بولندا ترقص على حبل المصالح: من بروكسل إلى بكين


احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 13:51
المحور: كتابات ساخرة     

يبدو أننا ،اليوم ، كأنّنا على ركح مسرحيةٌ هزليةٌ كتبها كافكا تحت تأثير قهوةٍ زائدة، تبرز بولندا كنجمةٍ لا تضاهى في فنّ القفز من السفن الغارقة، وهي سفنٌ، بالمناسبة، تبدو وكأنها مصممةٌ خصيصًا للغرق. هذه الدولة، التي يبدو أن لديها خريطةً سريةً للعثور على الزاوية الأكثر دفئًا في كل أزمةٍ عالمية، قد أتقنت رقصةً جيوسياسيةً تجمع بين براغماتيةٍ ماكرة وجرأةٍ لا تعرف الخجل. مرةً كانت ترقص على أنغام موسكو، ثم انتقلت إلى بروكسل بنعومةٍ تُحسد عليها، ثم غازلت واشنطن بنظراتٍ مليئة بالأمل، والآن، ها هي تحزم حقائبها وتنطلق صوب بكين، كأنها عروسٌ هاربةٌ قررت أن التنين الصيني هو الحبيب الجديد الذي يستحق قلبها. لماذا؟ لأن الاتفاقيات الأوروبية-الأمريكية، كما يبدو، ليست "مشجعة" بما يكفي. ربما يقصدون أن التعرفة الجمركية الأمريكية تشبه ضريبةً على الأحلام المستحيلة، أو أن فتح الأسواق الأمريكية يتطلب مهاراتٍ تفاوضيةٍ تجعل مفاوضات السلام في الشرق الأوسط تبدو كلعبة أطفال. لكن بكين؟ أوه، بكين هي الوجهة الجديدة، الجنة الاقتصادية التي وعدت بولندا بصفقةٍ لامعة: مركباتٌ صناعيةٌ لإنتاج السيارات الكهربائية، ومجمعاتٌ تصنيعيةٌ وتجاريةٌ معقدة، تنساب عبر طريق الحرير الحديث بسلاسةٍ تجعل التجارة الأوروبية تبدو كعربةٍ تجرها الحمير. حجم السلع؟ 25 مليار دولار، أي 3.7% من الصادرات الصينية إلى أوروبا. ليس سيئًا بالنسبة لدولةٍ قررت أن تكون اللاعب الذي يغير قواعد اللعبة بينما الجميع يحاول فهم اللوحة.

بروكسل، تلك العاصمة التي تبدو كأنها تدير قارةً بأكملها من غرفةٍ في قبو بنكٍ ألماني، لم تستطع إخفاء رعبها. بولندا، الفتاة الشقية في شرق أوروبا، لم تكتفِ بمغازلة الصين، بل أعلنت، بكل البراغماتية التي يمكن أن يحلم بها ماكيافيلي، طلاقها من الاتحاد الأوروبي. لا تسألوا عن الأسباب، فالأمر واضح كالشمس في سماءٍ صافية: بروكسل تريد من شرق أوروبا وجنوبها أن يظلا مجرد ملحقٍ لقرارات البنك المركزي الألماني، أو، بعبارةٍ أقل تهذيبًا، ذراعًا إضافيةً لتوسع ألمانيا الاقتصادي الذي لا ينتهي. لكن بولندا، بكل دهائها، ليست من النوع الذي يقبل أن يكون مجرد ديكورٍ في لوحةٍ مرسومة في برلين. لا، سيداتي وسادتي، بولندا تحضّر الآن لمهرجانٍ عرائسيٍ يمتد من بكين إلى أوسلو، عرضٌ يعد بأن يكون أكثر إبهارًا من أي فيلمٍ هوليوودي بميزانيةٍ باهظة. تخيلوا المشهد: عرائسٌ آليةٌ ترقص على إيقاع المصالح التجارية، بينما بروكسل تقف مذهولةً كمن تلقى صفعةً لم يتوقعها.

ولأن هذه المسرحية العالمية لا تكتمل بدون جرعةٍ إضافية من الفوضى، ها هو دونالد ترامب، ذلك الرجل الذي يبدو أن لديه موهبةً خارقة في تحويل كل أزمةٍ إلى عرضٍ تلفزيوني، يضع لمسته الخاصة. من خلفه، كما يحلو للبعض أن يهمسوا، تقف "الدولة العميقة" – البنتاغون، السي آي إيه، والمجمع العسكري الصناعي – يرفضون تزويد أوروبا بأحدث التجهيزات العسكرية. بدلاً من ذلك، يقدمون لهم، كما لو كانوا زبائن في سوقٍ للتحف القديمة، أسلحةً خردة. نعم، خردة. أف-35، تلك الطائرة التي تبدو كأنها مصممةٌ لتكون نجمةً في متحفٍ للطيران، وباتريوت، تلك الأنظمة التي كانت ربما فعالةً في الثمانينيات عندما كان العالم يشاهد أفلام رامبو بحماس. لكن اليوم؟ اليوم هي لا تستطيع التعامل مع صواريخ يمنيةٍ أو إيرانيةٍ تتسلل كالأشباح عبر طبقات الدفاع الجوي. إسرائيل، بالطبع، تحصل على النسخة المحسنة من نظام "ثاد"، بينما أوروبا تتلقى بقايا المخزون الأمريكي كما لو كانت محميةً خليجيةً تشتري بأسعارٍ خيالية ما يشبه الألعاب القديمة. وهنا تكمن المهزلة الكبرى: صواريخ اليمن، تلك التي يطلقها رجالٌ بأحذيةٍ متهالكة من جبالٍ نائية، تصيب أهدافها بدقةٍ مخيفة، بينما المسيّرات الإيرانية تتسلل عبر أنظمة الدفاع الأمريكية كما لو كانت تحلق في سماءٍ خالية من أي مقاومة. أما أنظمة الناتو؟ حسنًا، دعونا نقول إنها تبدو كأنها تحاول صدّ هجومٍ بمقلاعٍ في عصر الصواريخ الباليستية.

لكن الضحكة الأعلى، تلك التي تجعلك تضرب جبهتك وتتساءل إن كان العالم قد أصيب بلوثةٍ جماعية، تأتي من قادة بروكسل. هؤلاء النيوليبراليون، الذين يبدون كأنهم خريجو مدرسة "كيف تدمر قارة في عشر خطوات سهلة"، يواصلون تفكيك الضمان الاجتماعي في بلدانهم، يقلصون الخدمات العامة، ويفرضون التقشف على شعوبهم كما لو كانوا يعاقبونهم على جريمةٍ لم يرتكبوها. كل ذلك، من أجل ماذا؟ من أجل شراء أسلحةٍ خردة لا قيمة لها في ساحات القتال الحديثة. إنهم يشترون بقايا التكنولوجيا الأمريكية بأسعارٍ تجعل المرء يظن أن كل صاروخٍ مصنوعٌ من الذهب الخالص، بينما ينظرون إلى مواطنيهم بعيونٍ تقول: "ثقوا بنا، نحن نعرف ما نفعل". لكن الحقيقة؟ إنهم يديرون أوروبا كما لو كانت شركةً مفلسة تحاول إقناع المساهمين بأن الإفلاس هو "استراتيجية طويلة الأمد". وفي هذا السياق، يبدو أن بولندا، بكل دهائها، قد قررت أن تترك هذا العبث خلفها وتنطلق في مغامرةٍ جديدة مع الصين، التي، على عكس بروكسل، لا تطالبها بأن تكون مجرد تابعٍ في مسرحيةٍ كتبتها ألمانيا.

لنكن صرحاء، العالم اليوم هو مسرحٌ كبيرٌ للعبث، حيث الجميع يلعب دورًا في مسرحيةٍ لا يفهم أحدٌ قواعدها. بولندا، ببراغماتيتها المذهلة، قررت أن تكون الممثلة الرئيسية، تلك التي تغير الأزياء والشركاء في كل مشهدٍ دون أن تفقد توازنها. بينما بروكسل، بكل بيروقراطيتها المملة، تظل عالقةً في دور الضحية التي تتفاجأ بكل صفعةٍ جديدة. وواشنطن؟ حسنًا، واشنطن مشغولة ببيع الأوهام بأسعارٍ خيالية، كما لو كانت تاجرًا في سوقٍ عالميٍ لبيع الخردة المغلفة بورقٍ لامع. لكن، وسط هذا الجنون، هناك من يضحك آخرًا: اليمن وإيران، بتكنولوجيتهما البسيطة لكن الفعالة، يثبتان أن القوة الحقيقية لا تكمن في الميزانيات الفلكية، بل في الإرادة والذكاء. صواريخٌ يمنيةٌ تصل إلى أهدافها بدقةٍ مخيفة، ومسيّراتٌ إيرانيةٌ تتسلل كالأشباح، بينما أنظمة الناتو العظيمة تقف عاجزةً كتمثالٍ في متحفٍ قديم. إنه درسٌ في التواضع لم يتعلمه قادة بروكسل بعد، وهم منشغلون بإنفاق ملياراتٍ على أسلحةٍ لا تستطيع حماية كرامتهم، ناهيك عن أمنهم.

في هذا العالم، حيث الجميع يرقص على حافة الهاوية، بولندا تقدم درسًا في فن البقاء. إنها لا تنتظر أن ينقذها أحد، بل تصنع قاربها الخاص وتبحر به إلى حيث الفرص. بكين، بكل دهائها، تراقب المشهد وتبتسم، مدركةً أنها وجدت شريكًا يعرف كيف يلعب اللعبة. أما أوروبا؟ ربما حان الوقت لأن تتعلم من بولندا شيئًا عن فن التنطيط الجيوسياسي، أو على الأقل، أن تتوقف عن شراء الخردة وتستثمر في شيءٍ يستحق. لكن حتى ذلك الحين، فلنستمتع بالمهرجان العرائسي القادم من بكين إلى أوسلو. قد يكون العرض الوحيد الذي يستحق تذكرة الدخول، في عالمٍ يبدو أن الجميع فيه يشتري تذكرةً لمقعدٍ في سفينةٍ تغرق ببطء.