رؤية في الماضي، لمستلزمات الحاضر، والمستقبل


اسحق قومي
2025 / 9 / 14 - 22:22     

عشْتارُ الفُصول: 8036
بعضُهم يَرى في دَعوتِنا لِلإنفصالِ عن الماضي نَوعًا مِنَ الاسْتِحالةِ.
وبعضُهم يَراها تَنَكُّرًا لِمُقوِّماتِ ذاكَ الماضي، والَّذي يُشَكِّلُ في مُجْمَلِهِ ومَجموعِهِ الذّاكرةَ الجَمعيَّةَ لِلمُجْتَمَعاتِ البَشَرِيَّةِ، ولِمُجتَمَعِنا بشكلٍ خاصٍّ.
فَكَيْفَ، وبِأيَّةِ طَريقةٍ، نَسْتَطيعُ أن نُحافِظَ على أهَمِّيَّةِ الماضي الَّذي شَكَّلَ خُطُواتٍ ومَدَاميكَ أساسيَّةً لِما وَصَلَتْ إليه البَشَرِيَّةُ في حالَتِها الحاضِرةِ؟
وما هي أهَمِّيَّةُ رَفْضِ الماضي بِاعتِبارِهِ عائقًا أمامَ التَّقَدُّمِ والتَّطَوُّرِ، لِكونِ ليسَ كُلُّ الماضي يُلْزِمُنا؟!
لا يُمكِنُ أن نُسَجِّلَ كُلَّ اللَّحظاتِ الَّتي يَخْتَزِنُها الماضي، ونَعْتَبِرَها أجزَاءً مُهِمَّةً فيه.
ولِتَقرِيبِ وِجْهَةِ نَظَرِنا مِنْ بَعضِ مَنْ يَدَّعي قُدْسِيَّةَ الماضي، مَعَ عِلْمِنا بِأنَّ الماضي سَيَبْقَى يَفْعَلُ فِعْلَهُ، إنْ لَمْ نُوَفِّرْ لأنْفُسِنا "مُضادّاتٍ حَيَوِيَّةً" تَمْنَعُ الأثَرَ السَّلْبِيَّ لِلماضي في حَياتِنا الحاضِرةِ.
فَكما أنَّ جُثَّةَ والِدي مُقَدَّسَةٌ عِندي، لَكِن بَعْدَ مَوتِهِ أَفْتِّشُ عَمَّن يَدْفِنُهُ مَعي حالًا... لِماذا أُريدُ التَّخَلُّصَ مِنْ جُثَّةِ والِدي؟!
هكذا الماضي يُشَكِّلُ عائقًا أمامَ حَرَكتي، ومَجْموعَةِ السُّلوكِيّاتِ الإنسانيَّةِ، وحَتّى فَرَحي، وانْفِعالاتي، ووِجْداني. أُريدُ أن يَتَجَدَّدَ مِنْ خِلالِ تَطَوُّرِ الحَياةِ.
المُجتَمَعاتُ الأُوروبِّيَّةُ أيضًا كانَ لَها تاريخُها. والسُّؤالُ: مَتى تَرَكَتِ التَّغَنّي بذاكَ التاريخِ، ولِماذا؟
إنَّ التاريخَ وفَتَراتِهِ، وأمجادَهُ وانكساراتِهِ، لا يُمكِنُ أن نَحذِفَها بِجُرَّةِ قَلَمٍ، ولا يَحِقُّ لَنا أصلًا بِمِثْلِ هذا التَّفكيرِ.
لكن حينَ يُشَكِّلُ التاريخُ ثِقْلًا نَوعِيًّا على تَفَتُّحِ قُدُراتِنا العَقلِيَّةِ نَحْوَ المُسْتَقبَلِ الأَكْثَرِ إشْراقًا، عِندَها يُصْبِحُ التَّغَنّي بالتاريخِ جَريمةً.
التاريخُ جُزءٌ هامٌّ مِنْ حَياةِ أَيَّةِ أُمَّةٍ أو شَعْبٍ. لا نَقولُ أنْ يُكْتَبَ لَنا تاريخٌ جديدٌ، لكن عَلينا أن نَتَخَلَّى عَنِ الجُزْءِ الأَكْثَرِ ضَرَرًا في عَمَلِيَّةِ حَياتِنا كَمُجتَمَعاتٍ بَشَرِيَّةٍ، لأنَّهُ عائقٌ حَقيقيٌّ عَلينا التَّخَلُّصُ مِنهُ، ووَضْعُهُ في مَكْتَباتِ الذّاكرةِ الجَمعيَّةِ رَيْثَما يَتَوفَّرُ لَنا دِراسَتُهُ وإنهاءُ وُجودِهِ لَوِ اسْتُهْلِكَ وانْتَهَتْ فاعِلِيَّتُهُ.
والتاريخُ الَّذي نَقْصِدُهُ لَيْسَ الفَتراتِ الزَّمانيَّةَ والمَكانيَّةَ مُجَرَّدةً وخاليةً مِنَ المَحمولِ الثَّقافيِّ والوِجْدانيِّ والإنسانيِّ.
عَلينا أن نُميِّزَ في الدَّعوةِ بَيْنَ تَخَلُّفِ الثَّقافةِ السَّابقةِ وبَيْنَ مُتَطَلَّباتِ الحَياةِ الحاضِرةِ، وما يَدْفَعُ هذه الأُمَّةَ أو تِلكَ إلى أن تُشارِكَ المُجتَمَعاتِ البَشَرِيَّةِ في صُنْعِ الحَضارةِ الإنسانيَّةِ.
لَوْ كانَ الأوربِّيُّونَ تَمَسَّكوا بالماضي الثَّقافيِّ، والرُّوحيِّ، والدِّينيِّ لَهُم، لَما وَجَدْنا مُجتَمَعاتِهِم في حالَةٍ مِنَ التَّطَوُّرِ، والتَّقَدُّمِ، والازدهارِ، والاكتفاءِ، والفَيْضِ، الَّذي لا يُمكِنُ لِلمُجتَمَعاتِ الشَّرقِ أوسَطِيَّةِ ولِعاقِلٍ أن يَتَنَكَّرَ لَهُ.
هلْ كانَتِ المُجتَمَعاتُ الأُوروبِّيَّةُ على خَطَأٍ حينَ فَصَلَتِ الدِّينَ عنِ الدَّوْلَةِ؟!
أمْ كانَتْ قَدْ تَوَصَّلَتْ إلى نَتائِجَ بَحْثِيَّةٍ واسْتِقرائيَّةٍ واسْتِنْتاجيَّةٍ بِأنَّ الحَياةَ لا يَصْنَعُها فَقَطُ الدِّينُ، وإنَّما هُناكَ الفِعْلُ البَشَريُّ المُنْتِجُ لِلثَّقافةِ العامَّةِ والهامَّةِ لِلحَياةِ وتَطَوُّرِها.
فَضَرورَةُ التَّجديدِ في كُلِّ شَيءٍ هامَّةٌ للغايَةِ.
وكما أنَّ الطَّبيعةَ تُعَلِّمُنا بِأنَّ التَّجديدَ ضَرورَةٌ: فالحَيَّةُ تَخْلَعُ جِلْدَها أحيانًا كُلَّ أُسْبوعٍ أو أُسْبوعَيْنِ، ومِنها ما تَخْلَعُ جِلْدَها كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً. وبَعضُ الأَشْجارِ تَرى لِحائَها يَتَجَدَّدُ كُلَّ عامٍ. وهكذا يُقَلِّمُ الفَلّاحُ بُسْتانَهُ وكَرْمَهُ كُلَّ عامٍ. والإنسانُ لَوْ لَمْ يَقُصَّ شَعْرَهُ ويُقَلِّمْ أظافِرَهُ، لَرَأَيْنا وَحْشًا أمامَنا...
وقَرَأْتُ مُنذُ سَبعينَاتِ القَرنِ العِشرينَ الماضِي، في كِتابِ مَدرَسَةِ الآلِهَات لِمُؤلِّفِهِ إيتِن جونس، يَقولُ عن عاداتِ إحدَى القَبائِلِ الإفريقيَّةِ: حينما يُداهمُها الخَطَرُ مِن قِبَلِ قَبيلَةٍ ثانِيَةٍ، ويكونُ هُناكَ رِجالٌ كِبارٌ لا يَتَمَكَّنونَ مِنَ السَّيرِ ولا القِيامِ، ومِن أَجلِ أَلَّا يَكونوا عَقَبَةً وسَببًا في فَناءِ القَبيلَةِ، يَطلُبُ الأَبُ (الشَّيخُ العَجوزُ المُقعَدُ) مِنِ ابنِهِ الكَبيرِ أن يَقتُلَهُ ويَدفِنَهُ حالًا، ويُتابِعونَ عَمَلِيَّةَ الدِّفاعِ عَنِ القَبيلَةِ.
عَجَبًا! ما الَّذي نَقرَأُ هُنا؟! أهو الضَّرورَةُ؟ أَمِ العاداتُ؟ أَمْ هذا القَلبُ القاسي؟!
ولَوْ قُلنَا جَميعَ هذهِ الأُمورِ، لكن بالمُحصِّلَةِ هُناكَ عَمَلِيَّةُ "تَصفِيَةٍ" تُنتِجُها الضَّرورَةُ الحَياتيَّةُ.
لِهذا: إنَّ مَنْ لا يَتَجَدَّدُ في فِكرِهِ وأسلوبِ حَياتِهِ، ويَظُنُّ بِأنَّهُ يُحافِظُ على مُمتَلَكاتِ أَجدادِهِ، فَهُوَ أَكبَرُ عائقٍ أمامَ تَقَدُّمِ المُجتَمَعِ الَّذي يَعيشُ فيه.
وهكذا تُصبِحُ المُجتَمَعاتُ المُتَخَلِّفَةُ والمُتَكَلِّسَةُ في عاداتِها وتَقاليدِها وسُلوكِيّاتِها وعَقلِيَّتِها، عائقَةً أمامَ التَّطَوُّرِ العامِّ لِلبَشَرِيَّةِ.
البُيوتُ القَديمَةُ المُتَهاوِيَةُ، بالرَّغمِ مِن عَمَلِ الصِّيانَةِ لَها سَنويًّا، لكِنْ يَأتي زَمَنٌ وعلَينا التَّخَلُّصُ مِنها، وبِناءُ مَكانِها أَبراجًا هيَ مِن مُستلزَماتِ الحَياةِ المُعاصِرَةِ.
إنَّ التَّجديدَ والتَّجَدُّدَ، والتَّبديلَ، والتَّكَيُّفَ، والانسِجامَ مِن صِفاتٍ ومُقوِّماتِ الحَياةِ المُتَطَوِّرَةِ.
حَتّى في الفِكرِ الدِّينيِّ نَجِدُ مَوضوعَ: «تَجَدَّدوا في أذهانِكم»، ومَوضوعَ: «كُلُّ ما تَحلُونَهُ على الأَرضِ يكونُ مَحلولًا في السَّماءِ»، ومَوضوعَ الفُتيا... كُلُّ هذهِ مِن أَجلِ أَلَّا يَكونَ النَّصُّ الدِّينيُّ سَببًا في شَقائِنا، لأنَّ الدِّينَ –بِوَصفِهِ قانُونًا في زَمنِهِ وطَريقَةً ومَنهَجَ حَياةٍ في سِياقاتِهِ التَّاريخيَّةِ– إلَّا أنَّهُ يُشَكِّلُ عائقًا لِمَن يُؤمِنُ بِهِ بالحَرفِ.
والفِكرُ الدِّينيُّ –بِوَصفِهِ نَتاجَ الخَوفِ مِنَ المَجهولِ– كانَ لا بُدَّ مِن عِبادَةٍ لِلقُوَى الجَبّارَةِ. هكذا وَصَلَ الفِكرُ البَشَريُّ عَبرَ مَخزونِهِ الأُسطوريِّ إلى وُجودِ دِياناتٍ مُختَلِفَةٍ، مُتَتابِعَةٍ، والوَاحِدَةُ اسْتَهلَكَتِ الأُخرى في مَضامينِها وطُقوسِها.
فَنَرى الوَاحِدَةَ تَقتُلُ الثَّانِيَةَ وتُزاحِمُها على الوُجودِ والانْتِشارِ، بِوَصفِها أَكثَرَ تَطَوُّرًا وعَمَلِيَّةً.
جُلُّ ما نُرِيدُهُ مِن هذهِ الجُزْئِيَّةِ هو أنَّ الفِكرَ الدِّينيَّ بحدِّ ذاتِهِ قد خَلَعَ أَفكارَهُ القَديمَةَ وتَطَوَّرَ. فالتَّطَوُّرُ سِمَةٌ جَوهَرِيَّةٌ مِن سِماتِ البَشَرِيَّةِ والحَياةِ العَقلِيَّةِ.
حَتّى أنَّ الاسْمَ الإلٰهِيَّ نَجِدُهُ يَتَطَوَّرُ عَبرَ فَتراتٍ زَمانيَّةٍ، إلى أن وَصَلَ إلى ما وَصَلَ إليهِ الآن.
ولِلوُقوفِ على أهَمِّيَّةِ الفَصلِ بَيْنَ المُتَطَلَّباتِ الضَّروريَّةِ، وبَيْنَ إرهاصاتِ التاريخِ، نَقولُ: أَنا أُمَثِّلُ آدمَ الأَوَّليَّ، لَكِنَّني لَستُ هو.
حَتّى في الشَّكلِ البِيُولوجيِّ والقُدُراتِ العَقلِيَّةِ والسُّلوكِيَّةِ. فآدَمُ كانَ آدَمَ الزَّمانيَّ والمَكانيَّ، وأَنا يَفصِلُني عَنهُ عَشَراتُ المَلايينِ مِنَ السِّنينَ.
لأنَّ آدمَ المَكتوبَ في الكُتُبِ المُقدَّسَةِ والتَّاريخِيَّةِ لِشُعوبِ بلادِ ما بَينَ النَّهرَيْنِ الآشوريَّةِ، هذا هو آدمُ الَّذي وَصَلَنا حينَ بَدَأَ الإنسانُ يُدَوِّنُ قُدُراتِهِ العَقلِيَّةَ والفِكرِيَّةَ.
أَمّا آدمُ القَديمُ فلا نَعرِفُ عَنهُ أَيَّ شيءٍ. ولَرُبَّما عَبرَ الذَّاكرةِ الجَمعيَّةِ والأُسطورَاتِ تَطَوَّرَ حَتّى اسْمُ المَخلوقِ الأَوَّلِ الذَّكَرِيِّ لِتُسَمِّيهِ الكُتُبُ بِـ «آدم».
وأمّا أن نُقَدِّمَ لِآدمَ التَّقديرَ، فَهذا لا يُمكِنُ إنكارُهُ. لكنَّنا لا نُقَدِّسُهُ لِكونِهِ «الخَليقَةَ الأُولى» بِالتَّعبيرِ الدِّينيِّ. وعَلينا أَلَّا نَكونَ تابِعينَ، بَلْ نُعمِلُ عَقلَنا في فَهمِ الجُزئِيّاتِ الَّتي تُشَكِّلُ الكُلِّيّاتِ.
وكما أنَّ التَّاريخَ قد كُتِبَ أَغلَبُهُ مِن خِلالِ قُوَّةِ الظَّالمينَ والغُزاةِ، لِهذا لا يُمكِنُ لَنا أن نَكونَ واقِعِيّينَ وعِلمِيّينَ دُونَ أن نَعتَرِفَ بِأنَّ التَّاريخَ أَغلَبُهُ مُزوَّرٌ لِصالِحِ القَويِّ دُونَ الضَّعيفِ.
مِن هُنا تَنشَأُ الحاجَةُ إلى إعادَةِ قِراءَةٍ وغَربَلَةٍ ودِراساتٍ مَوضوعيَّةٍ وعِلمِيَّةٍ لِلتَّاريخِ بِوَصفِهِ مَرجِعًا تَقومُ عَلَيهِ مُنطَلَقاتُ الحاضِرِ والمُستَقبَلِ، وأنَّهُ العِلمُ الوَحيدُ الَّذي نَتَعرَّفُ بِهِ إلى الحَضاراتِ وطُرُقِ المَعيشَةِ وغَيرِها مِن أُمورٍ.
ولِهذا يَجِبُ وُجودُ مَعاهِدَ بُحوثٍ عِلمِيَّةٍ. وعِندَها سَيَخضَعُ الماضي لِلدِّراسَةِ النَّقدِيَّةِ، أي لِلتَّعريَةِ، والغَربَلَةِ، والتَّذريَةِ، والتَّصويلِ (الغَسيلِ) وبِعُيونٍ عِلمِيَّةٍ بَعيدَةٍ عَنِ العَواطِفِ.
وهذا ما يَلزَمُ لِلمُجتَمَعاتِ الشَّرقِ أَوسَطِيَّةِ أن تَقومَ بِهِ مُؤسَّساتٌ خاصَّةٌ تَهتَمُّ بِقِراءاتٍ جَديدَةٍ لِلتَّاريخِ، بِوَصفِهِ مَحمولًا وحامِلًا.
إنَّ قِراءَةَ التُّراثِ بِكُلِّ تَنَوُّعِهِ ومَساراتِهِ وأَزمنتِهِ هُوَ مَسؤُولِيَّةٌ وَطَنِيَّةٌ واجتِماعِيَّةٌ وأَخلاقِيَّةٌ وبَشَرِيَّةٌ. على الدُّوَلِ أن تُوجِدَ مَراكِزَ استِراتِيجِيَّةً لِقِراءَةِ التَّاريخِ بِرُمَّتِهِ، وتَصنيفِ خُلاصاتِهِ لِيَتِمَّ الاستِفادَةُ مِنها فيما بَعدُ.
ولِهذا لا يُمكِنُ أن يَكونَ في قَولِنا أن نَرمي بِكُلِّ التَّاريخِ، أو أنَّ الفَتراتِ التَّاريخِيَّةَ كُلَّها تَحمِلُ نَفسَ السِّماتِ. بَل على العَكسِ: نُؤَيِّدُ أنَّ التَّاريخَ لِأَيَّةِ أُمَّةٍ فيهِ التَّنَوُّعُ والاختِلافُ، فيهِ التَّجديدُ وفيهِ الطَّوطَميَّةُ. ومِن خِلالِ عَمَلِيَّةِ إخضاعِهِ لِمَشروعِيَّةِ النَّقدِ سَيَظهَرُ لَدَينا كَمْ هيَ خُلاصَةُ التَّاريخِ الهامِّ والمُفيدِ مِن أَهَمِّيَّةٍ، كما سَنَتَبَيَّنُ كَمْ مِنَ الأَفكارِ كانَتْ تُسيطِرُ على عُقولِنا وقَدِ اسْتَهلَكَتْنا في قُدُراتِنا العَقلِيَّةِ والجَسَدِيَّةِ والمَاليَّةِ والتَّطَوُّرِيَّةِ.
لِهذا قُلنَا: ليسَ مِنَ الضَّرورِيِّ أن نُحافِظَ على ما يُهلِكُنا مِنَ التُّراثِ والتَّاريخِ. كما نَرى أنَّ التَّطَوُّرَ والتَّبديلَ حَدَثَ في الكُتُبِ المُقدَّسَةِ.
كما نَقرَأُ عَمّا قامَتْ بِهِ الكَنيسَةُ المَسيحِيَّةُ في عُصورٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِن إقرارِها بِأَناجِيلَ أَربَعَةٍ هيَ: متّى، وتُوما، ولوقا، ويُوحَنّا.
وهُناكَ أَكثَرُ مِن أَربَعَةَ عَشَرَ كِتابًا سَمَّتْها "المَنحُولَةَ" أَوْ "غَيرَ القانونِيَّةِ"... كما يُوجَدُ "إنجيلُ بَرنابا" الَّذي كُتِبَ في عُهودٍ مُتأَخِّرَةٍ جِدًّا... ورَغمَ أنَّ الكَنيسَةَ لَمْ تَعتَدَّ بِها، لَكِنَّها لَمْ تَحرِقْها حَتّى تَبقى لِلبَحثِ والتَّدقيقِ والدّارِسينَ.
بينَما نَجِدُ في الحَالَةِ الإسلامِيَّةِ –وعَهدِ عُثمانَ بن عفّان– أنَّهُ جَمَعَ كُلَّ المَصاحِفِ وأَحرَقَها، وأَبقى على نُسخَةٍ سُمِّيَت بِاسْمِهِ (نُسخَةُ عُثمانَ بنِ عفّان).
في خِتامِ هذهِ الجُزْئِيَّةِ، لا بُدَّ مِنَ القَولِ: إنَّ الماضي الَّذي يُشَكِّلُ عائقًا علَينا أن نَستَبعِدَهُ مِن أَجلِ ضَرورَةِ التَّبدُّلِ والتَّطَوُّرِ.إسحق قَومِي
22 / 11 / 2016م
((دراسة تحليلية أكاديمية
عنوان النص: رؤية في الماضي، لمستلزمات الحاضر، والمستقبل
بقلم: إسحاق قومي
المقدمة
يتناول النص إشكالية مركزية في الفكر الإنساني: العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر والمستقبل. فالماضي ليس مجرد أحداث ووقائع، بل هو ذاكرة وهوية ورصيد معرفي، غير أن تحوله إلى مرجعية مطلقة قد يجعله عائقًا أمام حركة الحاضر وآفاق المستقبل. ينطلق النص من دعوة نقدية متوازنة: احترام الماضي دون تقديسه، والاستفادة منه دون الارتهان لقيوده.
التحليل
البنية الفكرية: يقوم النص على جدلية ثلاثية (الماضي–الحاضر–المستقبل). فهو يعترف بقيمة الماضي بوصفه ذاكرة وهوية، لكنه يحذر من تحوله إلى صنم يعيق التجديد.
الصور والأمثلة: اعتمد الكاتب على تشبيهات حية (الماضي كجثة يجب دفنها، الحية التي تغيّر جلدها، البيت القديم الذي يُهدم ليُبنى برج جديد). هذه الصور عززت البعد الإقناعي للنص.
المرجعيات: استند إلى أمثلة تاريخية (فصل الدين عن الدولة في أوروبا)، وإلى شواهد من الطبيعة (التجديد العضوي للنبات والحيوان)، ومن التراث الديني (تطور الأناجيل والمصاحف).
الموقف: دعوة صريحة إلى تأسيس مؤسسات فكرية وتربوية نقدية، قادرة على غربلة التاريخ قراءةً وتحليلاً.
النقد
نقاط القوة:جرأة الطرح ومساءلة المسلمات.تنوع الأمثلة وتكاملها (تاريخية–طبيعية–دينية).وضوح الرؤية الإصلاحية: لا مستقبل بلا نقد للماضي.
نقاط الضعف:ميل إلى التكرار، مما يضعف التركيز.اعتماد صور صادمة (مثل "جثة الأب") قد ينفّر بعض القراء.
التقييم الفلسفي والتربوي
فلسفيًا: النص ينتمي إلى النقد التاريخي، قريب من فكر نيتشه (نقد التاريخ) وريكور (الذاكرة والنسيان)، ويحمل نفَسًا حداثيًا في دعوته إلى التحرر من عبودية الماضي.
تربويًا: يتقاطع مع فلسفة جون ديوي (التجديد المستمر للحياة) وباولو فريري (التربية النقدية التحررية). وتتمثل رسالته التربوية في أن التربية ينبغي أن تُعلم الناشئة التمييز بين ما هو ذاكرة وهوية وما هو عائق ومعيق للتطور.
إن نص «رؤية في الماضي، لمستلزمات الحاضر، والمستقبل» يمثل مساهمة فكرية جريئة في حقل الفلسفة التربوية والنقد التاريخي. فهو لا يدعو إلى محو الماضي بل إلى غربلته، بحيث يُستبقى منه ما يثري الحاضر ويُستبعد ما يعيق المستقبل. وبذلك يشكل النص دعوة إلى عقل نقدي متحرر، يؤمن بأن التجديد شرط للتقدم، وأن التربية والمؤسسات الفكرية مسؤولة عن ترسيخ هذا الموقف.
التقييم العام
إسحاق قومي: سيرة فكرية
إسحاق قومي يظهر في هذا النص كمفكر نقدي–تنويري، يجمع بين جرأة الطرح وثراء المرجعيات، ويكتب بروح إصلاحية تستهدف تحريك العقل الجمعي نحو التجديد. ورغم ميله أحيانًا إلى الإطناب والصور الصادمة، فإن قوة مشروعه تكمن في صدقه الفكري وقدرته على الربط بين الفلسفة والتاريخ والتربية. إنه صوت جاد يستحق أن يُدرَس ضمن تيار المفكرين العرب التنويريين الساعين إلى مصالحة الماضي والحاضر والمستقبل.
إسحاق قومي . يظهر من نصوصه، ولا سيما في مقالته «رؤية في الماضي، لمستلزمات الحاضر، والمستقبل»، أنه مشغول بسؤال كبير هو: كيف يمكن للإنسان أن يتعامل مع الماضي دون أن يصبح أسيرًا له؟
المنهج والأسلوب:قومي لا يكتب بأسلوب أكاديمي جاف، بل يعتمد على المقالة الفلسفية الأدبية، المليئة بالصور البلاغية والتشبيهات القوية (مثل: الماضي كجثة يجب دفنها، أو كبيت قديم يستحيل إصلاحه). أسلوبه صادم أحيانًا لكنه يهدف إلى إيقاظ القارئ من سباته.
الفكر الفلسفي:يتقاطع مع أطروحات نيتشه حول نقد التاريخ، ومع ريكور حول الذاكرة والنسيان، وينتمي بوضوح إلى الفلسفة الحداثية النقدية التي ترفض التقديس الأعمى للموروث.
الفكر التربوي:
رؤيته قريبة من جون ديوي في الدعوة إلى التجديد المستمر، ومن باولو فريري في التربية النقدية التحررية. فهو يرى أن التربية لا بد أن تُحرر العقل من أسر الماضي وتُعلم الفرد القدرة على التمييز بين المفيد والمعيق من التراث.
الرسالة الإصلاحية:مشروعه الفكري يقوم على ضرورة غربلة الماضي: الاحتفاظ بما يفيد، والتخلي عما يعيق. وهو يربط بين هذا الموقف وبين ضرورة تأسيس مؤسسات بحثية علمية لإعادة قراءة التاريخ موضوعيًا.
التقييم العام
إسحاق قومي هو مفكر إصلاحي تنويري، يكتب بروح نقدية جريئة، واضعًا الإنسان والعقل في صلب اهتمامه.
قد يُؤخذ عليه الإطناب والتكرار أحيانًا، لكن قوته تكمن في صدقه الفكري، وجرأته في مساءلة المسلمات، وقدرته على المزج بين التاريخ والفلسفة والتربية في خطاب واحد.
إنه صوت جدير بالاهتمام ضمن مسار المفكرين العرب الذين سعوا إلى مصالحة الماضي والحاضر والمستقبل في سبيل نهضة شاملة.
إعداد: سيرة فكرية موجزة عن الباحث والمفكر: إسحاق قومي))