّتْ بنا ، طيلةَ المسيرة الشاقة لشعبنا التوّاقِ إلى الحرية والإنعتاق والعدل والحياة الرضيّــة .
لم يكن ما نحن فيه الآن ، أولَ احتلالٍ ، وليس العملاءُ المتسلِّـطون علينا اليومَ ، أولَ العملاءِ . لقد كان تاريخ العراق بمجمله كتابَ احتلالٍ مفتوحاً ، باستثناء حكومتَـي رشيد عالي الكيلاني وعبد الكريم قاسم اللتينِ طوَتا الكتابَ قبلَ أن تُطوَيا بالعنف الدموي والقهر ، والتدخلِ الأجنبي المفضوح الفَـظّ .
لنتذكّـرْ ، إذاً ، فالذكرى ، لا بُـدَّ ، نافعةٌ .
***
قبل نصف قرنٍ تقريباً .
انتفاضة 1952 قُمعتْ بقسوةٍ بالغةٍ .
وعندما لم تُجْــدِ حتى هذه القســوةُ أُقحِــمَ الجيشُ ، وأُعلِـنت الأحكامُ العرفية ، ودخلت البلادُ في دوّامةٍ جديدةٍ من القمعِ ، وأُدخِـلَتْ إلى السجون القديمة أفواجٌ جديدةٌ من أبناء الشعب وبناته ، وبدا كأن كل شــيءٍ انتهى إلى ما أراده العملاءُ.
هل الأمورُ بهذه السهولة ؟
أتذكّــرُ اليومَ ، الأولَ من أيّـار 1953.
الصباح في البصرة رطبٌ عادةً .
والناس يستيقظون مبكِّـــرين .
هكذا استيقظتُ أنا أيضاً ، وخرجتُ إلى الشارع الرئيس أتمشّــى .
عجباً !
على أسلاك الكهرباء ، وعلى امتداد الشارع ، كانت رايات الأول من أيار الحمراء ، تتدلّــى ، خافقةً بهدوءٍ ، مع نسمات الصبح الخفيفة …
الفكرة بسيطة :
يُــشَــدُّ إلى الراية خيطٌ في نهايته حجرٌ صغير ، وتُـقذَفُ الرايةُ إلى أعلى ، ليلتفَّ الخيطُ على سلك الكهرباء فتتدلّــى الرايةُ
عاليةً ، خافقةً ، مع نسيم الصباح الخفيف الرطب .
***
الأحوالُ ، هذه الأيامَ ، أشــدُّ ســوءاً .
وجنودُ الإحتلال قد يقتلون ، رمياً بالرصاص ، أيَّ فتىً يغامرُ بتعليق رايةٍ حمراءَ على سلك كهرباء .
لكنّ الأول من أيار سيعلن عن نفسه وبهائه ، بألف طريقةٍ وطريقةٍ …
لندن 24/4/2004