لماذا تريد دولة أوروبية كبرى, أن تنتقم، من الولايات المتحدة


احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 08:33
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     

انهيار الأسواق وشيخوخة الرأسمالية: تحليل معمق للأزمة الهيكلية وتراجع الهيمنة الأمريكية
القسم الأول: الأزمة الهيكلية للرأسمالية وتفكك المراكز الإمبريالية

مقدمة: عودة الأزمة إلى مراكز الرأسمالية

عنوان عريض، على موقع صحيفة كبرى في اوروبا الغربية ،يقول: إن المانيا تحضر نفسها لانتقام شديد ، ضد الولايات المتحدة، بعد أحساسها بالغدر الأمريكي، على اكثر من جانب. فما الذي يجري فعلا بين أوروبا الغربية، باعتبار أن ألمانيا قاطرتها الأساسية من جهة والولايات المتحدة من جهة مقابلة :
يبدو أن النظام الرأسمالي العالمي قد بلغ نقطة اللاعودة. شيخوخة الرأسمالية، كما وصفها المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين، تتجلى اليوم بوضوح في قلب المراكز الإمبريالية، حيث تتفاقم التناقضات الداخلية للنظام بلا هوادة. هزائم الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو في العراق وأفغانستان كشفت عن هشاشة الهيمنة الغربية، معلنةً عن نقطة تحول تاريخية في مسار الرأسمالية العالمية. هذه الانتكاسات العسكرية، التي لا يمكن اعتبارها مجرد هفوات عابرة، هي أعراض لأزمة هيكلية أعمق، حيث بدأت القوى الاحتكارية في المركز الرأسمالي تتناحر فيما بينها، عاجزةً عن الحفاظ على سيطرتها على بقية العالم.

في هذا القسم الأول، نستكشف ديناميكيات هذه الأزمة الهيكلية، مستندين إلى تحذيرات إيلون ماسك من الانهيار الاقتصادي الوشيك للولايات المتحدة، وتصريحات دونالد ترامب الاستفزازية حول نيته احتلال كندا وجزيرة غرينلاند الدنماركية، إلى جانب كشوفات الصحفي سيمور هيرش عن تورط الولايات المتحدة في تدمير أنابيب الغاز نورد ستريم. هذه الأحداث، التي لا يمكن اختزالها إلى مجرد وقائع عابرة، تعكس تفكك الهيمنة الأمريكية التدريجي وصعود عالم متعدد الأقطاب. نستلهم في تحليلنا هذا نظريات سمير أمين حول شيخوخة الرأسمالية، مركزين على التناقضات الداخلية للنظام والصراعات البينية بين قوى المركز. كما ندمج وجهات النظر الحديثة حول رد الفعل الاستراتيجي الألماني تجاه السياسات العدوانية لإدارة ترامب، كما ورد في مقال جيد هين-سيلورا بتاريخ 14 أبريل 2025.


الأزمة الهيكلية للرأسمالية: عودة إلى المراكز

في كتاباته الرائدة، أكد سمير أمين أن الرأسمالية العالمية، في مرحلتها الإمبريالية المتقدمة، دخلت مرحلة الشيخوخة، التي تتسم بعجزها عن تحقيق نمو مستدام أو حل الأزمات التي تُنتجها ذاتيًا. هذه الشيخوخة تتجلى اليوم بقوة في مراكز الرأسمالية، حيث تتصاعد التناقضات الداخلية بين القوى الاحتكارية، التي كانت في السابق موحدة تحت راية الهيمنة الأمريكية، لتتحول إلى ساحة صراع للحفاظ على امتيازاتها.

هزائم الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو في العراق وأفغانستان شكلت نقطة تحول حاسمة. لم تكن هذه الهزائم مجرد تراجعات عسكرية، بل كشفت عن عجز القوى الإمبريالية عن فرض سيطرتها بالقوة العسكرية. في العراق، أدى غزو عام 2003، الذي دُشن بهدف السيطرة على الموارد النفطية وإقامة قاعدة متقدمة في الشرق الأوسط، إلى مستنقع مكلف أنهك الموارد المالية والبشرية للولايات المتحدة. وفي أفغانستان، انتهت أطول حرب في تاريخ أمريكا بانسحاب فوضوي عام 2021، تاركًا وراءه بلدًا مدمرًا وصورة لعجز الغرب. هذه الانتكاسات لم تُضعف مصداقية الولايات المتحدة فحسب، بل عمقت الانقسامات داخل الكتلة الغربية، حيث باتت المصالح المتضاربة للقوى الرأسمالية أكثر وضوحًا.


تفكك الكتلة الغربية: ترامب، الناتو، والحرب الاقتصادية

تصاعدت هذه التوترات مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، في حدث مهيب كشف عن هشاشة الوحدة الغربية. تصريحات ترامب الاستفزازية، وخاصة نيته احتلال كندا وغرينلاند الدنماركية، تعكس رغبة في فرض هيمنة أحادية، حتى لو كان ذلك على حساب أقرب الحلفاء. هذه التهديدات، التي قد تبدو مبالغًا فيها، تكشف عن منطق إمبريالي يائس، يسعى من خلاله الولايات المتحدة لتعويض تراجعها الاقتصادي والعسكري بأفعال جريئة تهدف إلى إعادة تأكيد تفوقها.

في الوقت نفسه، كشف الصحفي سيمور هيرش عن تورط إدارة بايدن في تدمير أنابيب الغاز نورد ستريم عام 2022، في عملية ألقت الضوء على أساليب الإمبريالية الأمريكية. هذه العملية، التي استهدفت قطع إمدادات الغاز الروسي عن أوروبا، وخاصة ألمانيا، كانت تهدف إلى إبقاء القارة تحت التبعية الطاقوية والسياسية للولايات المتحدة. من خلال تدمير الأنابيب، أضعفت واشنطن الاقتصاد الألماني، الذي يعاني بالفعل من الركود الاقتصادي بانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2% في عام 2024، وفقًا لصحيفة *لوموند*. كما منعت ظهور شراكة اقتصادية أوروبية-روسية كانت قد تهدد بإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في أوراسيا، من جبال الأورال إلى الأطلسي.

حلف الناتو، الذي يُقدم كحصن لـ"الأمن الجماعي"، تحول إلى أداة ابتزاز تخدم المصالح الأمريكية. واصل ترامب مسيرة "الدولة العميقة" الأمريكية، مطالباً الدول الأوروبية بزيادة مساهماتها المالية في الحلف إلى 5% من موازناتها الوطنية، أي تريليونات الدولارات التي تُحول إلى خزينة أمريكية مدينة ومفلسة. هذه الضغوط المالية تهدف إلى إنقاذ اقتصاد أمريكي على شفا الانهيار، كما حذر إيلون ماسك، الذي توقع انهيارًا اقتصاديًا وشيكًا بسبب الارتفاع الجامح في خدمة الدين العام، التي تجاوزت 34 تريليون دولار بحلول عام 2025.


ألمانيا: خيانة تاريخية ورد فعل استراتيجي

تواجه ألمانيا، التي كانت تُعتبر حليفًا وفيًا للولايات المتحدة، اليوم خيانة تاريخية. كما يوضح جيد هين-سيلورا في مقاله بتاريخ 14 أبريل 2025، تشعر برلين بإحساس عميق بالتخلي إزاء السياسات العدوانية لإدارة ترامب. تهديدات ترامب بالانسحاب من حلف الناتو، الذي يعتمد بنسبة 70% على التمويل الأمريكي، أثارت ذعرًا بين القادة الأوروبيين، الذين يدركون أن انهيار الحلف سيغرق القارة في أزمة أمنية كبرى. علاوة على ذلك، تفاقمت الأزمة الاقتصادية في ألمانيا، التي تعاني من الركود للعام الثاني على التوالي، بسبب الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها ترامب على الصناعات الأوروبية، وخاصة قطاع السيارات الألماني.

ألمانيا الحديثة، التي شكلتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، هي إرث مباشر للاحتلال الأمريكي. فقد صيغ دستورها، ونظامها الفيدرالي، واقتصادها الرأسمالي، وحتى جهازها القضائي تحت تأثير واشنطن. ومع ذلك، تظهر هذه العلاقة الاستراتيجية، التي يرمز لها وجود 35 ألف جندي أمريكي على الأراضي الألمانية، علامات التصدع. وفقًا لاستطلاع رأي أجرته يوجوف في فبراير 2025، انخفضت شعبية الولايات المتحدة في ألمانيا من 50% إلى 33% في غضون ستة أشهر، مما يعكس شعورًا متزايدًا بالخيبة. كما عبر يوخن بالزولات، رئيس نادٍ ألماني-أمريكي، في تصريح لصحيفة *وول ستريت جورنال*، عن استيائه من "عداء" الولايات المتحدة وتدخلها في السياسة الأوروبية، خاصة في دعمها المزعوم لليمين المتطرف الألماني.

ردًا على ذلك، تستعد ألمانيا لعصر ما بعد أمريكا. دعا فريدريش ميرز، المستشار الالماني الحالي، إلى إنشاء نظام دفاعي أوروبي أكثر استقلالية لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة. كما أعلنت برلين عن دراسة لاستعادة احتياطياتها من الذهب المودعة لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، في خطوة رمزية لكنها ذات دلالة كبيرة تعبر عن تحدٍ لواشنطن. أخيرًا، كشف ميرز عن خطة طموحة لإعادة التسلح بقيمة تريليون يورو على مدى عشر سنوات، وإن كان هذا الرقم لم يُؤكد رسميًا بعد. هذه الإجراءات تعكس رغبة ألمانيا في التحرر من قبضة الولايات المتحدة وإعادة تعريف دورها في أوروبا الساعية إلى الاستقلالية.


سمير أمين وشيخوخة الرأسمالية

تقدم نظريات سمير أمين إطارًا تحليليًا قويًا لفهم هذه الديناميكيات. يرى أمين أن الرأسمالية، في مرحلتها الإمبريالية، دخلت مرحلة الشيخوخة، التي تتسم بتركز متزايد لرأس المال بين أيدي قلة من الشركات متعددة الجنسيات، واعتماد متزايد على المضاربة المالية بدلاً من الإنتاج الحقيقي. هذه الشيخوخة تجعل النظام عاجزًا عن تحقيق تقدم إنساني مستدام، بل وتشكل تهديدًا لبقاء البشرية ذاتها.

يقارن أمين بين ألمانيا واليابان، واصفًا إياهما بـ"التابعين اللامعين" للولايات المتحدة، حيث يشكلان معها ثالوثًا رأسماليًا حقيقيًا (الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان). على عكس فكرة الثالوث التقليدي المكون من أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان، يؤكد أمين على الدور المركزي لهذه القوى الثلاث في الحفاظ على الهيمنة الرأسمالية. ومع ذلك، يشير إلى أن ألمانيا، مثل إيطاليا وروسيا، لم تتمكن من الوصول إلى الحداثة الرأسمالية إلا من خلال الثغرات التي فتحتها إنجلترا وفرنسا. هذا التأخر التاريخي شكّل نمطًا خاصًا من الرأسمالية، تميز في ألمانيا ببرجوازية ضعيفة، عوّضت عنها الطموحات البروسية وشكل أوتوقراطي لإدارة الرأسمالية.

أدى هذا الهيكل إلى ظهور قومية ألمانية مشوبة بالعرقية، على النقيض من الأيديولوجيات العالمية الإنجليزية والفرنسية. هذه القومية، التي تفاقمت بسبب ضعف البرجوازية الألمانية، مهدت الطريق للانحراف الإجرامي للنازية. بعد كارثة الحرب العالمية الثانية، تبنت ألمانيا، بدعم من الولايات المتحدة، نموذج "الرأسمالية الراينية"، الذي دمج عناصر الديمقراطية الأنجلو-فرنسية-الأمريكية. ومع ذلك، كما يؤكد أمين، يظل هذا النموذج سطحيًا، خاليًا من جذور تاريخية عميقة، خاصة في ضوء قصر فترة جمهورية فايمار، التي كانت اللحظة الأكثر ديمقراطية في تاريخ ألمانيا.



ألمانيا في مواجهة الأزمة الرأسمالية

تواجه ألمانيا اليوم مفترق طرق تاريخي. الرأسمالية الراينية، التي غالبًا ما تُوصف بأنها نسخة "لطيفة" من الرأسمالية مقارنةً بالليبرالية المتطرفة الأنجلوسكسونية أو الدولتية الفرنسية، تعاني من نفس الأمراض التي تصيب نظيراتها: شيخوخة هيكلية تعزز التدمير على حساب التقدم. كما يشير أمين، وصلت الرأسمالية إلى حدودها التاريخية، ولم تعد قادرة على دعم التقدم الإنساني كما فعلت في مراحلها السابقة، بل أصبحت تهديدًا لبقاء البشرية.

في هذا السياق، تواجه ألمانيا تحديات كبرى. فتبعيتها للهيمنة الأمريكية، إلى جانب انخفاض سكاني (حيث لن يتجاوز وزنها السكاني خلال ربع قرن وزن فرنسا أو بريطانيا) وقدرة محدودة على الابتكار، تضعف موقعها. النظام التعليمي الألماني، رغم كفاءته في إنتاج منفذين متميزين، لا يشجع الإبداع، ويعتمد الاقتصاد الألماني بشكل كبير على الصناعات الكلاسيكية (الميكانيكا والكيمياء)، التي تحتاج إلى برامج حاسوبية مستوردة لتحديث مستواها.

في مواجهة هذه التحديات، يتصور أمين سيناريوهين محتملين لألمانيا. على المدى القصير، وتحت هيمنة العولمة الأمريكية، قد تواصل ألمانيا توسعها نحو الشرق، محولةً دولًا مثل التشيك وبولندا والمجر إلى نوع من "أمريكا اللاتينية الأوروبية". هذا الخيار، المدعوم بنظام ماستريخت واليورو، يعتمد على ديمقراطية منخفضة الجودة ووضع اقتصادي واجتماعي عادي. ومع ذلك، إذا أصرت الطبقة السياسية التقليدية، سواء المسيحية الديمقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية الديمقراطية، على السير في هذا الطريق المسدود، يتوقع أمين ظهور حركات شعبوية يمينية ذات نزعات فاشية، على غرار تجربة هايدر في النمسا أو برلوسكوني في إيطاليا.

على المدى الأطول، يرى أمين إمكانية لسيناريو أكثر إيجابية. إذا اتخذت دول مثل فرنسا أو روسيا المبادرة للعب دور "المحرك" التاريخي، كما فعلتا في الماضي، فقد تصبح ألمانيا جزءًا من مشروع أوروبي بديل. هذه الديناميكية، رغم صعوبتها في السياق الحالي، قد تعيد إحياء الحركات التقدمية في أوروبا المتوسطية والشمالية، التي أُجهضت بسرعة تحت وطأة الهيمنة النيوليبرالية.



خاتمة القسم الأول

الأزمة الهيكلية للرأسمالية، التي تفاقمت بسبب هزائم الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، عجلت بتفكك المراكز الإمبريالية. السياسات العدوانية لدونالد ترامب، إلى جانب تدمير أنابيب نورد ستريم بقرار من إدارة بايدن، كشفت عن رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على هيمنتها، حتى لو كان ذلك على حساب إضعاف حلفائها الأوروبيين. ألمانيا، التي تواجه خيانة تاريخية، بدأت تفكر في تحرر استراتيجي، يتجلى في مشروعها لاستعادة احتياطيات الذهب وتعزيز استقلالها العسكري.

تقدم نظريات سمير أمين إطارًا أساسيًا لفهم هذه الأزمة. شيخوخة الرأسمالية، التي تتسم بتركز رأس المال وتخليها عن الإنتاج الحقيقي لصالح المضاربة، لا تهدد الهيمنة الأمريكية فحسب، بل مستقبل النظام الرأسمالي بأسره. في هذا السياق، يمكن لألمانيا، رغم تناقضاتها الداخلية، أن تلعب دورًا حاسمًا في إعادة تعريف أوروبا، شريطة أن تتجاوز تبعيتها للولايات المتحدة وتستلهم تطلعات الشعوب إلى نظام عالمي أكثر عدالة.

يضع هذا القسم الأساس لتحليل أوسع، سيتم استكماله في القسمين التاليين، اللذين سيتناولان تداعيات هذه التحولات على أوروبا الشمالية والبدائل الممكنة في مواجهة الأزمة.


…………..

القسم الثاني: أوروبا الشمالية وتحديات التحرر من الهيمنة الإمبريالية



مقدمة: أوروبا الشمالية في مواجهة الشيخوخة الرأسمالية

في خضم الأزمة الهيكلية التي تعصف بالرأسمالية العالمية، تبرز أوروبا الشمالية كساحة حاسمة لفهم ديناميكيات التفكك الإمبريالي وإمكانيات التحرر من الهيمنة الأمريكية. هذه المنطقة، التي تتضمن دولًا مثل السويد، والنرويج، والدنمارك، وفنلندا، وهولندا، تمتاز بتاريخ طويل من المواقف المتشككة تجاه المشروع الأوروبي الخاضع للنفوذ الأطلسي، وبقدرتها على صياغة نماذج اقتصادية واجتماعية متميزة، كما في تجربة الدولة الرفاهية السويدية. ومع ذلك، فإن هذه الدول ليست بمنأى عن التحديات التي تفرضها شيخوخة الرأسمالية، حيث تواجه ضغوطًا متزايدة من النيوليبرالية الأمريكية وتداعيات السياسات العدوانية للولايات المتحدة، كما تجلت في تهديدات دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية باهظة وابتزاز موازنات الدول الأوروبية عبر حلف الناتو.

في هذا القسم الثاني، ندرس دور أوروبا الشمالية في مواجهة الأزمة الرأسمالية، مستندين إلى تحليلات سمير أمين حول شيخوخة النظام وتحدياته في المراكز الإمبريالية. نناقش كيف حافظت دول مثل السويد وفنلندا على مواقف حيادية نسبيًا في مواجهة الهيمنة الأطلسية إلى ما قبل عامين تقريبا، وكيف أثرت الضغوط النيوليبرالية على هذه الدول، خاصة بعد انهيار نموذج الدولة الرفاهية في السويد. كما نركز على التحديات التي تواجهها النرويج وهولندا، وكيف يمكن لهذه الدول أن تسهم في صياغة مستقبل أوروبي بديل، بعيدًا عن التبعية للولايات المتحدة. ندمج أيضًا السياقات الحديثة، كما ورد في مقال جيد هين-سيلورا (14 أبريل 2025)، الذي يبرز التوترات بين أوروبا والولايات المتحدة، ونربطها بنظريات أمين حول إمكانيات إعادة بناء أوروبا على أسس أكثر عدالة واستقلالية.



أوروبا الشمالية: إرث الحياد والتحديات النيوليبرالية

تتميز دول أوروبا الشمالية، بما فيها السويد، والنرويج، والدنمارك، وفنلندا، وهولندا، بتاريخ طويل من المواقف المتشككة تجاه المشروع الأوروبي في صيغته الأطلسية الحالية، التي تهيمن عليها الولايات المتحدة عبر حلف الناتو. هذه الدول، التي طورت نماذج اقتصادية واجتماعية متقدمة، مثل دولة الرفاهية السويدية، كانت في طليعة التجارب التي سعت إلى الجمع بين الرأسمالية والعدالة الاجتماعية. ومع ذلك، فإن هذه التجارب لم تكن محصنة ضد التحديات النيوليبرالية، التي فرضتها العولمة تحت الهيمنة الأمريكية، والتي تفاقمت مع سياسات ترامب العدوانية، بما في ذلك فرض رسوم جمركية بنسبة 20% على المنتجات الأوروبية، كما ورد في تقرير *لوموند*.

سمير أمين، في تحليله لأوروبا الشمالية، يشير إلى أن هذه الدول حافظت حتى وقت متأخر على مواقف متشككة تجاه المشروع الأوروبي الخاضع للنفوذ الأمريكي. السويد، على سبيل المثال، اختارت بحرية البقاء خارج حلف الناتو تحت قيادة أولاف بالمه، الذي سعى إلى تبني موقف عالمي محايد يعبر عنه أمين بوصفه "اتحاد سوفيتي متحضر". هذا الموقف، الذي جمع بين الدولتية والاشتراكية، قطع العلاقة بين السويد والديمقراطية الاجتماعية الأوروبية التقليدية، مما جعلها نموذجًا فريدًا في سياق أوروبا الشمالية. ومع ذلك، يلاحظ أمين أن هذا النموذج بدأ يتآكل مع انضمام السويد إلى المشروع الأوروبي وانزلاق ديمقراطيتها الاجتماعية نحو اليمين، في ظل خطاب يعلن نهاية عصر دولة الرفاهية.

في النرويج، يبرز إحساس قوي بالمساواة، نابع من تركيبة المجتمع المكون أساسًا من صغار الفلاحين والصيادين، بعيدًا عن الطبقة الأرستقراطية التقليدية الموجودة في السويد أو الدنمارك. هذا الإحساس دعم قوة الحركات اليسارية، مثل الحزب الشيوعي النرويجي (AKP)، وأسهم في مقاومة الإغراءات النيوليبرالية. ومع ذلك، فإن عضوية النرويج في الناتو، إلى جانب الثروة النفطية في بحر الشمال، التي غالبًا ما تكون مفسدة على المدى الطويل، تعيق هذه الاتجاهات الإيجابية. أما فنلندا، فقد حصلت على استقلالها بعد صراعات تاريخية، واستطاعت أن تحافظ على درجة من الحيادية، التي وصفها أمين بـ"الفنلندنة"، والتي كان يمكن أن تكون أساسًا لإعادة بناء أوروبي أكثر عدالة، لولا الضغوط الأطلسية التي أدمجتها في نظام اليورو وحدلكن الكارثة أنها ادمجتها في حلف الناتو .



السويد: من دولة الرفاهية إلى الانحدار النيوليبرالي

كانت السويد، تحت قيادة أولاف بالمه، نموذجًا للتجربة الاشتراكية الدولتية، التي سعت إلى تحقيق توازن بين الرأسمالية والعدالة الاجتماعية. هذا النموذج، الذي وصفه أمين بأنه يحمل طابعًا عالميًا وحياديًا، مكن السويد من لعب دور مميز في الساحة الدولية، متجنبةً الانخراط الكامل في الهيمنة الأطلسية. ومع ذلك، شهدت السويد تحولًا جذريًا مع انضمامها إلى المشروع الأوروبي، حيث تخلت تدريجيًا عن إرث دولة الرفاهية لصالح سياسات نيوليبرالية. هذا الانقلاب، كما يصفه أمين، يعكس نقاط ضعف هيكلية في التجربة السويدية، منها الاعتماد المفرط على الدور الشخصي لقادة مثل بالمه، والعزلة النسبية للمجتمع السويدي، التي جعلته عرضةً لاكتشاف العالم متأخرًا بعد ثورات 1968.

اليوم، تواجه السويد تحديات جمة في ظل الضغوط النيوليبرالية. الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، والتي وصفها إيمانويل ماكرون بأنها "وحشية ولا أساس لها" (لوموند)، تهدد الصناعات السويدية، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والتصنيع. رد فعل أوروبا، كما أشارت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، كان حذرًا ولكنه حازم، مع دراسة تدابير مضادة مثل فرض ضرائب على المنتجات الأمريكية. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل تستطيع السويد استعادة إرثها الحيادي والاشتراكي لتقاوم هذه الضغوط، أم ستستمر في الانزلاق نحو النيوليبرالية؟



النرويج: قوة المساواة وتحديات الثروة النفطية

النرويج، بتركيبتها الاجتماعية الفريدة، تمثل حالة خاصة في أوروبا الشمالية. غياب طبقة أرستقراطية تقليدية، إلى جانب اقتصاد يعتمد على صغار الفلاحين والصيادين، عزز إحساسًا قويًا بالمساواة، مما دعم الحركات اليسارية مثل الحزب الشيوعي النرويجي (AKP). هذا الإحساس مكن النرويج من مقاومة الإغراءات النيوليبرالية بدرجة أكبر من جيرانها. كما برزت الحركة الخضراء في النرويج، بقيادة المفكر يوهان جالتونج، كرائدة في الدعوة إلى الاستدامة والعدالة البيئية قبل انتشار هذه الأفكار في بقية أوروبا.

ومع ذلك، تواجه النرويج تحديات كبيرة. عضويتها في الناتو تربطها بالهيمنة الأمريكية، في حين أن الثروة النفطية في بحر الشمال، رغم أنها أتاحت رخاءً اقتصاديًا، تشكل خطرًا على المدى الطويل بسبب تأثيرها المفسد. هذه الثروة جعلت النرويج عرضةً للضغوط الخارجية، خاصة من الولايات المتحدة، التي تسعى إلى الاستفادة من مواردها عبر الابتزاز المالي لحلف الناتو. في هذا السياق، يبقى السؤال مفتوحًا حول قدرة النرويج على الحفاظ على استقلاليتها الاجتماعية والاقتصادية في مواجهة هذه التحديات.



فنلندا: الحيادية والإرث الثوري

فنلندا، التي نالت استقلالها بعد صراعات تاريخية خلال الثورة الروسية، تمثل حالة معقدة. كما يشير أمين، لم يكن استقلال فنلندا محل إجماع كما يُروج عادةً، حيث كانت تتمتع بدرجة من الاستقلال الذاتي داخل الإمبراطورية الروسية. ومع ذلك، فإن الطبقات الشعبية في فنلندا لم تكن غير مبالية ببرنامج الثورة الروسية، مما جعل الاستقلال لا يحل المشكلات الاجتماعية العميقة، التي استمرت حتى اندلاع الحرب الأهلية الداخلية، التي انتصرت فيها القوى الرجعية بدعم من ألمانيا الإمبراطورية والحلفاء.

بعد الحرب العالمية الثانية، أثبت استقلال فنلندا إيجابيته في مواجهة تدهور الاتحاد السوفيتي. "الفنلندنة"، كما يصفها أمين، كانت نموذجًا للحيادية يمكن أن يشكل أساسًا لإعادة بناء أوروبي أكثر عدالة، لولا الضغوط الأطلسية التي أدمجت فنلندا في نظام اليورو. ومع ذلك، يرى أمين أن استمرار وجود تحالف اليسار في فنلندا يعكس إمكانية الحفاظ على هذا الإرث الحيادي، مما يفتح الباب أمام مستقبل مختلف إذا نجحت فنلندا في مقاومة الضغوط النيوليبرالية. وبالتالي يمكن القول اليوم أن خروج فنلندا من حلف الناتو ضرورة وجودية تنموية ..



الدنمارك وهولندا: بين التبعية والإرث التاريخي

الدنمارك، التي تعتمد اقتصاديًا بشكل كبير على ألمانيا، تواجه تحديات نابعة من هذه التبعية. كما يشير أمين، فإن هذه التبعية تولد قدرًا من العصبية، كما يتضح من التصويتات المتكررة حول اليورو دون حسم. الديمقراطية الاجتماعية التقليدية في الدنمارك تبدو عاجزة عن تغيير هذا الواقع، بينما يظل "التحالف الأحمر-الأخضر" معزولًا نسبيًا. في هذا السياق، لا يتوقع أمين تحولات كبيرة من الدنمارك، التي تظل محصورة ضمن إطار التبعية الأوروبية.

أما هولندا، فهي حالة فريدة بفضل إرثها كواحدة من رواد الثورة البرجوازية في القرن السابع عشر. رغم صغر حجمها، حافظت هولندا على هوية كوزموبوليتانية إيجابية، تجسدت في مدينة أمستردام كمركز عالمي للثقافة والفكر. معهد الدراسات الاجتماعية ومدرسة أمستردام للبحث الاجتماعي يعكسان هذا الإرث. ومع ذلك، يشير أمين إلى أن هولندا، على المستوى الاقتصادي والمالي، تتطور في ظل الهيمنة الألمانية، مما يحد من قدرتها على قيادة تغيير جذري في أوروبا.


أوروبا الشمالية وإمكانيات المستقبل

في ظل السياسات العدوانية للولايات المتحدة، بما في ذلك تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية وابتزاز موازنات الناتو، تواجه أوروبا الشمالية خيارًا حاسمًا: إما الاستمرار في التبعية للهيمنة الأمريكية، أو السعي نحو استقلالية أكبر. تحليلات سمير أمين تشير إلى أن الإمكانيات الإيجابية تكمن في إرث الحيادية والديمقراطية الاجتماعية في دول مثل السويد وفنلندا، وفي الإحساس القوي بالمساواة في النرويج. ومع ذلك، فإن هذه الإمكانيات مهددة بالضغوط النيوليبرالية والاعتماد على الموارد الطبيعية، كما في النرويج.

رد الفعل الأوروبي على سياسات ترامب، كما أشار ماكرون وفون دير لاين، يعكس توازنًا بين الحزم والحذر. دراسة تدابير مضادة، مثل فرض ضرائب على المنتجات الأمريكية، تشير إلى رغبة أوروبية في استعادة بعض السيادة. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الجهود يتطلب إعادة النظر في النماذج الاقتصادية والسياسية، والعودة إلى الإرث التقدمي لأوروبا الشمالية، الذي يمكن أن يشكل أساسًا لمشروع أوروبي بديل.



خاتمة القسم الثاني

أوروبا الشمالية، بإرثها الحيادي وتجربتها الاجتماعية المتقدمة، تقف عند مفترق طرق في مواجهة الأزمة الهيكلية للرأسمالية. الضغوط النيوليبرالية، إلى جانب السياسات العدوانية للولايات المتحدة، تهدد بتقويض هذا الإرث، لكنها في الوقت ذاته تفتح المجال أمام إمكانيات جديدة. تحليلات سمير أمين تؤكد أن شيخوخة الرأسمالية تجعل النظام عاجزًا عن تحقيق التقدم، مما يستدعي إعادة بناء أوروبي على أسس أكثر عدالة. في القسم الثالث، سنستكشف الدور المحتمل للجنوب العالمي في صياغة عالم متعدد الأقطاب، وربط ذلك بإمكانيات تحرر أوروبا من الهيمنة الإمبريالية.

……………

القسم الثالث: الجنوب العالمي وآفاق عالم متعدد الأقطاب


مقدمة: الجنوب العالمي كمحرك للتغيير العالمي

في خضم الأزمة الهيكلية التي تعصف بالنظام الرأسمالي العالمي، ومع تفكك المراكز الإمبريالية تحت وطأة تناقضاتها الداخلية، يبرز الجنوب العالمي كقوة محتملة لإعادة تشكيل النظام العالمي. إن صعود دول مثل الصين وإيران وروسيا، إلى جانب حركات المقاومة في فلسطين واليمن ولبنان، يعكس تحولًا عميقًا نحو عالم متعدد الأقطاب، يتحدى الهيمنة الغربية التي قادتها الولايات المتحدة على مدى عقود. هذه التحولات، التي تأتي في سياق شيخوخة الرأسمالية كما وصفها سمير أمين، ليست مجرد رد فعل على تراجع الهيمنة الأمريكية، بل هي تعبير عن إرادة شعوب الجنوب العالمي لاستعادة سيادتها وبناء مستقبل قائم على العدالة والاستقلال.

في هذا القسم الثالث والأخير، نتعمق بدور الجنوب العالمي في مواجهة الأزمة الرأسمالية، مع التركيز على إسهامات دول مثل إيران والصين، وحركات المقاومة في تشكيل عالم جديد. نربط هذه التحولات بتحليلات سمير أمين حول شيخوخة الرأسمالية وإمكانيات التغيير الجذري، مع إدماج السياقات الحديثة، بما في ذلك التوترات بين أوروبا والولايات المتحدة كما ورد في مقال جيد هين-سيلورا (14 أبريل 2025). كما نناقش كيف يمكن لتجارب الجنوب العالمي أن تلهم أوروبا، وخاصة أوروبا الشمالية، للتحرر من الهيمنة الأمريكية، وكيف يمكن لهذه الديناميكيات أن تساهم في بناء نظام عالمي أكثر عدالة.


شيخوخة الرأسمالية وصعود الجنوب العالمي

في تحليلاته الرائدة، يرى سمير أمين أن الرأسمالية العالمية، في مرحلتها الإمبريالية المتقدمة، قد وصلت إلى حالة من الشيخوخة، حيث أصبحت عاجزة عن تحقيق تقدم إنساني مستدام. هذه الشيخوخة تتجلى في تركز رأس المال بين أيدي قلة من الشركات متعددة الجنسيات، وتحول الاقتصادات الغربية إلى اقتصادات مالية تعتمد على المضاربة بدلاً من الإنتاج الحقيقي. هذا التحول، الذي تفاقم بسبب السياسات النيوليبرالية، أدى إلى تفاقم اللامساواة، وتآكل القاعدة الإنتاجية، وزيادة الاعتماد على نهب ثروات الجنوب العالمي.

في هذا السياق، يبرز الجنوب العالمي كمحرك للتغيير. دول مثل الصين، التي طورت نموذجًا اقتصاديًا قائمًا على الاستقلال الوطني والتخطيط الاستراتيجي، وإيران، التي تحدت العقوبات الغربية من خلال الاعتماد على مواردها البشرية والعلمية، أظهرتا أن السيادة الوطنية هي السبيل لمواجهة الهيمنة الإمبريالية. هذه الدول، إلى جانب روسيا والهند، تعمل على بناء تحالفات اقتصادية وعسكرية، مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية ومنظمة شنغهاي للتعاون، التي تهدف إلى تقويض السيطرة الأمريكية على الأسواق العالمية وتقليص نفوذ الدولار كعملة احتياط عالمية.


إيران: نموذج المقاومة والتنمية المستقلة

إيران، كقائدة لمحور المقاومة، تمثل نموذجًا بارزًا للجنوب العالمي في مواجهة الهيمنة الإمبريالية. رغم العقوبات الاقتصادية والعسكرية المفروضة عليها منذ عقود، حققت إيران إنجازات مذهلة في مجالات العلوم والتكنولوجيا. على سبيل المثال، يساوي عدد خريجي الهندسة في إيران نظراءهم في الولايات المتحدة، وهي إحصائية تعكس التزام النظام الإيراني بتطوير شعبه، على عكس الروايات الدعائية التي تروجها الوحدة 8200 الصهيونية، والتي تصور إيران كدولة متخلفة تسيطر عليها "سلطة الملالي".

هذا النجاح ليس مجرد إحصائية، بل دليل على رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء اقتصاد وطني قوي ومستقل. إيران، التي طورت قدراتها في التخصيب النووي المشروع بموجب القانون الدولي، أثبتت قدرتها على مواجهة التحديات الإمبريالية من خلال الاعتماد على مواردها الداخلية. هجومها على قاعدة العديد في يوليو 2025، حيث دمر صاروخ باليستي إيراني قبة اتصالات ورصد تُستخدم من قبل القوات الأمريكية، كشف عن عجز التكنولوجيا الأمريكية وأثبت أن إيران ليست مجرد قوة إقليمية، بل قوة عالمية قادرة على تغيير قواعد اللعبة.

إن دعم إيران لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن ليس مدفوعًا بدوافع دينية، كما تحاول الوحدة 8200 تصويره، بل هو تقاطع للمصالح القومية مع تطلعات شعوب المنطقة للتخلص من الاحتلال الصهيوني والهيمنة الأمريكية. هذا المحور، الذي يضم دولًا وشعوبًا تسعى للتحرر، يعكس إمكانية بناء نظام عالمي جديد، يقوم على مبادئ العدالة والمساواة.



الصين: قوة اقتصادية ومحرك للتعددية القطبية

الصين، بصفتها القوة الاقتصادية الصاعدة، تمثل ركيزة أساسية في صياغة عالم متعدد الأقطاب. من خلال مبادرة الحزام والطريق، التي تربط أكثر من 140 دولة بشبكة من المشاريع الاقتصادية والبنية التحتية، قدمت الصين نموذجًا بديلًا للتعاون الدولي، بعيدًا عن النهج الإمبريالي القائم على النهب والسيطرة. هذه المبادرة، التي تتيح لدول الجنوب العالمي فرصًا للتنمية المستقلة، تقوض النفوذ الاقتصادي الأمريكي وتعزز السيادة الوطنية للدول المشاركة.

على عكس الولايات المتحدة، التي تعتمد على الدولار كأداة للهيمنة، طورت الصين اقتصادًا يعتمد على الإنتاج الحقيقي والابتكار التكنولوجي. هذا النموذج، الذي يجمع بين التخطيط الدولتي والاستثمار في البحث العلمي، مكن الصين من تحقيق نمو اقتصادي مستدام، مما جعلها منافسًا حقيقيًا للولايات المتحدة. كما أن تعاون الصين مع روسيا وإيران في إطار منظمة شنغهاي للتعاون يعزز من قدرة الجنوب العالمي على مواجهة الهيمنة الغربية، سواء عبر تقليص استخدام الدولار في التجارة الدولية أو من خلال بناء تحالفات عسكرية واقتصادية مستقلة.



حركات المقاومة: إرادة الشعوب في مواجهة الإمبريالية

حركات المقاومة في فلسطين واليمن ولبنان والعراق تشكل جزءًا لا يتجزأ من صعود الجنوب العالمي. هذه الحركات، التي تدعمها إيران، ليست مجرد مقاومة عسكرية، بل هي تعبير عن إرادة الشعوب للتحرر من الاحتلال الصهيوني والهيمنة الأمريكية. في فلسطين، أثبتت المقاومة قدرتها على الصمود في وجه الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني، مدعومًا من الولايات المتحدة ودول الناتو. في اليمن، تحدت قوات أنصار الله العدوان السعودي-الأمريكي، محققةً انتصارات عسكرية كشفت عن هشاشة القوى الإمبريالية.

هذه الحركات، كما يشير أمين، ليست مجرد ردود فعل دفاعية، بل هي جزء من حركة تاريخية أوسع تهدف إلى تفكيك النظام الإمبريالي. إنها تعكس تحولًا في موازين القوى، حيث أصبحت شعوب الجنوب العالمي قادرة على فرض معادلات ردع عسكرية واقتصادية. هذا التحول، الذي يتزامن مع تراجع الهيمنة الأمريكية، يفتح المجال أمام إمكانيات جديدة لبناء عالم لا يخضع لسيطرة الدولار أو النفوذ العسكري الغربي.



أوروبا والجنوب العالمي: إمكانيات التعاون

في ظل الأزمة الهيكلية للرأسمالية، يمكن لتجارب الجنوب العالمي أن تلهم أوروبا، وخاصة أوروبا الشمالية، لإعادة النظر في تبعيتها للولايات المتحدة. كما أشار جيد هين-سيلورا في مقاله، فإن التوترات بين أوروبا والولايات المتحدة، التي تفاقمت بسبب سياسات ترامب العدوانية، دفعت دولًا مثل ألمانيا إلى التفكير في بناء نظام دفاعي أوروبي مستقل. هذا التوجه، رغم محدوديته في الوقت الحالي، يمكن أن يستلهم من تجارب الجنوب العالمي، حيث أثبتت دول مثل إيران والصين أن الاستقلال الوطني هو السبيل لمواجهة الهيمنة الإمبريالية.

سمير أمين، في تحليله لأوروبا الشمالية، يرى أن دول مثل السويد وفنلندا، بإرثهما الحيادي والديمقراطي، لما قبل سنتين ، يمكن أن تلعب دورًا في إعادة بناء أوروبي بعيد عن الهيمنة الأمريكية. هذا الدور يتطلب تعاونًا مع الجنوب العالمي، الذي يقدم نماذج بديلة للتنمية والسيادة. على سبيل المثال، يمكن لأوروبا الشمالية أن تستفيد من مبادرة الحزام والطريق الصينية لتطوير بنيتها التحتية، بدلاً من الاعتماد على التمويل الأمريكي عبر الناتو. كما يمكن لتجربة إيران في مواجهة العقوبات أن تلهم أوروبا لتطوير اقتصادات وطنية مستقلة، بعيدًا عن السيطرة المالية الأمريكية.



تحديات بناء عالم متعدد الأقطاب

رغم الإمكانيات الهائلة التي يقدمها الجنوب العالمي، فإن بناء عالم متعدد الأقطاب يواجه تحديات كبيرة. أول هذه التحديات هو استمرار العدوان الإمبريالي، سواء عبر العقوبات الاقتصادية، كما في حالة إيران، أو من خلال الحروب بالوكالة، كما في اليمن وسوريا. هذه الاستراتيجيات تهدف إلى إضعاف الدول الوطنية ومنعها من تحقيق الاكتفاء الذاتي. كما أن الدعاية الغربية، بقيادة وحدات مثل الوحدة 8200 الصهيونية، تسعى إلى تشويه صورة دول الجنوب العالمي، تصويرها كدول متخلفة أو "مارقة" لتبرير العدوان ضدها.

تحدٍ آخر يكمن في الانقسامات الداخلية داخل الجنوب العالمي. على الرغم من التقدم المحرز في بناء تحالفات مثل منظمة شنغهاي، فإن الاختلافات في الأولويات الوطنية والاستراتيجيات الاقتصادية قد تعيق التنسيق الفعال. على سبيل المثال، بينما تركز الصين على التنمية الاقتصادية، تهتم إيران بتعزيز محور المقاومة العسكري. هذه الاختلافات تتطلب جهودًا كبيرة لتوحيد الرؤى وصياغة استراتيجية مشتركة.



الخاتمة العامة: نحو عالم جديد

إن الأزمة الهيكلية للرأسمالية، التي تفاقمت بسبب هزائم الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وسياساتها العدوانية تجاه حلفائها الأوروبيين، كما تجلت في تدمير أنابيب نورد ستريم وتهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية، كشفت عن هشاشة الهيمنة الأمريكية. في هذا السياق، يبرز الجنوب العالمي كقوة محركة للتغيير، من خلال تجارب دول مثل إيران والصين وحركات المقاومة التي تتحدى النظام الإمبريالي. هذه التجارب، التي تعكس إرادة الشعوب للتحرر، تقدم نموذجًا بديلًا يمكن أن يلهم أوروبا، وخاصة أوروبا الشمالية، لإعادة النظر في تبعيتها للولايات المتحدة.

تحليلات سمير أمين توفر إطارًا نظريًا لفهم هذه التحولات. شيخوخة الرأسمالية، التي تجلت في تراجع الإنتاج الحقيقي وزيادة الاعتماد على المضاربة المالية، تهدد ليس فقط الهيمنة الأمريكية، بل مستقبل النظام الرأسمالي بأسره. في هذا السياق، يصبح السؤال المحوري: هل ستتمكن شعوب الجنوب العالمي، بالتعاون مع القوى التقدمية في أوروبا، من صياغة نظام عالمي جديد قائم على العدالة والمساواة؟ الإجابة تكمن في صمود هذه الشعوب وإنجازاتها، التي تثبت أن الكذب والخيانة، كما تجسدت في أدوات مثل تنظيم مجاهدي خلق والكيان الصهيوني الابادي المارق ومحميات الخليج الصهيو أمريكية ، لن تكون كافية لإيقاف مسيرة الاستقلال والتقدم.